صفحات ذات صلة

كتبوا في السينما

 

جعل ناصر والسادات وجهين لعملة واحدة‏!‏

قـال لــي‏:‏ أرجـــوك ساعدني أن أجلس مع نفسي‏!‏

‏ بقلـم‏:‏ نصـر القفـاص 

أذكر أن لقائي الأول مع الفنان‏'‏ المبدع‏'‏ أحمد زكي كان هاتفيا‏..‏ يومها طلبته لتحديد موعد‏..‏ وبدا لي أنه كان في لحظة سكون‏..‏ فهو بحر هائج‏-‏ غالبا‏-‏ ونصف بركان ـ أحيانا ـ إذا جاز التعبير‏..‏ فجاءت إجابته لطيفة وتحمل معاني الود‏..‏ وأذكر أنني قلت له بلهجتنا العامية المصرية‏:‏ أنا مش عارف أعثر عليك‏..‏ تعبت كتير حتي أمسك بصوتك عبر أسلاك الهاتف‏'!!‏

أجابني بصوت كانت كلماته خليطا من الشجن والجدية‏:'‏ وحياتك إذا عترت علي وأمسكتني‏..‏ ساعدني أقعد مع نفسي‏!‏

ضحكت بصوت عال‏..‏ لكنه استقبل رد فعلي بفتور واكتفي بقوله‏:‏ ياريت نكون علي اتصال وأتمني أن نجد معا لحظة نجلس فيها مع‏'‏ أحمد زكي‏'!!‏
انتهت المكالمة وتملكتني دهشة غريبة لم أعرف سرها‏..‏ وبعد قليل فكرت‏..‏ وقررت أن أتربص به حتي ألتقيه‏..‏ فرغم أنني لم أحترف الكتابة في صفحات الفن إلا أن أساتذتي علموني البحث عن حوار صعب فهذا هو المثير‏..‏ وباعتباري تلميذا نجيبا في مدرسة‏'‏ عشاق الصحافة‏'‏ حرصت علي التقدم لهذه الامتحانات‏..‏ وكان يثيرني أنها بلا مناهج ولا مقررات‏..‏ وأسئلتها إن تشابهت أو تكررت فلا يجوز بالضرورة أن تكون الإجابات واحدة‏..‏ وأذكر أن سبب بحثي عن‏'‏ ناصر‏56'‏ لأحاوره‏..‏ ما سمعته عن عزمه إنتاج فيلم عن‏'‏ أنور السادات‏'..‏ ولحظتها تفجرت علامات استفهام وتعجب كثيرة في رأسي‏!!!‏ وما أروع هذه العلامات إذا فرضت نفسها علي الموضوع والشخص الذي تبحث عنه لتحاوره‏.‏

عبثا حاولت أن أعثر عليه مرة أخري عبر الهاتف‏..‏ وفشلت محاولاتي فضبطتني متلبسا بإطلاق ضحكة عالية لفتت نظر زوجتي وأولادي الذين كانوا يحيطون بي غير مكترثين بما أفعل قبل أن تدهشهم ضحكتي غير المبررة‏..‏

وبعد هذه الواقعة بأيام جاءني صوت الصديق الناقد الكبير‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ رئيس الرقابة علي المصنفات الفنية‏-‏ حاليا‏-‏ وسألني إذا كان عندي وقت يوم الجمعة القادمة‏..‏ واستفسرت منه عن السبب‏..‏ فإذا به يلقي في أذني مفاجأة قائلا‏:‏ الدكتور‏'‏ فاروق التلاوي‏'‏ محافظ البحيرة وجه دعوة للفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ مع أسرة فيلم‏'‏ ناصر‏56‏ للمشاركة في احتفالات المحافظة بيومها الوطني‏..‏ ودون مناقشة أو تفكير كان ردي بالإيجاب‏.‏

فإذا بالصديق‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ متمسكا بأن نلتقي في ضاحية‏'‏ المهندسين‏'..‏ قرب منزل‏'‏ أحمد زكي‏'‏ الذي سنتوجه إليه لنصحبه معنا أو يصحبنا معه في سيارته‏.‏ وهنا قلت‏:‏ ولماذا لانسافر معا وهو يسبقنا أو يلحق بنا في سيارته‏.‏ فانفجر الصديق‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ ضاحكا وقال‏:‏ كده إحنا أكيد‏'‏ حنروح‏'..‏ لكن مجيء‏'‏ أحمد زكي‏'‏ مسألة مشكوك فيها وغير مضمونة‏!!‏

سألته عن السبب‏..‏ فأجابني موضحا‏:'‏ أحمد زكي‏'‏ ابن اللحظة التي يعيشها‏..‏ ونحن لا نضمن إن كانت هذه اللحظة سعيدة أو حزينة‏..‏ وفي الحالتين يمكن أن يسعي للاحتفال بسعادته أو الانزواء علي نفسه للهروب داخلها من أحزانه‏!!‏ ومهمتنا أن نحاصره ونقبض عليه تلبية لرجاء صديقنا الدكتور‏'‏ فاروق التلاوي‏'..‏ وحدث أن نفذنا الخطة وأطبقنا الحصار علي‏'‏ ناصر‏56'‏ الذي شاء أن يكون‏'‏ السادات‏'‏ ـ أيضا ـ
بعد استقباله لنا وإصراره علي تناول الشاي‏-‏ باعتبارنا نحن معشر المصريين‏-‏ عشاق شاي ونحب الكلام علي ضفاف هذا الشاي‏!‏

قلت للفنان‏'‏ أحمد زكي‏':‏ منزلك رائـع وديكوره رفيع المستوي‏..‏ فلماذا تنفق أموالك علي السكن في الفنادق‏!‏

