أكد الفنان السوري جمال سليمان أن مشاركته في مسلسل «قصة حب» الذي
يناقش قضية التعليم، ينبع من قناعته الشخصية بأن تحقيق أمل هذه الأمة يبدأ
من منظومة التعليم الصحيح، فقضية التعليم آفة مصر والعرب حالياً. وقد أدهشه
إيمان كل فريق العمل في المسلسل بهذه الحقيقة المرة.
ورداً على انتقاد البعض لأدائه اللهجة المصرية في المسلسل، علّق جمال
قائلاً: «المسلسل
ليس لهجة فقط. ومع هذا أرى أن اللهجة كانت مضبوطة تماماً. وليس لدي أي
عيوب حينما أتكلم اللهجة المصرية وكانت تشرف على اللهجة في المسلسل
الدكتورة منى
صادق وهي أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية ولم تترك أي
غلطة إلا وصححتها.
وكذلك أنا قمت بالاستعداد الجيد قبل تصوير المسلسل بأشهر، وعموماً أنا سعيد
جداً
بالعمل لأني ابتعدت فيه عن الأدوار الصعيدية التي قدمتها من قبل، لأن
الممثل يحب أن
يقدم أدواراً جديدة ومختلفة. أنا أمثل منذ أكثر من خمسة وعشرين
عاماً قدمت خلالها
شخصيات سلبية وإيجابية وأخرى مركبة وبسيطة. ومثلما قدمت «مندور أبو الدهب»
و «التغريبة الفلسطينية» فأنا أحب أن أغير من
جلدي وأنوع في أدواري».
وحول طرح المسلسل لشكل جديد للمنقبة من خلال شخصية رحمة المثقفة التي
تتحدث عن
روجيه جارودي، قال: «لقد تغيرت أنماط كثيرة في المجتمع ، ومن هنا قدمت
شخصية
المنقبة بطريقة مختلفة بعيداً عن الطريقة التي كانت المنقبات يقدمن بها من
قبل حيث
كان يتم تقديمهن بأنهن غير مثقفات يغلب عليهن التعصب
والمغالاة. لكن الواقع غير ذلك
كما عرض المسلسل صورة حقيقية للسيدات المنقبات بأنهن دارسات للكثير من
الثقافات
المختلفة».
المجتمع والآخر
ويدعو المسلسل إلى التقارب بين فئات المجتمع وتقبّل الآخر وأن نفهم
بعضنا البعض،
كما يطالب المسلسل بعدم الغلو في الأفكار. نحن نرى أن على السلم الاجتماعي
في
العالم العربي علامة استفهام كبيرة جداً الآن، ولهذا أسباب مرتبطة بسوء
التخطيط
والفساد وانعدام العدالة الاجتماعية وتراجع قيمة العلم
والتعليم، وبما يحدث في
العالم وتأثيرات العولمة علي المجتمع العربي واختلافنا على نوعية الهوية
وعدم وجود
الحوار والتراكم. كل هذا يهدد مستقبل الأمة العربية في ظل الانفجار السكاني
الذي
شهده العالم العربي منذ نهاية الستينات وحتى الآن. فهناك فجوة
كبيرة بين النمو
السكاني والنمو الاقتصادي هناك إهمال شديد لمسائل حيوية ومهمة وحساسة، هناك
اختفاء
للمثل والنموذج في حياتنا وأجد حرجاً كبيراً في الترويج لكل ما هو رديء».
جمال سليمان سعيد بتجربته مع المخرجة إيمان حداد على رغم أنه لم يكن
لديها أي
سابق تجربة إخراجية، لكن لديها تجارب استمرت لسنوات عدة مع عمالقة فن
الإخراج في
مصر، كمساعد مخرج للراحل يوسف شاهين أو المخرجين شريف عرفة أو محمد خان أو
خيري
بشارة.
