حضرت مصر في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي (11-22 أيار/مايو
2011) ضيفة شرف، في تقليد يُقام للمرة الأولى وسوف يكمّل، بحسب إدارة
المهرجان، في الدورات المقبلة، من خلال تسمية بلد ذي تراث سينمائي عريق ضيف
شرف كل عام. أرخت التحوّلات الجذرية التي تشهدها مصر منذ مطلع العام
بظلالها على الإحتفالية، فبدا الإحتفال معنياً أكثر بمصر الجديدة وبسينماها
الجديدة، منه بتاريخها السينمائي. صحيح أن التفاتة إلى ذلك التاريخ كانت
واحدة من ملامح الإحتفال، حيث اختير الفيلم الكلاسيكي "البوسطجي" لحسين
كمال للعرض ضمن قسم "كلاسيكيات كان"، إلا أن الزخم الأكبر رافق العرض الأول
للفيلم الجماعي "18 يوماً"، بما هو نتاج سينما ما بعد الثورة واستهلال
لمرحلة ستزخر حتماً بالمقاربات السينمائية لثورة "25 يناير" ونتائجها.
في الزمن القصير الفاصل بين الإعلان عن دعوة مهرجان كان "18 يوماً"
للمشاركة في قسم "العروض الخاصة" وبين عرضه الأول يوم 18 ايار/مايو، اتخذ
الحديث عن التجربة أبعاداً عدة، اختلفت بين الداخل (مصر) والخارج (خارج
مصر). في الداخل، ارتفعت الأصوات المندّدة بفيلم قائم على بعض الأسماء
المرتبط بـ "العهد السياسي القديم". هؤلاء الملقّبون سخرية بـ"المبشرون
بالجنة" (مجموعة من الكتاب والفنانين الذين استدعاهم الرئيس السابق حسني
مبارك قبيل قيام الثورة ولبوا دعوته)، موصومون بالسعي المباشر إلى مساندة
مبارك في ترشّحه لولاية ثانية وبتصريحاتهم الموالية لنظامه السياسي. في
الداخل أيضاً، حرّك مشروع "18 يوماً" حساسيات فردية لدى مخرجين لم تتم
دعوتهم للمشاركة برؤيتهم في المشروع الجماعي. كيف ولماذا اختير المخرجون
العشرة ( أو الأحرى الثمانية إذا اعتبرنا أن بذرة المشروع انطلقت مع
المخرجين مروان حامد ويسري نصر الله)؟ ما الذي أوعز بذلك التكليف الرسمي
وعلى اية أسس؟
في الخارج، تمحور الجدل حول فكرة اساسية: ما الذي يمكن قوله سينمائياً
عن ثورة لم تنتهِ ومرحلة سياسية واجتماعية لم تصل إلى خواتيمها بعد؟ وكيف
يمكن احتواء حدث بذلك الحجم من مسافة صفر منه؟
يمكن المجازفة بالقول أنه لولا اختيار مهرجان كان الفيلم ضمن برنامجه،
لظلّت تلك الأسئلة في إطار ضيق وعند الحد الأدنى من الجدل. ذلك أن التفات
أكبر مهرجان سينمائي إلى الفيلم، أحاطه بهالة رسمية وباعتراف وتكريس ما
كانا ليتحقّقا لو ان العمل ظلّ في حدود التصوّر الأول: مجموعة من الأفلام
القصيرة حول الثورة تصور وتطلق من خلال موقع "يوتيوب". بين الصيغة الرسمية
من جهة التي أسبغت على المشروع، و"القدسية" من جهة ثانية التي يتعامل بها
أصحاب الثورة تجاه ما يعتبرونه إنجازاً أثيراً يخشون مصادرته، علق المشروع
في دائرة صغرى من الأخذ والردّ، استوجبت ردوداً غير مباشرة من المشاركين
فيه على الإتهامات المضمرة والعلنية. فهناك أولاً شعور (متفاوت بدرجاته)
لدى المخرجين المساهمين في الفيلم بأنهم ربّما تسرّعوا في تشكيل رؤاهم
السينمائية حول حدث ساخن وجلل. لذلك، لا ينفكّ معظمهم يكرّر الحكاية
الخلفية نفسها التي سبقت انخراطه في المشروع: رفض في بادىء الأمر، فتردّد،