وبعد ابتسامة أجابني قائلا‏:‏ في الفندق يستقبلك موظفوه بابتسامة وإعلان حالة الطوارئ لتلبية جميع طلباتك‏..‏ وفي الغرفة تجد وردة وقطعة شيكولاته فوق السرير مع ورقة تتمني لك نوما سعيدا وأحلاما هادئة‏..‏ أو نوما هادئا وأحلاما سعيدة‏!!‏ وليس هذا هو المهم رغم سعادتي به‏..‏ لأن الأكثر أهمية أنني في الفندق أشعر بأنني لست وحدي‏..‏ لكنني في بيتي أشعر بغربة إلي درجة تكاد تخنقني‏..‏ وأضاف قائلا‏:'‏ تعرف إنني أتنفس البشر ولا أتنفس الهواء‏'!!‏

وتدخل‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ مقاطعا راجيا أن نتحرك ونتكلم في السيارة‏..‏ فالطريق طويل‏.‏

وتخيلت أنني انفردت بالفرصة والفريسة اللذين كنت أبحث عنهما‏..‏ فإذا بالعكس صحيح‏..‏ فهذا الذي انفرد بي وبدأ يتكلم ويتدفق‏..‏ وفي لحظات ينفعل كموج البحر في يوم عاصف وممطر‏..‏ ثم ينقلب كلامه إلي نسمة في عز الصيف‏..‏ وبين الرقة والعذوبة والحسم الصارم‏..‏ بل والغاضب بعض الشيء‏..‏ كان يحكي عن حلمه وقلقة تجاه شخصية‏'‏ أنور السادات‏'‏ التي يستعد لتقمصها‏..‏ وكنت أعده للحديث عن خلفيات وتفاصيل ما تعرض له في كواليس فيلم‏'‏ ناصر‏56'.‏

وحدثني عن يوم أن زار الرئيس‏'‏ حسني مبارك‏'‏ الاستديو الذي يجري فيه تصوير الفيلم‏..‏ وذكر لي أن زملاءه من الفنانين توجهوا لمصافحة الرئيس‏'‏ مبارك‏'‏ لكنه اكتفي بالوقوف دون حراك‏..‏ وعندما نادي عليه وزير الإعلام‏'‏ صفوت الشريف‏'‏ لكي يصافح الرئيس‏..‏ انشغل الفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ في تبديل ملابسه‏..‏ واتجه نحو الرئيس‏'‏ مبارك‏'‏ قائلا‏:‏ عفوا فخامة الرئيس‏..‏ فقد كنت قبل دقائق‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ الذي لا أعتقد أنه كان يمكن أن يجري لمصافحة أحد‏..‏ بل كنا جميعا كأمة نهرول نحوه ونصافحه‏..‏ وهنا ضحك‏'‏ الرئيس مبارك‏'‏ وقال له‏:'‏ عندك حق يا أحمد‏'!!‏

وقبل نهاية جولة الرئيس‏'‏ مبارك‏'‏ أصر علي العودة إلي الاستديو الذي يشهد تصوير فيلم‏'‏ ناصر‏56'‏ واكتفي بإشارة للفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ من بعيد‏-‏ أي للرئيس‏'‏ جمال عبد الناصر‏'-‏ وقال له‏'‏ خلي بالك منا يا ريس إحنا أمانة في رقبتك‏!!‏ وضحك المحيطون‏..‏ إلا‏'‏ أحمد زكي‏'‏ فقد استقبل الكلمات علي أنها موجهة لشخص الزعيم الراحل الذي كان يعيش تحدياته متقمصا شخصيته‏.‏

ودون أن أطرح أسئلة راح يتحدث عن الضجة التي واكبت إعلانه عن أداء دور الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ وانقسام بعض الكتاب علي هذا التوجه‏..‏ فبعضهم كان يرفض الفكرة من منظور انحياز لهذا الرئيس أو ذاك‏..‏ أي علي أساس سياسي‏..‏ وهناك آخرون اعتبروا‏'‏ أحمد زكي‏'‏ ـ كما قال لي ـ يحاول أن يتفلسف وأكدوا صعوبة اقترابه من شخصية‏'‏ أنور السادات‏'‏ بقدر نجاحه في تقديم‏'‏ ناصر‏56'.‏

ودون أن أطرح أسئلة‏..‏ كان حواري الصحفي يتواصل علي لسانه‏..‏ فهو يقدم إجابات عن الاستفهامات الكثيرة التي كنت أحملها‏..‏ وكانت دموعه تنساب عندما يتذكر أصدقاء رحلوا وخاصة عندما توقف خاشعا أمام اسم الناقد الراحل‏'‏ سامي السلاموني‏'‏ الذي يري في رحيله خسارة فادحة‏..‏ فهو كان بالنسبة له‏'‏ الفنار‏'‏ الذي يهدي سفينة‏'‏ أحمد زكي‏'‏ إلي طريقها في عرض البحر رغم أي عواصف‏..‏ وكان صارما معه إذا ذهب لمغامرة فنية أقل من مستواه‏..‏ أولم يحسب عواقبها‏.‏

وحدثني الفنان المبدع‏'‏ أحمد زكي‏'‏ عن مشروعاته الفنية الكثيرة والكبيرة التي يتمني تنفيذها‏..‏ واستعاد ذكرياته أيام الشباب‏..‏ وحكايته مع سلسلة أفلامه التي حققت أرقاما قياسية في المشاهدة والجدل الذي ثار حول عناوين أفلامه لاسيما أنها كانت تحمل اسم البطل‏..‏ مثل‏'‏ أبو الدهب‏'‏ و‏'‏ كابوريا‏'‏ و‏'‏ مستر كاراتيه‏'..‏ قبل أن يصبح هو نفسه‏'‏ ناصر‏56'‏ ثم‏'‏ أنور السادات‏'..‏ وشعرنا بأن السيارة خدعتنا وكأنها اختصرت الطريق أو التهمته بسرعة لم أتمناها من جانبي علي الأقل‏.‏

وصلنا إلي مدينة‏'‏ دمنهور‏'‏ في قلب دلتا مصر وهي عاصمة محافظة‏'‏ البحيرة‏'..‏ فإذا بالفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ يقترح علينا أن نواصل الرحلة إلي مدينة الاسكندرية‏..‏ ودعنا من الاحتفال الذي غادرنا القاهرة لحضوره‏..‏ وهو نجم نجومه بكل تأكيد‏..‏ وصرخ‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ وذكرني بما قاله في بداية الرحلة موضحا أننا ما لم نكن معه‏..‏ كان سيفعلها ويذهب للإسكندرية وربما قضي فيها ساعات أو أياما‏..‏ فالمهم عنده أن يعيش اللحظة كما يخطر علي باله‏.‏