وعن رؤيته للدراما المصرية هذا العام، أوضح سليمان أن هناك تحولاً
كبيراً في
الدراما المصرية الآن: «صحيح أن المتحول بدأ منذ ثلاث سنوات لكنه تبلور هذا
العام
وهذا التبلور سيزداد سطوعاً ووضوحاً في الأعوام المقبلة. وهي خرجت من
إطارها السابق
التقليدي القديم إلى عالم مختلف أكثر سينمائية فيه تحتل الصورة ومكوناتها
كضوء وصوت
ومؤثرات أخرى حيزاً كبيراً جداً واهتماماً كبيراً من المخرجين، هذا كله تم
مع دخول
دماء جديدة إلى الدراما المصرية من شباب لديهم خلفية سينمائية سواء كانوا
مخرجين أو
مصورين». وضرب سليمان على هذا مثال في «قصة حب»، قائلاً: «هذا
العمل تم تصويره
بتقنيات جديدة، وهو ما أدركه المشاهد ربما سواء كان التصوير بكاميرا واحدة
«مشهد
مشهد» إلى جانب استخدام العدسات في العمل مثل ما يحدث في التصوير
السينمائي. كل هذه
الاختيارات الفكرية والنفسية والعاطفية والاجتماعية والتقنية
والفنية كانت موجودة
عند المخرجة إيمان حداد».
وأشار جمال الى أن المسلسل أعاد الاعتبار لقيمة مهمة في حياتنا وهى
روح العائلة
العربية لأنها تمثل نواة المجتمع العربي على مدار التاريخ، «ولعلنا نسمع
دائماً عن
التفكك العائلي الذي يسود المجتمع الغربي، ولكن يظل التماسك والترابط بين
أفراد
الأسرة العربية هو الأبقى، ولكن للأسف بدأ يتلاشى واختفاء
الحوار المشترك كل هذه
دوافع أدت إلى تفتت المجتمع العربي». وتابع: «يبدو أننا تعودنا من خلال ما
يعرض من
دراما أنه أصبح لزاماً علينا ألا نجسد الإنسان درامياً كشخصية متكاملة بل
ينبغي أن
يكون نصاباً أو خائناً أو مرتشياً أو لصاً. أما أن يكون حتى
مجرد شخصية إيجابية
فهذا يعدّ خطأً، وعلى أية حال الناظر ياسين ليس شخصية مثالية بالمعنى
الحرفي بل له
أخطاؤه».
رحمة المثقفة
وحول ما يقال عن أن قصة الحب التي نشأت بين ياسين ورحمة في «قصة حب»
تبدو غير
منطقية، قال: «لا أرى أي وجه للالتباس فنحن فقط اعتدنا أن تكون شخصية
المنقبة
متجهمة تبدأ كلامها بالحديث عن الجنة والنار والحلال والحرام. ولكن عندما
نرى فتاة
ماجستير آداب قسم فلسفة ترد علي بالحجة والمنطق لا بد أن تلفت انتباه من
يسمعها،
وهذا ما قصدناه من أن تكون رحمة على هذه الشاكلة. وربما أدرك
«ياسين» من تصرفات ابن
رحمة أنها شخصية عنيفة لكن المفاجأة أن والدته إنسانة مثقفة وواعية وتمثل
شكل
المرأة العصرية، ولو كانت منقبة. وأعتقد أننا نجحنا في تطوير العلاقة
بينهما من دون
افتعال. ولقد نجح الدكتور مدحت في خوض مغامرة على حساب كل ما هو تقليدي وفي
جذب
المشاهد كي يكون واقعياً في تقديمه للعلاقة بين ياسين ورحمة».
وعن انتقاله من مرحلة الصعيدي مروراً بأدوار الشر إلى الشخصيات
المركبة ووصولاً
إلى شخصية الناظر، أجاب: «لم أجد أي صعوبة في تجسيد شخصية الناظر
بمواصفاتها
الغارقة في الإنسانية من جهة، نعومتها وشهامتها ونبل أخلاقها من جهة ثانية.
أؤكد أن
المجتمع العربي متشابه جداً على مستوى القضايا والهموم
المشتركة، وعموماً في سورية
المشاكل والقضايا نفسها في التعليم والأسرة. وبالنسبة إلي لم يكن الناظر أو
العائلة
أو ما يحدث ضمن أحداث المسلسل غريباً، لأن كل ذلك أقرأ عنه يومياً سواء كنت
في
سورية أو في القاهرة، وفي النهاية نحن مواطنون لدينا أقارب
وأصدقاء وأبناء وأحداث
متشابهة».
