إحدى القضايا التي أثارها "نبع
النساء" (في العامية المغربية "عين النسا") إشكالية مكان
أحداثه. فالواقعة الحقيقية لـ"الإضراب الجنسي" الذي نظّمته نساء قرية نائية
في أناضول تركيا ضد كسل رجالهنّ، نقله المخرج رادو ميهاليان إلى بقعة
رمادية يُفترض بها أن تقع بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما اختياره
المغرب موقعاً ولهجة، فحرّض كثيرين على التحامل عليه وإثارة اللغط. لكن، هل
هذه القضية هي كل شيء؟ نعم، للّذين أرادوا تصفية حساباتهم مع جرأة هذا
المخرج، ما جعلهم يغفلون عن حكمته الدرامية وسرديته وبناء شخصياته. بينما
وجد فيه الآخرون، ممن لم يلتفتوا إلى هذه الحجة، عملاً حكائياً ممتعاً
وساحراً في تلوينات بطلاته ومفارقاتهنّ، والكيفية التي رتّبن فيها ذلك
الانقلاب الكبير، الذي بدّل المصائر، وحرّض على التغيير.
"نبع النساء" ("عروض السينما العالمية") قطعة سينمائية محكمة الصنع،
تعتمد على نَفَس واقعي شدّ من كلاسيكية بنائه. فيلم يُذكِّر بـ"أرض" المخرج
الراحل يوسف شاهين، من ناحية مقاربة القرية النائية ويومياتها وتقليدية
أناسها، على الرغم من أنه نأى عنه من ناحية موقفه السياسي الذي أعطى نصّ
شاهين عمقاً شعبياً أكثر بلاغة. كما يُمكن مقاربته، إلى حدٍّ ما، بـ"أبي
سيدي" (1977) للأخوين الإيطاليين باولو وفيتوريو تافياني، من حيث فكرة
الرجولية الماحقة للآخرين، لكن من دون أن ينال حظوة نظرتهما الصارمة
لأبطالهما ومحيطهما القاسي. يُمكن أيضاً وضعه على خطّ واه مع النصّ الفذّ
لمواطنهما أرمانو أولمي "شجرة القباقيب" (1978)، من حيث فكرة الإنقلاب
الجماعي الذي تقوده قرية لضمان حذاء الصبي الوحيد فيها الذاهب إلى المدرسة.
يعترف ميهاليان أن اقتباس الحكاية التركية حتّم عليه البقاء في أرض قريبة
الشبه بالحيّز المكانيّ الأصلي. لهذا، كانت جبال المغرب البقعة الأمثل،
والممثلات اللواتي قادتهن الجزائرية ليلى بختي (مثّلت دور ليلى في الفيلم)،
أحلن الحكاية إلى أهزوجة شعبية ضد طغيان ذكوري، يستند على حجج الفتوة،
وتبريرات العشائرية، والتخويف بالعقاب الاجتماعي.
في تلك القرية الجبلية، تقع المفارقة. رجال متكاسلين، يقضون يومياتهم
بلعب الورق واللغو والشكوى، في المقهى الوحيد المطلّ على الشارع المترب.
يلغون ويتبارون بتثاقلهم وفتور هممهم. في المقابل، هناك نساء جَلِدات في
تحمّل الواجبات اليومية، وأعباء توفير عناصر الحياة والراحة لعائلاتهنّ.
قضية واحدة تحيل حياتهنّ إلى جحيم يومي: تلك الرحلة المضنية إلى النبع
الجبليّ لجلب الماء. تُرى، كيف تُحَلّ المعضلة؟ ببساطة: إغلاق المنبع الآخر
للشبق والمتع الحسّية. أطلقت ليلى، التي شبّهها ميهاليان (في حوار معه
منشور في الصحيفة الأميركية "نيويورك تايمز" في السادس عشر من أيار/ مايو
الفائت) بـ"جان دارك حداثيّ"، ثورة من أجل الحب ومكان المرأة في العالم،
بتحريضها قريباتها وزميلاتها على إعلان القطيعة، فتكون هي الأولى في مقارعة
الظلم، قبل أن تنال عقابها اليومي من رجال البيت. وكما أن لكل فعل تغيير
أبطاله المخفيين، تكون الأم العجوز ريفيل (المغنية الشعبية والممثلة
الجزائرية بيونه) صمّام القنبلة النسائية، بفضل قوّة شخصيتها وحنكتها
وشجاعتها في البدء بالهجوم. هذه الشخصية العملاقة بمنهج النيل من المعتدين،
لا ترحم أحداً، ولا تُماري كائناً. تبدأ شرعية احتضانها ليلى وثورتها بقلب
المعادلة على الرجال الأقوياء في القرية، وهم رئيسها وغنيها وإمام جامعها
وشلتهم، ومثلهم دعاة السلفية والتزمّت التي يمثّلهم ابنها الملتحي وزميله
ذو الدوافع الخسيسة والساعي للاستحواذ على منصب الإمام.
صاغ مخرج "الحفلة الموسيقية" (2009) و"قطار الحياة" (1998) فيلمه
الطويل نسبياً (136 دقيقة)، الذي كتبه بمشاركة آلن ـ ميشيل بلون، على أرضية
فولكلورية تنميطية زاهية الألوان (تصوير باهر لغلين سبيكاريت)، تضمّنت
مشاهد معهودة، مثل النساء في الحمّام، والرقصة الجماعية في مهرجان محلي،
تُعلن النساء عبر ترنيماتها الفضيحة التي تدفع الرجال إلى التخفّي، قبل أن
يرضخوا لعزوفهنّ الجنسي وهجرتهنّ المضاجع، فإذا بأنبوب الماء يصل إلى قلب
القرية، التي تعود إلى وئامها.
هناك حكايا متداخلة لنسوة القرية. فليلى متعلّقة بقدر الحبّ الذي
يربطها بسامي المتنّور (الممثل الفلسطيني صالح بكري)، على الرغم من
اعتراضات أمها (مواطنته هيام عباس). مثلها الصبية لبنى/ أزميرالدا (الممثلة
المغربية الفرنسية حفصية حرصي)، التي تتحقّق أمانيها برسالة نادرة من
الحبيب الغائب، تهدم بها عزلتها المتماشية والجدب الذي كاد يأكل القلوب
والضمائر والنفوس.
من داخل المهرجان في
14/10/2011 |