هنا فقط قلت له‏:‏ الآن عرفت معني ما سبق أن قلته لي في الهاتف‏:'‏ وحياتك إذا عترت علي وأمسكتني‏..‏ ساعدني أقعد مع نفسي‏'!!‏

صرخ‏'‏ أحمد زكي‏':‏ هو أنت اللي أنا قلت لك كده‏..‏ تصدق بعد انتهاء المكالمة فكرت فيها وعاتبت نفسي‏..‏ وتمنيت لو كنت أعرف رقم هاتفك لأعتذر لك‏!!‏

أجبته‏:‏ تصدق أنت أن هذه الجملة هي التي حرضتني علي اقتناص هذه الفرصة التي أتاحها لي‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ لأرافقكما في هذه الرحلة‏..‏ فضحك من قلبه قائلا‏:‏ الحمد لله أنني وأنت نجحنا في أن نعثر علي‏'‏ أحمد زكي‏'‏ ونقعد معاه وقت ياريت يكون لطيف‏'!!‏

واستكملت نصف الحوار في رحلة العودة‏..‏ وبدأته بكتابة سؤال كان قد وجهه أحد الشباب لمحافظ‏'‏ البحيرة‏'‏ الذي كان يجلس علي منصة إلي جانب الفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ قائلا له‏:'‏ ما هو شعورك يا سيادة المحافظ وأنت تجلس إلي جوار الزعيم‏'‏ جمال عبد الناصر‏'..‏ ودوت الضحكات في القاعة‏.‏

أصر المحافظ علي الإجابة وتحدث عن اعتزازه وفخره بأن يجلس إلي جانب الرئيس‏'‏ جمال عبد الناصر‏'..‏ وقاطعه‏'‏ أحمد زكي‏':‏ إوعي تقول‏'‏ الراحل‏'!!‏

بعد أن أنهي المحافظ حديثه‏..‏ تقدمت فتاة من الذين حضروا الندوة التي عقدت عقب انتهاء عرض الفيلم وسألت‏'‏ أحمد زكي‏':‏ ماذا يقول الرئيس‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ لسيادة محافظ‏'‏ البحيرة‏'!‏

نظر الفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ تجاه المحافظ لفترة من الوقت بدت طويلة‏..‏ فرضت صمتا رهيبا علي جميع الحاضرين‏.‏

ثم بدأ يتحدث قائلا‏:'‏ أبناء محافظة‏'‏ البحيرة‏'‏ أولادي‏..‏ زي كل أولاد مصر يا‏'‏ فاروق‏'‏ ـ هكذا دون ألقاب ـ عايزك تهتم بيهم وسأزوركم مرة ثانية لأتابع أحوالكم بنفسي‏'.‏

ولحظتها شعر الجميع بأن‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ هو الذي كان يتكلم‏..‏ فإذا ببعض الحضور يضحك‏..‏ وآخرين أخذتهم نوبة بكاء‏.‏

انتهت الندوة واللقاء‏..‏ وفي طريق العودة أخذ حواري مع‏'‏ أحمد زكي‏'‏ اتجاها آخرا‏!!‏

كان علينا أن نتقاسم الرأي والتفسير لإصراره علي تقديم شخصية‏'‏ أنور السادات‏'‏ وتأكيده علي أنه إذا لم يجد جهة إنتاج‏..‏ سيقوم بمغامرة إنتاجه مهما كلفه الفيلم من نفقات والمغامرة من أهوال ومخاطر‏.‏

وشرح‏'‏ أحمد زكي‏'‏ رؤيته فقال‏:‏ بعض النقاد يخلطون بين دور الفنان وموقفهم من النموذج الإنساني الذي يجسده‏..‏ فما بالك لو كان شخصا معلوما بالضرورة وتبلورت تجاه هذه الشخصية آراء‏..‏ بل مواقف‏..‏ وبالتأكيد إذا كنت بصدد تناول شخصية تاريخية اشتهرت وأصبحت معروفة بقدرتها علي أن تكون جادة‏..‏ بمعني أنها شخصية تجيد صنع التاريخ وترويض أمواجه‏..‏ فلا بد أن يكون الخلاف جائزا‏..‏ لكن غير مقبول أن تستمر عقلية القبيلة تحكمنا‏..‏ فهذه ثقافة تبخرت من الدنيا‏..‏ فهذا عصر لا يصلح فيه احتكار حقيقة‏..‏ ولا تلوينها‏..‏ لا يجوز أن تتخيل أنك قادر علي فرض وصاية علي أحد‏..‏ وإيماني بهذا التطور فضلا عن ثقتي في قدراتي كفنان هما اللذان يدفعاني للإقدام علي هذه الخطوة‏..‏ لأنني لو اخترت أن أتقمص تجسيد الشخصيات التي أحبها فقط وقبول أو رفض الأدوار التي ترضي النقاد وأهل السياسة‏..‏ ما تقدمت خطوة ولا كنت الفنان الذي تقدره جماهيره‏.‏

وكانت درجة حرارة كلامه ترتفع‏..‏ لتفشل معها كل مساعي ومحاولات‏'‏ علي أبو شادي‏'‏ في تبريدها‏..‏ لكنه صمت فجأة وطلب من السائق أن يتوقف ويعود للخلف‏..‏ ولم يهتم بدهشتنا‏..‏ كما لم يرد علي أسئلتنا‏..‏ لكن عندما واجهت السيارة مقهي علي الطريق نزل دون أن يدعونا وجلس علي مقعد في زاوية‏..‏ وتحول إلي تمثال‏..‏ شاخصا عينيه صوب مواطن كان يجلس علي المقهي ذاته‏..‏ وأمامه فنجان قهوة وفي فمه‏'‏ الشيشه‏'..‏ وللحقيقة كان مشهدا مثيرا ولافتا للنظر‏..‏ فهذا الشخص تكوين إنساني غير معتاد والحالة التي يجلس عليها تدعوك للتأمل‏.‏