واعترف جمال سليمان أخيراً أن هناك تماساً إنسانياً بينه وبين شخصية
ياسين.
لافتاً الى أن هناك كثيراً من النماذج المشرفة في المجتمع تتشابه مع شخصية
ياسين.
هو الذي بطبعه لا يحب الأشخاص الكسالى ويكره المقصرين ولا يعترف بالإنسان
الذي لا
يحسن عمله.
الحياة اللندنية في
24/09/2010
النقد الدرامي!
إبراهيم حاج عبدي
يدور نقاش في منابر سورية مختلفة حول النقد ومدى موضوعيته في تناول
الأعمال
الدرامية السورية التي عرضت خلال الموسم الرمضاني الأخير، والتي لم تنل رضا
نقاد
الدراما كثيراً، إذ شنوا هجوماً على العديد من الأعمال، فانبرى أصحابها،
بدورهم،
للدفاع، والتشكيك في «نزاهة» تلك الأقلام «الناقدة».
من البديهي أن يختلف النقد في شأن مسلسل معين، ومن البديهي، كذلك، أن
تتباين
الآراء لدى تناول هذا العمل الدرامي أو ذاك، وثمة أعمال قليلة جداً تتفق
الآراء في
بشأن «تميزها» أو «رداءتها». لكن المشكلة ان التباين والاختلاف يصلان في
الكثير من
الأحيان إلى حد النقيض بين من يعلي من شأن عمل درامي معين،
وآخر يهبط به الى الدرك
الأسفل. فهل يحتمل المسلسل التلفزيوني هذا الانقسام النقدي الحاد؟، خصوصاً،
ان
المسلسلات تختلف عن فيلم السينما، مثلاً، بوصف هذا الأخير فناً يغوص في عمق
القضايا
وينطوي على تأويلات ومعالجات معقدة أحياناً، قد تبعثر أقلام
النقاد في اتجاهات شتى،
أما المسلسلات فتنجز للتلفزة وهذه وسيلة جماهيرية تتطلب الوضوح والسلاسة
والرشاقة
في عرض الحكاية، ما يدفع الى التشكيك في ذلك الانقسام بين مديح بلا حدود،
وهجاء بلا
حدود.
قليلة هي الأقلام الحصيفة التي تتناول المسلسل بموضوعية، وبمعزل عن
عوامل أخرى
كالصداقات أو العلاقات الشخصية التي تربط بين الناقد وصناع العمل، فهذه
العلاقة
السلبية أو الإيجابية تؤثر على مفردات الناقد وتجعله يتجاهل «المهنية» على
حساب
الصداقة، أو العداوة، وثمة ما هو أسوأ، إذ يمتثل بعض النقاد
لسطوة المال، فيدبجون
مقالات مادحة؛ مضللة طالما ان ثمة من يدفع، وهو ما يذكرنا بكاريكاتور يظهر
قلماً
يخط على صفحة بيضاء، بينما ثمة يد في الأعلى تضخ فيه نقوداً معدنية، فتهتدي
ريشة
القلم بضياء النقود، وتسرف في المديح كلما أُسرِف في منح
النقود.
ما سبق لا يعني ان الناقد وحده يتحمل المسؤولية، فأصحاب العمل،
بدورهم، يشككون
في قدرات الناقد ومواهبه إنْ هو وجّه نقداً موضوعياً لعمل ما. فحين يذم
يكون «مراهقاً» في عالم الصحافة، مبتدئاً وجاهلاً
بمبادئ النقد، أما حين يمدح، ومهما
كانت ركاكة العبارات والجمل، فإن أصحاب العمل أولئك يبالغون في
الاحتفاء به وتبجيله
على ما خطت يمينه.
إن مدحتَ فأنت مرحب بك، وإنْ هجوتَ فأنت صحافي مارق، والمعضلة تتمثل،
أساساً، في
افتقار الذهنية العربية الى ثقافة النقد والحوار والاختلاف، والمفارقة أن
من يفاقم
من تأثير هذه المعادلة هم النقاد أنفسهم من جهة، وصناع العمل الدرامي من
مخرجين
وممثلين ومنتجين من جهته ثانية، وسيبقى النقد الموضوعي؛
المنزّه عن أي غرض شخصي،
استثناءً طالما أن هناك من يسمح لنفسه بتبديل حرف النون حاءً في كلمة:
«ناقد».