فموافقة على استحياء، فدفاع عن التجربة على قاعدة أنها ليست عن الثورة بل
عن حكايات صغيرة وقعت خلال الايام الثمانية عشرة بين انطلاق شرارة الثورة
وتنحي مبارك في 11 شباط/فبراير. في جوهر هذا الخطاب تكمن نظرة لا تخلو من
التقديس ايضاً للسينما ونفي لمفهوم السينما-الرسالة أو السينما-الوسيلة أو
السينما-القضية. وفي ذلك أيضاً رد خجول على انتقادات الداخل والخارج. إنها
المسافة بين مشروعية التوثيق الفردي الهادف وبين الإدعاء بأن ما يجري
توثيقه يصلح عملاً فنياً. إن حجم هذا الإدّعاء هو الذي يحدّد إطار العمل،
بعيداً من الأفكار الكبيرة غير المجدية حول السينما التي تحتفظ بقيمتها مع
مرور الزمن والنّضج الذي يجب أن يترافق بالضرورة مع اية تجربة سينمائية.
على سبيل الدفاع عن التجربة
إن الدخول في جدل من ذلك النوع يستوجب التخفّف من بعض الأوهام الملتصق
بالسينما عموماً والعربية خصوصاً. فالسينما، كأي حقل ثقافي أو فني آخر، هي
مزيج من العاطفة والإنفعال والنضج وإعمال العقل. وما الخوف من سينما
منطلقها عاطفي أو انفعالي إلا نفي لسمتها الفردية وإعلان بأن الصورة انعكاس
لوعي جمعي وحالة عامة. في الكتابة، الفرق أوضح حيث الشكل يقرّر على نحو ما
المضمون. بين المقالة والخواطر واليوميات والقصة القصيرة والرواية
والملحمة، يتّخذ فعل الكتابة أشكالاً مختلفة، لكل منها قوانينه وظروفه
ومنطلقاته وأهدافه. أما الفيلم، فمسألة أخرى، شائكة وغير خاضعة لقوانين
صارمة. فكم من أفلام الهواة المصورة بواسطة الهواتف النقالة، تخطّت أهدافها
الأولية لتصبح مرجعاً فنياً أو موضوعياً. القيمة الفنية أمر نسبي، يتحدّد
بالمقارنة مع الزمن والتحوّلات، من دون أن تكون العلاقة بالزمن والتريّث
حاسمين لجهة ضمان جودة فنية لا تتحقّق في ظروف عكسية. والمخرج ليس مطالباً
بكبت انفعالاته الداخلية في انتظار لحظة النضج المؤاتية لصنع فيلم كبير.
الصورة، اليوم وأكثر من اي وقت مضى، ليست مقدّسة والسينما ليست هيكلاً،
يتوجّب على من يدخله أن يتسلّح بالحكمة والنضج والخلاصات الفلسفية.
والسينما العربية تحديداً، لا تحفظ في ذاكرتها أمثلة كثيرة عن أفلام عاندت
الزمن والشيخوخة والترهّل. فمن اين يأتي هذا الوهم بأن الإنتظار والتحليل
وأخذ مسافة كافية من الأحداث كفيلة بأن تنتج سينما كبيرة؟ وهل أن فكرة
السينما التي تحيا بمعانيها ومضامينها ولغتها يجب أن تكون الهدف الذي من
دونه لا تكون أفلاماً؟ بعض التجارب يكتسب معناه من سياقه الزمني وقد يطويه
النسيان من دون أن يعني ذلك عدم جدواه. من هنا، يأتي الدفاع عن تجربة "18
يوماً" كفكرة مشروعة، لا تحتاج إلى مسوّغات، ولا إلى أحكام مسبقة تحاكم على
اساسها. تجربة يمكن الحكم عليها بكليتها، كما يمكن قراءتها انطلاقاً من كل
فيلم قصير على حدا وما يقوله، ليس عن الثورة فقط وإنما عن هواجس مخرجه
وأدواته. بالطبع هنالك إطار يتحكّم في تلك القراءة وهو الوقت القصير الذي
استغرقه تصوير كل فيلم (نحو يومين تصوير فقط)، ولكن مما لا شك فيه أن ذلك
يصب في مصلحة معظم أجزاء "18 يوماً".