كل هذا ليس مهما‏..‏ لأن المهم‏..‏ كيف التقطته عينا الفنان‏'‏ أحمد زكي‏'‏ من نافذة السيارة التي كانت تنطلق كالسهم‏..‏ بينما كان هو في حالة‏'‏ كلام صاخب‏'!!‏ وفي لحظات‏..‏ فهمنا أنه يمتص هذه الملامح في صمت ووضح تضامننا معه رغما عن أنفنا‏..‏ وبعد فترة من الوقت اتجه‏'‏ أحمد زكي‏'‏ نحو الشخص الذي عاش لفترة يراقبه‏..‏ وراح يداعبه بعد أن صافحه فضحك من قلبه‏..‏ ثم نقله إلي حديث شجن وحزن لدرجة أنه جعله يبكي‏!!‏ وبعد هذه التجربة ركبنا السيارة التي لم يصبح مسموعا داخلها غير صوت‏'‏ موتورها‏'‏ الذي كان‏'‏ يهدر‏'..‏ بينما كلنا سكوت‏..‏ حتي وصلنا إلي باب العمارة التي تقطنها هذه الحالة الإنسانية والفنية الفريدة والشهيرة باسم‏'‏ أحمد زكي‏'!!*‏ 

فصـل مـن كتـاب "الساعة تدق صفر" ــ تحت الطبع

الأهرام العربي بتاريخ 2 أبريل 2005

 

ملف أحمد زكي

أحمد زكي يعود إلى القاهرة لاستكمال علاجه فيها

أحمد زكي أستاذ يحلم النجوم بالوقوف أمامه

حكاية صراع الامبراطور مع الالام في الغربة

الفنانون العرب والمصريون يلتفون حول أحمد زكي

محمد هنيدي:أحمد زكي مقاتل مملوء بالإيمان والتفاؤل

تصوير الضربة الجوية بعد الشفاء مباشرة

مديرة منزل احمد زكي تبحث له عن زوجة

ملف أحمد زكي

حجم سعادتنا بابداعك لن يداوي جرحنا لفراقك.. أحمد زكي‏..‏شكرا

بشير حسن

صور لأحمد زكي

كل شيء عن أحمد زكي

شعار الموقع (Our Logo)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انهض أيها النائم في هذا الصندوق‏,‏ انظر حولك‏,‏ آلاف الأيادي تمتد إليك‏,‏ وجوه لا نعرفها‏,‏ وأخري لا يعرفها سواك‏,‏ مد يدك‏,‏ فطالما امتدت إليهم‏,‏ افتح عينيك‏,‏ قل لنا من هؤلاء؟ هذه سيدة عجوز تناديك‏,‏ وذاك شاب جاء من أقاصي الصعيد ليتحدث إليك‏,‏ وتلك أرملة جاءتك من بلدتك في الزقازيق‏,‏ إنها جارة والدتك‏,‏ وواحدة من اللواتي شملتهن بعطفك‏,‏ انهض أيها النائم في الصندوق‏,‏ ألا تسمع من حولك؟ لماذا تغط في النوم بهذه الطريقة غير المعهودة؟ هل بذلت مجهودا في التصوير بالأمس؟ هل تشعر بالإرهاق؟ رد‏..‏ أحمد‏...‏ أحمد؟

ما هذا؟ هل استسلمت؟ لا تقل نعم؟ انهض فأنت المثابر الصابر‏,‏ انهض فأنت المحارب منذ أن وطأت قدمك المغموسة في طمي الشرقية أسفلت العاصمة الملتهب‏,‏ أفق‏...‏ أحمد؟ انهض؟ إنها أزمة من أزمات كثيرة اجتزتها‏,‏ قف علي قدميك‏,‏ ألا تتذكر البلهارسيا التي هزمتها؟ ألا تتذكر ضلوعك التي تكسرت جميعها وعدت إلي عملك وجمهورك؟ السرطان ليس أقوي منك‏,‏ تقاومه منذ عام وانتصرت عليه‏,‏ أحمد‏..‏ انهض‏,‏ حليم ينتظرك في البلاتوه‏,‏ ما هذا؟ لا صوت ينبعث من الصندوق‏,‏ لا حركة‏,‏ لا استجابة‏,‏ أحمد‏...‏ أحمد‏...‏ هل استسلمت؟ تكلم‏..‏ لن نلومك‏,‏ لقد انبري جسدك في المقاومة فصرت النحيل وأنت الفارس‏,‏ لا صوت‏...‏ استسلم أحمد زكي‏,‏ هزمه السرطان‏,‏ أيتها السيدة العجوز‏,‏ أيها الشاب‏,‏ أيتها الأرملة‏..‏ كفوا عن مناداته‏,‏ أحمد فضل الرحيل