الحياة اللندنية في
24/09/2010
الحاسة السادسة
مخرج ضد (الدكاكين)
بقلم :إبراهيم توتونجي
يصطدم المخرج التونسي، المقيم في سوريا، شوقي الماجري، لدى مباشرته في
تنفيذ أي عمل جديد في التلفزيون أو السينما، بميكانيزمات أساسية في الثقافة
العربية المعاصرة: الجهل بفلسفة الجمال، وانفلات الانفعال الشعبوي في مظاهر
حياتنا كافة.
من هنا، فإن صاحب أحد أهم عملين في تاريخ الدراما العربية، في رأيي
ورأي كثر من النقاد والعالمين، وهما »الاجتياح« و»هدوء نسبي«، المهجوس دوما
بالحس الجمالي للابداع، وسحر الصورة التي تجسد، لا الفرح غالبا، بل
المعاناة والمأساة والخراب (ذلك السحر الذي يجعل حقولا من الليمون تعصر في
معدتك على رأي الشاعرة رولا حسين)®.
ما ان يفرغ من الخوض في معركة في مواجهة تلك الميكانيزمات، حتى يصطدم
بأخرى. وعلى الرغم من عناده البادي على مضيه قدما في تنفيذ ما يهواه، رغم
المشاكل الانتاجية والتضييقات السياسية، فإنه، بالطبع وكما أي مبدع، لن
يكون سعيدا بأن يمضي أكثر من عشرة شهور بين أخذ ورد، ومراجعة الرسائل
الرقابية، مع الاشتراطات السياسية، والرد على المقابلات الصحافية الموجهة،
وتحمل اعتذار نجوم راهن على جرأتهم لدعم مشروعه.
كل ذلك لانجاز فيلم »مخيف« عن عالم الانفاق الذي يتحرك فيه
الفلسطينيون عنوانه »مملكة النمل«. عن فلسطين تحت الأرض، بعد أن صورها،
بالاحتلال والعدوان والآلام والحكايات، فوق الارض في عمله »الاجتياح«، الذي
تمكن من منافسة النزق الأميركي المعادي لقضايا العرب وفلسطين، في عقر دار
تظاهرته التلفزيونية الأكثر رفعة، أعني »جوائز ايمي«، بل إنه انتزع احدى
هذه الجوائز.
هذا النزق، الممتد أيضا الى قلوب المنتجين العرب، الذين يهابون، اسم
»فلسطين«، على شاشاتهم، لم يمنع الماجري من اعادة الكرة، وفي عمل بديع يحكي
عن تغطية اعلاميين عرب لوقائع الاحتلال الاميركي لبغداد، هو »هدوء نسبي«.
احتجت القاهرة على فكرة العمل، رغم تأكيدات كاتبه ومخرجه أنه لا يرمز
الى منشآت الحكومة المصرية على الحدود مع فلطسين، وأثرها على حياة السكان
واضطرارهم الى التحرك في أنفاق ترابية، بل الى الفترة التي أعقبت اجتياح
الكيان الصهيوني لرام الله عقب الانتفاضة الثانية وحصار مقر الرئيس
الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وقامت الصحافة المصرية، على مدى الشهور الماضية بدءا من يناير، بشن
حملة ضد الفيلم، وهو بعد حبر على ورق، أدت الى مطالبة الجهات المصرية
الانتاجية، المشاركة مع جهات تونسية وسورية في انتاج العمل، في اجراء
تعديلات أساسية على السيناريو، ومنع الفنانين السوريين من المشاركة في
أدوار البطولة، وجعلها حكرا على الممثلين المصريين.
طبعا، لم يرضخ الماجري، كذلك »بلع« مفاجأة اعتذار السوري خالد تاجا عن
القيام بدور رئيسي في الفيلم (شخصية أبو النمل)، وها هو اليوم في صدد وضع
اللمسات الأخيرة على ما انجز من الفيلم بين حلب واللاذقية (نصفه الآخر في
تونس)، رغم كل الحملات، ومعه عابد فهد وصبا مبارك وآخرون.