الإنتماء إلى تراث السينما المصرية
الشكل الفني الذي يقوم عليه "18 يوماً" ليس جديداً. فالأمثلة كثيرة
على أفلام مؤلفة من مجموعة أفلام قصيرة، تتخذ من المدن أو الأحداث الكبرى
المؤثرة عنواناً عريضاً، يقاربه أكثر من مخرج من زاويته الخاصة. من تلك
الأمثلة القريبة زمنياً من الذاكرة: "باريس، أحبك" و"نيويورك، أحبّك"
و"طوكيو!" (ميشال غوندري، ليوس كالااكس وبونغ جون-هو) وبالطبع "11 سبتمبر"
(بمشاركة مخرجين من طراز شون بن وكِن لوتش وكلود لولوش ويوسف شاهين). ولكن
في حين صنعت تلك الأعمال من ترف (في حالة باريس، نيويورك، أحبك) أو بفارق
زمني عن الحدث (كما هي حال 11 سبتمبر)، خارج "18 يوماً" من قلب الحدث،
وكانت المفاجأة ظاهرياً انتماءه إلى السينما الروائية وليس الوثائقية
(بخلاف الشريط التونسي عن الثورة "لا خوف بعد اليوم" لمراد بن شيخ الذي عرض
في كان أيضاً كعمل وثائقي يتناول الثورة بشكل مباشر). ولكن الواقع أن
الصيغة الروائية لفيلم "18 يوماً" ليست مفاجئة ولا هجينة على تراث السينما
المصرية، حيث السينما الروائية متقدّمة بأشواط عن نظيرتها الوثائقية.
التقليد في السينما المصرية هو الروائي. والأخير يفترض، وإن بالحد الأدنى،
مسافة من الواقع وخيالاً لا يتوفران للأفلام الوثائقية، المعقودة-لاسيما في
زمن الحدث-على مقارنة لا مفر منها بالتغطية الإخبارية (الشريط التونسي أكّد
ذلك بما لا مجال للشك). واللافت في الأفلام العشرة القصيرة التي تؤلف "18
يوماً" ابتعادها من التوثيق، ومن مكان الحدث المركزي (ميدان التحرير)،
والتوغّل في حكايات صغيرة، على هامش الثورة، لأشخاص يعيشون تجارب، تفرضها
الثورة بالضرورة، ولكنها تتحول إلى ما يشبه المونولغ الداخلي. ثورة "25
يناير" هي الخلفية التي تحاك أحداث الأفلام أمامها، تتفاعل معها أحياناً،
أو تنفصل عنها سالكة اتجاهات شخوصها وهواجسها الداخلية. تنطبق على "18
يوماً" مواصفات هذا النوع من الأفلام، حيث نقع على تجارب متفاوتة في الشكل
والمضمون والمعالجة. في هذه التجربة تحديداً، تبرز محاولات الشباب أكثر
عمقاً وانفتاحاً على الشك والمساءلة من أفلام المخضرمين، وتتميز الأفلام
التي قررت الإبتعاد من الحديث المباشر عن الثورة.
في هذا الإطار، يبرز شريط كاملة أبو ذكري (من أفلامها الروائية
الطويلة "ملك وكتابة" و"واحد ـ صفر")، "خلقة ربّنا"، المستند إلى حكاية
صغيرة، صرّحت المخرجة انها استوحتها من شخصية فتاة التقتها في ميدان
التحرير أثناء الثورة. شابة جعلتها في الفيلم بائعة قهوة متجوّلة، يفتتح
الفيلم بحوار بينها وبين والدتها حول صباغ شعرها الأشقر (هي المحجّبة).