حقيبة صغيرة‏,‏ بها بيجامة قديمة وشبشب نصف عمر‏,‏ حملها الشاب الأسمر أحمد زكي وتوجه إلي القاهرة‏,‏ حقيبة خفيفة‏,‏ وأمتعة هزيلة‏,‏ لكنه حمل في قلبه أحزانا كثيرة‏,‏ وفي عقله أحلاما لا حدود لها‏,‏ في وجهه‏..‏ تقرأ سطور ألم خطتها سنوات اليتم والحرمان‏,‏ وفي عينيه دمعة تحجرت وأبت أن تسيل ليصنع لمعانها نجومية وبريقا لم يتوقعه أحمد زكي‏,‏ مشوار طويل انتقل فيه أحمد من القاع إلي القمة حتي أصبح امبراطورا للسينما العربية‏,‏ أحمد زكي الفنان‏,‏ لم يختلف عليه اثنان فبداخله عفريت يستحضر شخصياته وقتما شاء‏,‏ يتوحد مع أدواره ويذوب فيها حتي ينسينا شخصيته الحقيقية‏,‏ أما أحمد زكي الإنسان فتعالوا نتجول في مسارات حياته وسنجد الكثير‏.‏ علاقة أحمد زكي بأمه وإخوته كانت مثار جدل‏,‏ خاصة بعد أن روج البعض عن فتور هذه العلاقة‏,‏ لكن الأيام الأخيرة في حياته دحضت مزاعم المغرضين‏,‏ ففي ساعة متأخرة من الليل جاءت أمه إلي المستشفي ودخلت غرفة العناية المركزة وأمسكت بمنديل قماش وغمسته في المياه لتبلل شفاه ابنها الجافة‏,‏ السيدة لم تبك‏,‏ لكن الحسرة أصابتها‏,‏ عينها زائغة في كل مكان‏,‏ لا تتحدث مع أحد‏,‏ فقط قالت يارب‏..‏ لا تتركني ساعة في الدنيا بعد وفاة ابني‏,‏ خذ من عمري وأعطه‏,‏ الحاجة رتيبة والدة أحمد زكي كانت تتردد علي زيارته في القاهرة مع إخوته‏,‏ لكن إقامتها في الزقازيق وعجزها عن الحركة بسبب تقدم السن جعل زياراتها له غير منتظمة‏,‏ وفي آخر زيارة له في شقته في حي المهندسين‏..‏ طلب أحمد من إخوته أن يتركوه وأمه في غرفة واحدة‏,‏ وأغلق باب الغرفة واستمرت جلستهما ثلاث ساعات‏,‏ لم يعرف أحد ماذا قال‏,‏ أما موقف أحمد زكي من أمه وما تردد من أنه أصيب بعقدة نفسية بسبب زواج أمه بعد وفاة أبيه وكان لايزال ابن السنوات الأربع فهو شائعة أيضا روجها المتربصون به‏,‏ لقد أطل أحمد منذ خمس سنوات من إحدي القنوات اللبنانية وواجهه مذيع البرنامج بهذه الفرية ونفي أحمد‏,‏ بل إنه ثار وأكد أنه غضب من أمه بالفعل عندما كان طفلا لأنه شعر بحرمانه منها لكنه التمس لها العذر فيما بعد لأنها طبيعة السيدات في الريف‏,‏ تريد رجلا يحميها خاصة أن الحياة كانت صعبة‏.‏

أخو البنات

كان أحمد زكي شديد الحب لإخوته غير الأشقاء‏,‏ ولأبنائهم‏,‏ فها هو شقيقه محمد الذي يعمل في التربية والتعليم أقسم أنه لم يشتر قميصا واحدا أو بنطلونا منذ ثلاثين عاما‏,‏ لأن أخاه أحمد كان حريصا علي أن يشتري له كل ملابسه‏,‏ أما مصروفه الشهري من أحمد فكان خمسمائة جنيه‏,‏ وإذا تأخر محمد عن زيارته في القاهرة يفاجأ به علي الهاتف يطالبه بالحضور أما أخواته مني وإلهام وإيمان اللاتي أصبن بالهلع بعد وفاته فخرجت منهن الكلمات بجوار مقبرة أحمد زكي أثناء دفنه لتؤكد أنه كان بارا بأمه وأخواته‏,‏ لقد أسس للثلاث منازل الزوجية وبني بيتا من أربعة طوابق لإخوته الأربعة في حي الحسينية في مدينة الزقازيق حتي يلتفوا حول أمهم‏,‏ ويتمكن هو من زيارتهم مجتمعين كلما أراد‏,‏ أخوه محمد أكد أن أحمد أعطاه مالا أكثر من مرة لعمل مشروعات تدر عليه ربحا إلا أن هذه المشروعات فشلت وكان آخرها محل لبيع منتجات الألبان‏,‏ أما يوم الإثنين من كل أسبوع فكان مخصصا لأهله‏,‏ يأتوته من الزقازيق ويقضون معه اليوم كاملا‏,‏ وتعليمات مشددة لمدير أعماله محمد وطني ألا يعطي أحدا مواعيد يوم الإثنين لأنه في هذا اليوم يكون مع أمه وأخواته‏,‏ إيمان أخته الصغري كان دائم التدليل لها‏,‏ كل طلباتها مجابة حتي لو اضطر من أجل تنفيذها اإلي لسفر للخارج‏.‏ أما دسوقي عبد المنعم ابن خاله فأكد أن أحمد لم يكن يتوسط لأحد من أبناء العائلة الباحثين عن فرصة عمل‏,‏ لأنه لم يكن يحب الواسطة‏,‏ لذلك كان يعطي كل شاب خمسمائة جنيه في الشهر‏,‏ لم يعطها له يدا بيد‏,‏ بل كان يخشي من أن يخجل أحدهم فيضطر كل أول شهر لوضع المبلغ المخصص لكل منهم في استعلامات الفندق الذي يقيم فيه ويأتي كل شاب ليأخذه من موظف الاستعلامات‏,‏ تلك كانت علاقة أحمد زكي بأمه وأخواته والتي تخطت رعايتهم لتصل إلي حد تأديتهم فريضة الحج والعمرة‏.‏