ويستحق الماجري تحيتنا لأسباب عدة: امتلاكه رؤية سينمائية متكاملة
(تنسحب أيضا على أعماله الدرامية) تدمج بين حرفية اللغة وجودة المضمون، وهي
معادلة من النادر أن نقع عليها في عالمنا العربي، وأيضا حسه الجمالي
والانساني وايمانه المطلق بالفرد العربي أينما كان وكيفما تكلم لسانه. من
هنا، فهو يستحق لقب المخرج الحقيقي®. في مواجهة منطق »الدكاكين«!
البيان الإماراتية في
24/09/2010
«شيخ العرب همام».. منظومة القيم
شفيق طه النوباني
تستحق الأعمال الدرامية التي تُعرض على الشاشات الفضائية اهتماما أكبر
في الوسط النقدي والثقافي، فهي أعمال تنال متابعة واهتماما واسعا من
المجتمع بشرائحه المتنوعة، ومن المفروغ منه أن هذه الأعمال تمارس تأثيرا
كبيرا في المجتمع إثر هذه المتابعة. وقد تم تناول عدد من هذه الأعمال في
الصحف والمجلات الثقافية والفنية بالنقد الإيجابي والسلبي، بل إن بعضها نال
من النقد الإيجابي أو السلبي أكثر مما يستحق.
تتناول هذه المقالة عملا دراميا يستحق من المشاهد أن يجلس أمام
التلفاز ساعة على مدى واحد وثلاثين يوما، فهو عمل يأسر المشاهد بأحداثه
وشخصياته المتقنة وتناوله ملامحَ المجتمع واستلهامه أحداثَ التاريخ، بل إنه
يعاين معاينة دقيقة للعقلية العربية وعمقها الثقافي الذي مارس تأثيره
الجوهري على حركة التاريخ وتفاصيل الحياة في المنطقة.
عُرض مسلسل "شيخ العرب همام" على فضائية "أبو ظبي" في شهر رمضان، وهو
يتناول محاولة زعيم صعيدي مشهور للسيطرة السياسية على منطقة الصعيد في مصر
إبان حكم المماليك في القرن الثامن عشر دون أن يغيّب شكل الحياة الاجتماعية
في تلك المرحلة، ولعل محاولة تجسيد العمل لشكل الحياة هذا هو الذي جعله
يتجاوز تفاصيل التاريخ، بل جعله يتجاوز أيضا بعض المنقول تاريخيا عن شخصية
شيخ العرب همام.
معركة شيخ العرب مع المماليك هي معركة السلطة التي يحاول كلا الطرفين
الاستحواذ عليها في مناطق الصعيد، وهي معركة لا تتوقف في أدواتها على أدوات
الحرب بل تمثل القيم قوامها، بل إن أدوات الحرب الحقيقية لم تتم إلا في آخر
حلقتين حيث خسر جيش شيخ العرب أمام جيش علي بك المملوكي في أسيوط، وقد
انتهت هذه الحرب نهاية موجعة لشيخ العرب، إذ أدت إلى موته قهرا وكمدا. إنها
نهاية لا تحاول تجميل الواقع والتاريخ، بل تعبّر عن سيرة المنطقة
التراجيدية بكل ما فيها من محاولات مجهضة للتغيير.
يمثل شيخ العرب همام منظومة قيمية لا تقترن بالصعيد المصري حسب، بل
ترتبط بالعقلية العربية بكليتها، فقد جاءت رئاسة همام لقبائل هوارة في صعيد
مصر بحكم الوراثة، وقد استطاع أن يقوم بدور الشيخ الذي يتمثل قيم مجتمعه
بروح متسامحة، فهو يجلس كل صباح ليحل مشاكل الناس منطلقا في ذلك من إحساسه
بالمسؤولية المباشرة عنهم، وهو يقدّر أهمية الأقرباء من أبناء عمومته إذ
جعل مشورته فيهم، لكن تقديره لأبناء عمومته لم يجعله يخرج عما يمليه عليه
انتظامه في القيم التي ترسخت خلال حقب تاريخية موغلة في القدم، فرغم اعتراض
ابن عمه إسماعيل على حماية همام لقاطع الطريق جابر الذي أحب ابنته ليلى
وتصميمه على قتله، إلا أن شيخ العرب منع ذلك وزوّجه من إحدى الجواري إذ رأى
أن "جابر" لم يمس شرف العائلة حين أحضر ليلى إلى أهلها دون أن يخطفها.