تخرج الفتاة من منزلها متوجهة إلى الزاوية المعتادة القريبة من ميدان
التحرير حيث تفرش أغراض القهوة والشاي والنسكافيه لتلبية طلبات المارة. على
طول الفيلم، تنشغل بحوار داخلي حول صواب ما فعلته بشعرها، متسائلة ما إذا
كان تغيير لون شعرها (بما هو تغيير في خلقتها) أمراً سيعاقبها الله عليه.
تتناهى إلى سمعها أصوات المتظاهرين القريبة. تنقاد إلى مصدر الصوت، فيما
صوتها الداخلي- الذي يقول الكثير عن وضعها الإجتماعي وعلاقة الخوف التي
تربطها بالدين وتوقها إلى الزواج ووقوعها ككثيرات غيرها تحت تأثير "معادلة
الجمال" السائدة- مستمر كأنما في مبارزة مع أصوات الهاتفين بالحق
والديمقراطية. شيئاً فشيئاً، تذوب بين المتظاهرين، مردّدة الهتافات بانفعال
لا ينم عن فهم ما يجري. تصب هواجسها على الشاب المحمول على الأكتاف، يهتف
بشعارات الثوار. تلاحظ وسامته، تستفيق أنوثتها، تمشي كأنها تلحق به وليس
بمضمون هتافاته، بينما لا تنفكّ تعدّل غطاء رأسها كلّما أزاحه الهواء
كاشفاً عن شعرها الأصفر.
فيلم آخر ينغلق على شخصية واحدة في مكان مقفول هو "كعك التحرير" لخالد
مرعي ("عسل اسود" و"بلبل حيران")، مجدداً تعاونه مع الممثل الكوميدي أحمد
حلمي، المساهم في الفيلم أيضاً بكتابة السيناريو. في شارع ضيق متفرّع من
ميدان التحرير، خياط بسيط، نفهم في الإفتتاحية أنه كان في المستشفى خلال
الايام الفائتة. ما إن يبدأ نهاره المعتاد، حتى يبدأ بسماع أصوات طلقات
نارية قريبة، فيغلق باب محلّه، متسائلاً عما يجري. يتلبّسه الخوف، فينغلق
على ذاته لأيام من دون اية صلة بالعالم الخارجي سوى صراخ الناس والهتافات
وإطلاق النار. وإذ يعتقد أن تلك نهايته، يقرّر تسجيل ما يجري على شريط
كاسيت، متوجهاً بحديثه إلى والده الحاج. يبحث عن اشرطة فارغة، فلا يعثر إلا
على تسجيلات لخطابات الرئيس مبارك وتلاوات قرآنية وأغنيات لأم كلثوم. يختار
الأخيرة ليسجل صوته فوق صوتها. وحين ينفد كاسيت أم كلثوم، يحتار على أي
شريط سيسجل صوته، فيختار التلاوات القرآنية بدلاً من خطابات الرئيس متمتماً
"ربنا بيرحم بس هم (النظام) ما بيرحموش". هكذا يواظب لايام على بث مخاوفه
من خلال التسجيلات الصوتية قبل ان يبدأ بتمييز الهتافات البعيدة المطالبة
بإسقاط النظام. حين يستفيق ذات صباح على دماء ساخنة تحته، يقرّر فتح باب
المحل والخروج في إشارة إلى أن الثورة ودماءها تمس الجميع.