تواضع وكرم

البعض كان يشيع أن أحمد زكي إنسان مغرور‏,‏ لكن كواليس حياته تؤكد غير ذلك‏,‏ أما كرمه فلم يكن له حدود‏,‏ علي مقهي في الإسكندرية جلس أحمد زكي مع زميلنا المصور وهو رجل اعتاد تصوير أحمد بين الحين والآخر‏,‏ تلقي زميلنا اتصالا من ابنه فظهرت علي وجهه علامات الغضب وأنهي المكالمة‏,‏ سأله أحمد من هذا؟ فرد‏:‏ أنه ابني‏,‏ عيد ميلاده اليوم‏,‏ ويعاتبني لأنني تأخرت عليه بالهدية‏,‏ شعر أحمد بأن زميلنا يحتاج إلي ثمن هدية ابنه فطلب منه أن يصوره علي شاطيء البحر وبعد نصف ساعة فقط قضاها معه علي البحر أعطاه ما يلزم لشراء هدايا لابنه ولأفراد أسرته وطلب منه أن يعود علي الفور إلي القاهرة ليحتفل مع ابنه بعيد ميلاده أما الممثل الشاب أيمن عزب فتحدث عقب عودتنا من طريق الفيوم حيث تواري جثمان أحمد زكي عن أن الفنان الراحل علم بأنه يرفض أدوارا كثيرة يريد البعض استخدامه فيها‏,‏ ويأبي عزب إلا أن يقدم أدوارا محترمة‏,‏ ولذلك قبع في بيته فترة طويلة بدون عمل‏,‏ وما كان من أحمد زكي إلا أن استدعاه وطلب منه ألا يقدم دورا هزيلا وأعطاه مبلغا ينفق منه‏.‏ أما الفنان إبراهيم نصر فأكد أن أحمد زكي كان كريما مع كل زملائه‏,‏ خاصة الكومبارس وكان يعطيهم بسخاء ويضيف إبراهيم نصر‏:‏ كنا نصور فيلم مستر كاراتيه وجاء بائع متجول يبيع ساعات يد فناداه أحمد زكي وسأله عن ثمن الساعة ثم اشتري منه صندوق الساعات ووزعها علي الكومبارس‏*

 

الوصية الأخيرة 

أوصي الفنان الراحل أحمد زكي بأن يقوم بتغسيله نجله هيثم وصديق عمره جهاد جويفل والكاتب عماد أديب‏,‏ وابن خالته سمير عبدالمنعم‏,‏ ووطني مدير أعماله‏,‏ هذا وقد أرسل محبو الفنان الراحل عددا كبيرا من الجراكن المملوءة بمياه زمزم لاستخدامها في غسل جثمانه‏.‏

صراع علي الحب

في سرادق العزاء الذي أقيم في مسجد مصطفي محمود لاحظ المعزون قلق وتوتر الفنانة رغدة التي كانت تجلس في نهاية السرادق متشحة بالسواد والحزن الشديد يبدوعلي ملامحها وعلبة السجائر بجوارها تدخن منها بشراهة وذهنها شارد غير مهتمة بما يحدث حولها‏,‏ في الوقت الذي كانت تقف فيه يسرا في مقدمة السرادق تتقبل العزاء‏.‏

البعض فسر ابتعاد رغدة عن موقعها الذي كان من المفترض أن تقوم به بدلا من يسرا خوفا من أن يحدث تصادم بينهما‏,‏ خاصة أنه سبق أن حدث تصادم بينهما في مستشفي دار الفؤاد مما جعل النجم الراحل يتدخل واضطر إلي فك الخراطيم المحاطة بجسده وفض النزاع الذي وصل إلي حد التشابك بالأيدي‏,‏ من المعروف أن رغدة كانت أكثر النجوم وقوفا بجوار أحمد زكي ولم تتركه لحظة واحدة‏.‏ 

أحزان أهالي الحسينية

أحمد السماحي 

تردد اسم حي الحسينية في الفترة الأخيرة ومنذ دخول أحمد زكي المستشفي عشرات المرات سواء في الفضائيات أم علي صفحات الجرائد والمجلات‏,‏ وعرف الناس أن هذا الحي الموجود في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية‏,‏ علي بعد‏80‏ كم من العاصمة المصرية‏,‏ الحي الذي ولد فيه وخرج منه عملاق التمثيل أحمد زكي‏,‏ وهذا الحي هو الذي زرع في أعماقه إرادة الطموح والصمود والإصرار‏.‏

عندما علم أهالي الحسينية بالخبر خيم الحزن علي وجوههم وتملكهم الذهول وكأنهم لا يصدقون بأن البريء قد مات‏,‏ وأن الموهبة المشتعلة التي انطلقت من أرضهم قد انطفأت وإلي الأبد‏.‏ بين الجماهير العريضة التي تدفقت إلي مسجد مصطفي محمود للصلاة علي الفتي الأسمر التقينا بمجموعة من أهالي الحسينية الطيبين الذين كانت تربطهم معرفة وثيقة بالفنان الراحل‏,‏ ولاحظنا أنهم لا يصفون الفتي الأسمر بالمرحوم بل فقط يصفونه بالغالي فهو كان غاليا عليهم وربما كانت غلاوته قد زادت عندهم بعد رحيله‏.‏ ويقول أخوه غير الشقيق محمد الذي تحدث معنا بصعوبة شديدة أحمد أخي كان بارا بأسرته وكريما جدا مع الجميع‏,‏ فقد تولي قيام والدته بالحج أربع مرات والعمرة سبع مرات آخرها هذا العام وكان يتمني أن يذهب معها لأداء فريضة الحج لو تم شفاؤه‏,‏ واستطرد قائلا والدموع تنساب علي وجهه بغزارة عندما قررت الاتجاه إلي المشاريع التجارية عام‏1984‏ أعطاني مبلغ‏40‏ ألف جنيه‏,‏ وبدهشة قال‏:‏ غير صحيح ما تردد حول انقطاعه عن أسرته‏,‏ بالعكس أحمد عمل الكثير لأسرته ولأهل بلده‏,‏ وفي نهاية حديثه معنا طالب محمد أجهزة الإعلام بتحري الدقة للحفاظ علي تاريخ أحمد زكي الفني‏.‏

