إنه أحد أذكى الأفلام، وأكثرها تأثيراً في وجدان المشاهد: "بو-
ليس" لمايوان. محوره الأساسي: الطفل، كنوع من صحوة ضمير
لمجتمعات يتآكلها الذنب، ومحكومة بالعزلة، تعيد التفكير في سبل الخروج من
هذه الذنوب. امتلك الفيلم شخصية حقيقية، ما جعل حضوره في مهرجان "كانّ"
الأخير بين مجموعة أفلام لمخرجين كبار، لا يمرّ مرور الكرام، فعاد منه
بجائزة.
صُوِّر الفيلم بطريقة الـ"ريبورتاج"، مع كاميرا ثابتة حيناً، ومحمولة
أحياناً كثيرة، مع كلّ ما يتضمن هذا الاسلوب من حركة، تمنحه غنى أسلوبياً
وواقعية استطاعت المخرجة توجيهها في المكان الصحّ والمثمر. على مدار 128
دقيقة، يقتحم الفيلم مقرّاً للشرطة يتولّى أفرادها حماية القاصرين من
الحوادث التي يتعرّضون لها. إنه متابعة يوميات أفراد الشرطة هؤلاء،
ولقاءاتهم المتّهمين والجناة، والتحقيقات التي تدور حولهم، وتقنياتهم
المستخدمة.
في البداية، يُخيّل أن الفيلم تمجيد فارغ للنظام الببو- ليسي الفرنسي،
قبل أن يتمرّد على نفسه كاشفاً حقيقة أخرى، في المقلب الآخر للشرطة. من
يحمون القانون ليسوا منزّهين بقدر ما يعتقدون. معظم الحالات تحرّش
بالأطفال، والمتّهمون أكثر المقرّبين إلى الضحايا، أحياناً. بالنسبة إلى
المحقّقين، إنه نزول يومي إلى حجيم البؤس والعقد النفسية، المنعكسة شيئاً
فشيئاً في نفسية مطاردي العدالة الاجتماعية، وسويتهم العقلية.
يُراهن العمل على هذا التوتر الذي تتيحه الحوادث المتعاقبة والمتسارعة،
وهي تولّد لحظات ملهمة تخطف الأنفاس. على الرغم من كثرة الكلام، يبقى "ببو-
ليس" فيلماً بصرياً يتحرّك مع حركة رجال ونساء يتمّ التعرّف عليهم لقطة بعد
لقطة، فنحبّهم ونهتمّ لمصيرهم الجماعي.
يعلم أعضاء الشرطة أن الوحش الذي يتعاملون معه على نحو يومي، أسوأ ما
في الإنسان. مع هذا، يتوجّب عليهم التعاطي معه ببرودة أعصاب شديدة. ولعلّ
السؤال الأساسي الذي طرحه الفيلم على نفسه وعلى مشاهديه: كيف يجد هؤلاء
التوازن الصحيح بين حياتهم الشخصية والواقع الذي يوضعون فيه باستمرار؟
هذا ثالث فيلم توقّعه الممثلة والمخرجة مايوان، المولودة لأم فرنسية
وأب جزائري. فيلمها الأول "سامحوني"، والثاني "حفل الممثلات الراقص". بيد
أن "ببو- ليس" (النحو الذي يُكتَب به العنوان بالفرنسية يُعتَبر خليطاً بين
كلمتي "شرطة" و"جلد طريّ") من طينة أخرى، لا يرتقي إليها أيٌّ من فيلميها
السابقين، علماً أنها ابتعدت هنا عن النمط الجماهيري الذي ارتكز عليه
فيلماها هذان، وإن لم يكن هذا في مصلحتها، لأن جمهورهما لن يكون بالضرورة
جمهور جديدها البديع.
"ببو- ليس" صفعة حقيقية تلقاها المشاركون في الدورة الأخيرة لمهرجان
"كانّ"، فور مشاهدتهم إياه. لكنها صفعة تشبه الحياة بحلوّها ومرّها،
بيومياتها العابقة بالأمل والألم والقسوة واللامبالاة. بمعنى آخر: لا تنجرّ
مايوان في نصّها خلف بكائيات جامدة، بل تختار أن تستقي المأساة من قلب
الحوادث اليومية، والروتين الإداري الجاف، لتذهب إلى اللحظة التي تمسك فيها
المصيبة بضلوع الفيلم، ولن يكون هناك عودة إلى الوراء، من تلك اللحظة
وصعوداً.
أكثر من أي شيء آخر، تجيد مايوان كيف تدير ممثليها، من مارينا فويس
إلى كارين فيار، مروراً بجوي ستار. أما مشاركتها في الفيلم في دور المصوّرة
التي تحضر ريبورتاجاً عن هذا الوسط، فترمز إلى المرأة العاشقة، والفتاة
الباردة الأعصاب، التي ترى وتدوّن وتسجّل يوميات الشرطة، من دون أن تثير
فيها المشاهدات تلك أية فتنة. الفتاة هذه ليست "المكان" الوحيد حيث نجد
شذرات من عدم الاكتراث والطرافة. ذلك أن الفيلم برمَّته مشيّد على فكرة
التعايش بين غضب وقهقهات، بين سلام وضجيج. إنه اسلوب واقعيّ، انتقته مايوان
من أنماط حكائية أخرى، وفيها قدر عال من الأمانة والصدق.
في المحصّلة، جاءت مايوان بفيلم مُقنِع، سعى للملمة شيء من الحقيقة في
الوجوه الكئيبة. صحيح أن أفلاماً عدة تطرّقت إلى عالم الشرطة، كـ"الملازم
الصغير" لكزافييه بوفوا و"أل 627" لبرتران تافيرنييه. لكن أهمية الفيلم على
الصعيد الشكلي، تكمن في أنه يضعنا في جوّ من الخفّة التي لا توحي بالكثير.
لكن، تعرف مايوان كيف تجعلنا نستعد للأسوأ والأشدّ إيلاماً في حمأة خلافات
عناصر الشرطة وهمومهم. من هذا المكان تحديداً، المزدحم بالأوراق
والبيروقراطية، انبعثت روح العمل الذي يمنح الإنسان المكان الأبرز. تنجح
مايوان في رهانها الأهم: تعرية رجال الشرطة ونسائها، وجعل آلية عملهم
شفّافة إلى حدّ الاختفاء أحياناً. من هذا الواقع، استلّت ما قادها إلى طريق
اللاعودة. طريق الحسم، طريق الإنهيار الأخير، التي تختارها واحدة من
اللواتي لن يكون في مقدورهنّ الذوبان في قِدر الواجب اليومي المتكرّر.
من داخل المهرجان في
14/10/2011 |