بخلاف شخصيتي أبو ذكري ومرعي البسيطتين، يقدّم أحمد عبدالله
("هليوبوليس" و"ميكروفون") في تجربته القصيرة "شباك"، شخصية شاب (أحمد
الفيشاوي) غير مبالٍ ومنصرف عن أمور الثورة وناسها إلا من خلال متابعتها
على الفايسبوك ويوتيوب. في غرفته الضيقة، يجلس أمام شاشة الكومبيوتر إلى أن
تنقطع سبل التواصل بالإنترنت، فينتقل إلى مشاهدة أخرى من شباك غرفته المطلّ
على غرفة شابة، لا نراها إلا من خلال عينيه، تغادر في الصباح ولا تعود إلا
ليلاً أو تغيب لأيام. نفهم أنها تخرج لتشارك في المظاهرات. تنقضي الايام
الثمانية عشر وهو يراقبها إلى أن يأتي اليوم الذي يعلن فيه مبارك تنحيه،
فيقرر الشاب النزول إلى الشارع كأنه على موعد مع الفتاة. يتقابلان وجهاً
لوجه ويبتسم واحدهما للآخر بينما تفصل بينهما فوهة دبابة الجيش. هل وصل
متأخراً؟
في "حظر تجول"، يخرج المخرج الشاب شريف البنداري (في جعبته تجربتان
روائيتان قصيرتان "صباح الفل" و"ساعة عصاري")، من القاهرة إلى السويس، حيث
يقدّم أحداث فيلمه خلال ساعات حظر التجوّل الليلية وحتى الفجر. القصة
محورها جد وحفيده، عائدان من المستشفى حيث أجريت صور وفحوصات للولد الذي
يعاني من وجع في بطنه. يحاول الإثنان الوصول إلى المنزل، إلا أن سياسة حظر
التجوّل تمنعهما من ذلك، فيدوران في مكانهما، ولكل هاجسه: الجد يبحث عن
طريقة للوصول إلى البيت والحفيد يريد أن يتصور على ظهر الدبابة. بعد
محاولات كثيرة فاشلة، يقرّر الجد إيقاف سيارته أمام دبابة الجيش وانتظار فك
حظر التجول في الصباح ليعود إلى البيت. الفيلم مليء بالرموز الموظّفة بذكاء
ومن دون مباشرة في شكل ثنائيات: الجد/الحفيد (جيلان مختلفان بعلاقتهما
بالبلد والثورة والمتغيرات)؛ الليل/النهار (فجر الثورة بعد ظلام طويل فرضه
النظام السياسي السابق)؛ حظر التجول الذي يعني في ما يعنيه خارطة جديدة
تغير معالم الدروب والطرقات والأمكنة التي كانت ثابتة حتى وقت قريب. في
النهاية يستجيب الجد لرغبة حفيده بالتقاط الصورة في إشارة إلى مرونة تحقق
التواصل بين الجيلين، وإلى كتابة تاريخ جديد بالنسبة إلى الحفيد، توثّقه
تلك الصورة الفوتوغرافية.
يشكّل "لما يجيك الطوفان" لمحمد علي التجربة الوحيدة الكوميدية
والساخرة في "18 يوماً". حكاية عن المنتفعين الصغار، يسلّعون الثورة من
خلال تحويلها إلى رمز يختزل بعلم أو بشعار. والتسليع هنا يطاول الطرفين:
الـ"مع" والـ"ضد". الهاتفون لمبارك يحملون صوره والثائرون ضده يجملون ايضاً
صوره، مضافاً إليها تفاصيل صغرى ككلمة "لا" أو "يسقط" أو علامة "X"،
وكلّها تشير إلى سهولة الإنتقال من موقع إلى آخر بجرة قلم.