محمد إبراهيم عبدالله طالب جامعي بالفرقة الثالثة بكلية العلوم وابن شقيقه النجم الراحل الكبري مني يقول وصوته مخنوق بالدموع‏..‏ كان خالي ودودا ودائم الوجود معنا والسؤال عنا فضلا عن حرصه علي تلبية جميع متطلبات الأسرة‏,‏ واللقاء معنا في المناسبات‏.‏ وتنهمر الدموع من عيني ليلي أحمد إحدي قريباته وهي تتحدث عن أحمد زكي قائلة إن الغالي كان ولدنا جميعا ومصابنا بوفاته فادح‏,‏ فقد كان قلبه دائما علينا وعلي بلدتنا‏,‏ وبفضل الجهود التي كان يبذلها عند المسئولين وما ينفقه أحيانا من جيبه‏,‏ عرفت الحسينية ما كانت تفتقده من وحدة صحية وطرقات وغيرها من المشاريع الخيرية التي كان يسهم فيها‏.‏ ويقول يوسف الحسيني أحد الذين اكتشفوا موهبته مبكرا في الزقازيق‏,‏ كان الغالي يحب الخير لكل الناس وكان شديد الإيمان بالله‏,‏ وهو منذ طفولته حزين ولا يميل إلي مشاركة الأطفال اللعب بل كان يفضل أن يجلس لوحده يسرح ويفكر ويتأمل‏,‏ ويهوي أيضا مشاهدة الأفلام السينمائية وكان معجبا في بداياته بالفنانين زكي رستم ومحمود المليجي‏.‏

أما محمد زين أحد أقاربه فيؤكد أن الغالي كان يحب الأطفال اليتامي وفي المرات القليلة التي كان يزور فيها البلدة أول شيء كان يعمله هو سؤالي عن عناوين الصغار الذين فقدوا آبائهم وأمهاتهم فيزورهم ويمسح أحزانهم ويقوم بالواجب نحوهم‏.‏

ويتذكر الشيخ حسن الطيب الذي تجاوز الستين وجاء خصيصا من الزقازيق للمشاركة في جنازة الغالي موقفا طريفا حدث عندما كان أحمد زكي طفلا حدث ذات يوم أن كنت أعمل مع والدي في حفر الأرض علي مقربة من الترعة وفجأة سمعت صراخ الأولاد يعلو فهرعت إلي الترعة وقيل لي إن أحمد قد غرق وإنه كان يسبح ونزل إلي القاع ولم يعد وفورا نزلت إلي الترعة وأنا بملابسي وانتشلت أحمد ثم ألبسته ثيابه وأخذت أضربه بالعصا تأديبا له لكي لا يعود إلي العوم في الترعة من جديد ثم أخذته إلي جدته ألماظ التي شكرتني وأعطتني قرشا مكافأة لي ثم قالت لي إياك تخليه بعد النهاردة يعوم في الترعة‏,‏ اضربه لو شفته هناك ولكن الفتي الأسمر كان يغافل الجميع ويذهب إلي الترعة‏.‏

وفي نهاية المطاف وأثناء تجوالنا جلست امرأة في الخمسين من عمرها متشحة بالسواد تبكي بحرقة وبصوت عال وعندما اقتربنا منها علمنا إنها كومبارس تدعي ماجدة أنور حاولنا أن نتحدث معها لكنها رفضت في البداية وبعد انصرافنا نادت علينا قائلة علشان خاطري متزعلوش مني لأن الغالي كان أكثر من أخي وساعدني كثيرا علي المستوي الفني والإنساني‏,‏ فكان حريصا علي اختياري في كل الأعمال التي يقوم ببطولتها‏,‏ وعندما مرضت ابنتي بالفشل الكلوي جاء إلي منزلي وتكفل بنفقات علاجها علي حسابه الخاص ولم يتركني طوال مدة علاجها حتي رحلت عن الدنيا‏

بعيدا عن الكاميرات وزيف المشاعر.. زكي في قلوب هؤلاء

‏ محمد عبدالحميد 

عجزت عشرات الكاميرات التليفزيونية التي انتشرت حول مقبرة الراحل أحمد زكي‏,‏ أن تعبر بصدق عما يدور في صدور الآلاف من الجماهير التي احتشدت حول المقبرة في مشهد مهيب اختلطت فيه أدعيتهم بالرحمة والمغفرة بالدموع التي انهمرت دون إرادة منهم لفراقه‏.‏

ففي حين انشغل القائمون بأمر تلك الكاميرات بإبراز حالة التأثر والحزن التي كان عليها نجوم المجتمع من فنانين ومشاهير عاصروا الراحل وجمعتهم به مواقف فنية وإنسانية عدة‏,‏ تسابق أغلبهم في سردها‏,‏ وهم منقسمون إلي فريقين‏,‏ الأول بدافع الحب‏,‏ وذكر مآثر الفقيد الغالي‏,‏ والآخر بحثا عن إطلالة تعيد تذكير مشاهدي المنازل بهم من خلال نسج مواقف إنسانية عدة جمعتهم بالراحل‏,‏ وكيف كانوا له إخوة‏,‏ وكان لهم نعم الصديق‏,‏ ولا ينسي أحدهم قبل أن يختتم حكاياته الملفقة بأن يذرف بالكاد دمعتين‏,‏ وهو يذكر المشاهدين بأن أحمد زكي قد تنبأ له‏,‏ أولها‏,‏ في وقت سابق بالنجومية والنبوغ خلال الفترة القادمة‏.‏

وفي غمرة انشغال الكاميرات بأمر هؤلاء وغيرهم من محترفي الترويج لأنفسهم والحرص علي الظهور في المناسبات المختلفة كان هناك آلاف من البسطاء تدافعوا منذ الصباح الباكر للاحتشاد حول سرادق العزاء المقام بمسجد مصطفي محمود غير عابئين بسخونة شمس الظهيرة‏,‏ ومضايقات عساكر الأمن لهم بدعوي الحفاظ علي النظام وتأمين سلامة كبار المشيعين‏.‏

ولم يقتصر حبهم للراحل علي الالتفاف حول الجثمان وقت الصلاة عليه وإلقاء نظرة الوداع علي فنان جسد معاناتهم وعبر عن أحلامهم في أعماله المختلفة دون زيف أو خداع وإنما تدافع منهم نحو الخمسة آلاف لتوديعه حيث يدفن بمقابر‏6‏ أكتوبر عند الكيلو‏56‏ من طريق القاهرة ـ الفيوم‏,‏ ولم يقف عدم امتلاكهم لسيارة حائلا عن تحقيق تلك الرغبة النابعة من القلب فقاموا بالتكدس في سيارات الأجرة والميكروباص والتي تحولت بهم إلي علب سردين‏.‏