مباشرة الطرح
الأفلام الخمسة المتبقية من المجموعة تقوم على طرح مباشر لعناوين
الثورة. فعلى الرغم من المناخ التغريبي الذي حاول المخرج شريف عرفة (غاب عن
مهرجان كان) خلقه في "احتباس"، وبعض التعليقات الفكاهية، لم ينجح في تقديم
عمل متماسك لا على مستوى الشكل ولا المضمون. في ما يقدم على أنه ديكور
لمستشفى أمراض عقلية، تتوالى الشخصيات (المرضى) على التعريف عن نفسها وطرح
مشكلتها: من استاذ التاريخ المتهم بخلط السياسة بمادة التاريخ، إلى ضابط
الشرطة المستميت بالدفاع عن النظام إلى حد العنف الخارج عن السيطرة، مروراً
بالشاب الذي يمثّل شباب الثورة، يتفاعل المرضى مع أخبار العالم الخارجي من
خلال التلفزيون أولاً ومن ثم الأصوات الآتية من نافذة العنبر. تقرر إدارة
المستشفى قطع بث التلفزيون وإغلاق النوافذ إلى أن يتنحى الرئيس، فيما
المرضى غارقون في النوم. في أعقاب التغيير، ينقسم المرضى بين موالين
ومعارضين وتبدأ محاكمة كل طرف للآخر. فتأتي الحكمة من ضابط الشرطة على شكل
خلاصة تقول بأن نبش الدفاتر القديمة سيبرهن عن تورّط الجميع في فساد النظام
السابق. هنا يتحوّل الفيلم اشبه بمرافعة، يضعها عرفة على ألسنة شخصياته
ولكنها في الواقع مرافعة يدافع بها عن نفسه في وجه الإتهامات الموجّهة إليه
وإلى غيره من الفنانين الواردة أسماؤهم على اللائحة السوداء بسبب من موقفهم
السلبي أو المحايد من الثورة. بخلافه، يرمي مروان حامد ("عمارة يعقوبيان")
بفيلمه "19-19" في جانب تقني بحت، حيث يصور جلسات تحقيق طويلة مع مسؤول في
شركة برمجة (عمر واكد) وضابط من أعتى رموز النظام (إياد نصار في أداء
لافت)، يحاول أن يفهم كيف يمكن ثورة أن تقوم من دون توجيهات وتخطيطات
خارجية وأن تنطلق من الفايسبوك.
يتصب فيلم يسري نصر الله "داخلي/خارجي" بتجربتي "كعك التحرير" و"شباك"
من خلال اشتغاله على فكرة العالمين الداخلي والخارجي للشخصيات. وهو الفيلم
الثالث (إلى جانب "شباك" أحمد عبدالله و"التحرير 2/2" لمريم ابو عوف) الذي
يقوم على اسماء ممثلين نجوم هم يسرا ومنى زكي وآسر ياسين. تدور الحكاية حول
زوجين (زكي وياسين)، مختلفان في رد فعلهما تجاه الثورة. الزوجة تريد الخروج
إلى الشارع فيما الزوج خائف عليها وعلى نفسه من مخاطر المشاركة. أما يسرا،
فتظهر في مشهد قصير في افتتاحية الفيلم، تروي بتأثر مشهد موت شاب بالرصاص
وتحث الزوجة (منى زكي) على النزول معها إلى المظاهرات. لا يتوانى نصرالله
(الأكثر تحققاً وشهرة إلى جانب عرفة في المجموعة) عن صوغ فيلمه حول لحظات
الإنفعال الأولى التي تشعر بها الزوجة حين تهرب من المنزل وتنزل إلى
الشارع. مزيج من الدهشة والنشوة، تبثّهما في شريط صوتي يرافق الصورة، فيما
صور المظاهرات واقعية من حول النجمين زكي وياسين. فكرة بسيطة، لا تحمل اي
عمق، سوى ربما تعبيرها الصادق عن مشاعر المخرج الذي ينتمي إلى جيل
الإنكسارات والخيبات. التأكيد سمة هذا العمل، بخلاف الشك الذي انطوت عليه
أفلام الشباب.
أما مريم ابو عوف فتقدم في "تحرير2/2" تجربة روائية قصيرة محكمة لجهة
الشكل والمضمون، لا تخلو من دعوة إلى التسامح في حق "المضللين" والمدفوعين
بسبب الفقر والجهل إلى الدفاع عن النظام. عائلة تعيش تحت خط الفقر (تلعب
دور الزوجة هند صبري والزوج آسر ياسين)، تسمع عن مطالب الثورة بخلع الرئيس
باستهجان من لا يستطيع أن يتخيل بديلاً أو حلاً ممكناً لما هو قدري لا فرار
منه. يجند الزوج بلطجياً تحت غطاء الدفاع عن الوطن في وجه المخططات
الأميركية والصهيونية، ويغريه مال قليل يسد رمق أطفاله. تسانده الزوجة من
أجل المال (تعده بأكلة سمك حي يعود) وايضاً من أجل "خدمة الوطن". يتأخر في
العودة، فتهيم الزوجة على وجهها في الحارة، حيث تشاهد أعمال العنف وتحديداً
يوم 2 شباط الذي شهد موقعة الجمال. لا تصدق عينيها أن ما يجري في مصر. يعود
الزوج مكسوراً، يمد يده بالخمسين جنيه الملطّخة بالدم. "تحرير 2/2" من أكثر
الأفلام المشغولة بصرياً بسبب من اشتغال المخرجة عليه لوقت أطول من
الآخرين. أما أحمد علاء، فيقدّم في "أشرف سبيرتو" حكاية مشابهة بمضمونها
لجهة صحوة الفرد. إنها حكاية حلاق في ميدان التحرير، ينصرف بداية عن الثورة
بمشاكله المادية والزوجية، قبل أن يعثر على معنى لحياته خارج مشاكله
الفردية من خلال مساهمته في الثورة، يما يصالحه أيضاً مع زوجته.
المستقبل اللبنانية في
27/05/2011
أزمـة الحـوار الوطـنى من «القـاهـرة» إلى «كــان»!
كتب
طارق
الشناوي
لم تغب الأحداث المصرية وما يجرى فيها عنى فى «كان» ولا غابت
أيضاً عن كل المصريين.. نعم كنا نشاهد فى اليوم ربما خمسة أفلام ونقرأ عنها
ونتناقش
ولكن الشأن المصرى ظل حاضراً بقوة.. تواجدنا فى المهرجان هذه
الدورة هو أحد إنجازات
الثورة فهو حضور لمصر الثورة وليست مصر السينما ربما باستثناء فيلم «حسين
كمال»
الرائع «البوسطجى» الذى عرض هذه الدورة فى
قسم «كلاسيكيات» بعيداً عن ذلك فإنه لا
يحق لأحد الحديث عن أى إنجاز سينمائى حققته مصر.. فيلم «صرخة
نملة» عمل فنى تجارى
فى بنائه ولا يصح أن نضيف كلمتين أو مشهدين عن 25 يناير لنعتبره فيلماً
ثورياً يليق
بمصر هذا يعتبر نوعا من الغش السياسى.. إدارة مهرجان «كان» لها منطقها وهى
أنها
تريد أن تحتفل بمصر بعد 25 يناير ولم تجد الباحثة السينمائية
«ماجدة واصف» أى فيلم
روائى طويل جاهز سوى «صرخة نملة» وهكذا تم عرضه على بلاج الريفيرا فى «كان»
عرضاً
رسمياً طبقاً لقواعد المهرجان نستحق بمقتضاه أن نصعد على السجادة الحمراء
ونلوح
بعلامة النصر كما فعل منتجا الفيلم «كامل أبو على» و«نجيب
ساويرس» والمخرج «سامح
عبد العزيز»، والكاتب «طارق عبدالجليل» وبطلا الفيلم «عمرو عبدالجليل»
و«رانيا
يوسف» ولكن علامة النصر هذه تعنى أننا نقول للعالم بأننا حققنا انتصارا
سياسيا
وطنيا فهم يصعدون على السجادة باعتبارهم مصريين ينتمون للثورة
ولا علاقة للنملة
بذلك.. إنها توابع المعجزة الوطنية التى حققها الثوار فى ميدان التحرير
وغيره من
ميادين مصر.. أظن وأرجو ألا يخيب ظنى أن صناع فيلم «صرخة نملة» كانوا