وحول المقبرة أجهش بعضهم في بكاء حار كأنه يبكي أباه أو شقيقه أو ولده وذلك لحظة أن خرج الجثمان من سيارة ـ نقل الموتي ـ وحمل إلي المقبرة حيث واراه التراب‏,‏ فهذه سيدة في العقد الخامس من العمر افترشت الرمال إلي جوار جدار إحدي المقابر المتراصة بالمكان وهي تبكي بحرقة أعتقد معها الكثيرون أنها إحدي قريبات الفنان الراحل اللاتي توافدن من مسقط رأسه الزقازيق‏,80‏ كيلو شمال شرق القاهرة‏,‏ ولكن المرأة التي تورمت عينيها من شدة البكاء لم تكن تمت لأحمد بصلة قرابة‏,‏ ولكنها من بلدته‏,‏ وبسؤالها عن سر هذا الحزن العميق له‏,‏ قالت‏:‏ وكيف لا أبكي بدل الدموع دم‏,‏ فالمرحوم كان أحسن معي من أهلي‏,‏ فبعد وفاة زوجي قبل‏15‏ عاما وكان يعمل فرانا باليومية‏,‏ ووجدت نفسي أنا وثلاث بنات وطفل عمره شهران‏,‏ لا نجد العيش الحاف لنأكله‏,‏ وطرقت كل الأبواب ولم أجد من بين أصحاب القلوب الرحيمة سوي أحمد زكي الذي رأيته في تلك الأوقات في أثناء زيارة خاطفة لأسرته بالزقازيق‏,‏ فارتميت علي مقدمة سيارته‏,‏ وأنا أقول له والنبي تساعدني يا أستاذ أحمد‏,‏ فهبط من سيارته وأخذ بيدي وبعد أن علم بأمري أعطاني‏750‏ جنيها كانت هي كل ما معه وأوصي أقاربه بي خيرا‏,‏ وقال وإن احتجت حاجة قولي لهم وهما هيقولولي‏.‏

وتستطرد قائلة‏:‏ وبالفلوس دي قمت بشراء ماكينة خياطة ومن خلالها قمت بتربية أولادي وتزويج الكبري مني وأنا مازلت أذكر له بالخير هذا الجميل وعندما علمت بخبر وفاته شعرت وكأن أبي أو أخويا هو اللي مات‏,‏ فأقسمت علي أن أحضر اليوم لعلي أوفيه جزءا من حقه‏,‏ قالتها وأجهشت بالبكاء‏.‏ وظللت طوال فترة وجودي حول المقبرة أتابعها من بعيد وهي تفترش الرمال وتبكي بحرقة حتي اقتربت الساعة من الخامسة مساء وانصرف غالبية المشيعين من المشاهير وتبعتهم كاميرات التليفزيون وبعدهم صرخ ضابط من قوات الأمن برتبة عقيد في البسطاء الجالسين حول المقبرة بضرورة الانصراف هم أيضا‏,‏ فأطاعوا الأوامر وبخطوات واهنة مضت حتي وصلت إلي طريق القاهرة ـ الفيوم‏,‏ في انتظار سيارة ميكروباص تستقلها عائدة من حيث أتت‏,‏ وتبعها في ذلك آخرون منهم شاب في الصف الثالث الثانوي حضر من بني سويف لتشييع جثمان إنسان أحبه دون أن يلتقيه لكن كما يقول‏,‏ الحب في القلب فأحمد في أفلامه قدم لي نموذجا للإنسان المثابر والمكافح الذي نحتاج إليه في أيامنا القادمة‏*‏ 

جيران شقة المهندسين

‏ أحمد اسماعيل 

‏*‏ الدكتور أسامة صيدلي يشير إلي أنه كان صديقا للفنان أحمدزكي ويقول كان إنسان رائعا شديد التواضع‏,‏ كثيرا ما كان يأتي ليجلس‏,‏ ويتحدث معنا ويرسل لنا بنسخ من أفلامه ويناقشنا فيما بيننا‏.‏

‏*‏أيمن عطية سائق بالعمارة التي يقطن بها الراحل‏,‏ ويروي لنا ذكرياته معه قائلا‏:‏ لم أره إلا ثلاث مرات منذ أن التحقت بالعمل في العمارة‏,‏ وذات مرة فوجئت به يطمئن علي ويسأل عن صحتي قائلا‏:‏ أنت جديد هنا‏,‏ فقلت له نعم‏,‏ فربت علي كتفي وقال شد حيلك وأعطاني‏50‏ جنيها‏.‏

‏*‏ويقول أحد أفراد الأمن بالعمارة ويدعي أحمد‏..‏ تعاملت مع الفنان أحمد زكي كثيرا بحكم عملي وهو كان شديد التواضع والطيبة وكان يعطف علينا كثيرا‏,‏ فكان بمثابة والدنا‏,‏ ولم أره غاضبا إلا مرة واحدة عندما أتي ابنه هيثم لزيارته وطرق الباب كثيرا ثم انصرف وعندما علم غضب بشدة ثم سألني هل تضايق‏,‏ هل غضب وأخذ يقسم أنه كان مجهدا ونائما ولم يسمع صوت الجرس‏,‏ ولم يأت بعد مرضه سوي مرتين لأخد بعض متعلقاته فقط‏..‏ ونحن ندعو له بالرحمة فالخبر كان صدمة كبيرة لنا‏.‏

‏*‏ ويشير سايس الجراج ويدعي عماد أنه يعرف الفنان أحمد زكي منذ فترة طويلة ويقول رحمه الله شخص عطوف جدا‏,‏ يعطي الأمان لأي شخص فمثلا كان يترك لنا سيارته وبداخلها كل متعلقاته‏,‏ وكان يحب الخروج وحده دائما خاصة بسيارته المرسيدس التي كان يقودها وحده دائما‏,‏ ولم يتركها للسواق الذي يعمل عنده وكان يقول له أحتاجك وقت العمل فقط‏,‏ كذلك فهو كثيرا ما كان يتحدث معنا ويعرف أحوالنا‏.‏

الأهرام العربي بتاريخ 2 أبريل 2005