مدركين تماماً
أن سجادة ''لوميير'' تحية للثورة وليست لهم.. ونأتى إلى الفيلم
الذى أثار جدلاً
واسعاً «18يوم».. الاختيار بالتأكيد أيضاً سياسى والمشاركات لم تكن تحمل فى
قسط
وافر منها سوى التأكيد على أنهم ثوريون من ميدان التحرير وليسوا من ميدان
«مصطفى
محمود» الذى أراه لايزال يتمتع بنفوذ وقوة.. ما حدث فى القاهرة
قبل أن يشارك الفيلم
فى «كان» تستطيع أن تقرأ من خلاله الكثير وهو أن البعض اعترض على أسماء
محددة لعبت
دوراً فى تلميع النظام الفاسد مثل المخرجين «شريف عرفة» و«مروان حامد»
والفنانة
«يسرا»،
ولم يلجأ المخرجون ولا الفريق المدافع عنهم إلى الأسلوب التقليدى فى نفى أو
تبرير الموقف لكن إلى الخطة رقم اثنين وشعارها «لا تعايرنى ولا أعايرك الهم
طايلنى
وطايلك».. بدءوا فى تقليب الأوراق القديمة للبحث عن موقف قديم
لهذا أو ذاك مؤكدين
أنهم كلهم منافقون مع اختلاف الدرجة النفاقية.. هناك من يدافع قائلاً ما
الذى يفعله
الفنان عندما يُدعى إلى برنامج لتلميع الرئيس ويتناسى هؤلاء أنه من الممكن
أن يقول
لا ولن يموت جوعاً قالها بالمناسبة المخرج «يسرى نصر الله»
ورفض أن يصور برامج
دعائية عن حسنى مبارك.. أقصى ما تملكه الدولة هو أن تعتبره شخصاً غير مرغوب
فيه فى
الإعلام المصرى الرسمى وربما يمتد إلى جزء من الإعلام الخاص الذى كان
واقعاً تحت
قبضة الدولة أيضاً ولكن لم يمت «يسرى» فنياً.. وعندما رفض «صنع
الله إبراهيم» جائزة
الرواية وأعلن على المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية قبل نحو 8 سنوات أنه
لا
يشرفه الحصول على الجائزة من نظام فاسد ظل «صنع الله» كاتباً كبيراً لم
يستطع أحد
أن ينزع عنه هذه الصفة فلم تعد الدول تملك كل الأوراق.. فى جلسة الحوار
الوطنى
بالقاهرة أراد البعض أن يتواجد فى الكادر وهم محسوبون بقوة على
العهد الفاسد لم
يتعاملوا فقط معه لأن دائرة التعامل ربما تتسع لتشمل كل المصريين ولكنهم
كانوا
عملاء له والفارق شاسع ولهذا فإن إقصاءهم عن هذه الجلسات أراه منطقياً ولا
يعنى ذلك
أن ننفى عنهم إبداعهم ولا تاريخهم ولا إنجازهم الثقافى ولا
مصريتهم ولكننا نتحدث
هنا عن الموقف السياسى لأن هؤلاء يشاركون فى الحوار ليسوا باعتبارهم من
المدافعين
عن النظام الفاسد ولكنهم يريدون التأكيد على أنهم كانوا مناضلين ضد النظام
البائد
أى أنهم مستمرون فى الخداع والنفاق.. مصر تواجدت فى «كان»
بفيلم «18 يوم» بسبب
الثورة المصرية ولا يحق لأحد أن يتحدث عن الإبداع الفنى.. أغلب الأفلام
القصيرة
وعددها عشرة يعوزها الومضة الإبداعية ولكن ليس الآن مجال التقييم الفنى..
لا تزال
القضية المطروحة بقوة هى أن من لمع وورنش مبارك وابنه وعصره سينمائياً ليس
من حقه
الآن أن يتصدر الكادر فى أول تواجد سينمائى عالمى لمصر
الثورة.. ولهذا جاء موقف
«عمرو
واكد» الرافض للصعود على السجادة فى «كان» احتجاجاً على أسماء لا يحق لها
أن
تتشعبط فى قطار الثورة فى «كان».. كما لم يكن يحق لها أن تتصدر أيضاً جلسات
الحوار
الوطنى فى «القاهرة»!!
مجلة روز اليوسف في
28/05/2011 |