لم يتوقف تأثير مفهوم الإجارة على الإسهام في التفريق بين همام وابن
عمه إسماعيل، بل أسهم أيضا في توسيع الهوة بينه وبين المماليك إذ أجار من
يهرب منهم إليه في الصعيد نتيجة خلافاتهم الداخلية التي تستوجب أن ينفذ
المستضعفون من كبرائهم بأرواحهم. فالتزام شيخ العرب بمبادئه وقيمه لم يصب
في مصلحته أمام المماليك، بل وضعه في موقف أكثر تشددا، بل إن إجارة علي بك
الكبير الذي استجار به بعد أن انقلب عليه أحد كبار المماليك لم يشفع لهمام
أمامه ولم يجعله ينجو من محاولاته للقضاء على قوته في الصعيد.
في مقابل هذا الالتزام الكامل بالمبادئ والقيم لدى شيخ العرب نجد
تجردا كاملا منها لدى المماليك، وهذا لا يعني بالطبع انعدام وجود منظومة
قيمية لديهم، لكن هذه المنظومة لم تتشكل بما يكفي لترسخها في دواخلهم، فهم
مجموعة من العبيد الذين تحوّلوا إلى أسياد، وتحولت على إثر ذلك قيمهم من
قيم العبيد إلى قيم الطبقة الحاكمة، لكن هذه القيم الجديدة لم تمتلك أرضية
تاريخية واجتماعية راسخة تتناسب مع طبيعة تكوينهم الاجتماعي من جهة، ومع
طبقتهم الاجتماعية الجديدة من جهة أخرى.
لقد أشار محمد أبو الذهب إلى مفهوم الأستذة لدى المماليك في مقابل
الوراثة لدى عرب الصعيد، فالمملوك يَعُدّ أميرَهُ أستاذَهُ الذي يتلقى منه
أصول السياسة والحياة، كما أن كبار المماليك يتعاهدون في ما بينهم عهد
الوفاء الذي يستوجب عدم خيانة أحدهم لآخر، لكن هذا العهد لا يصمد أمام
خلافاتهم ومحاولات كل منهم المستمرة للسيطرة على السلطة، وفي مقابل ذلك نجد
في الصعيد نوازع أقل بكثير للسلطة، كما نجد انصياعا غالبا لمراد شيخ العرب
همام.
لقد استطاع علي بك من خلال افتقاره إلى منظومة قيمية راسخة ومن خلال
إدراكه لطبيعة قيم الصعيد المصري أن يتغلب عليهم، كما أن ترسخ القيم لدى
شيخ العرب لدرجة لم يستطع من خلالها تصور أن يتجرد منها علي بك إلى هذا
الحد، لم يمكنه من التغلب عليه، إذ لم يتخيل أن ينقلب عليه بعد أن أجاره
ومكّنه من استعادة منصبه في القاهرة، هذا رغم كون شيخ العرب لا يفتقر إلى
الدهاء المعروف لدى العرب في تراثهم السياسي، لكنه دهاء يبقى في ذلك الإطار
القيمي والعرفي، وهل كان دهاء عمرو بن العاص في موقف التحكيم الشهير إلا
دهاء نابع من هذا العرف إذ التزم كلا المحكمين بالكلمة، فسادت دولة
الأمويين بناء على هذه الكلمة؟.
ويمكن التوقف عند بعض إفرازات المنظومة القيمية السائدة، فقد انتهت
ليلى ابنة إسماعيل إلى الجنون نتيجة إصرار أبيها على عدم تزويجها ممن لا
تتوافر فيهم السمات التي تقتضيها الطبقة التي ينتمي إليها إسماعيل، فجابر
الذي أحبَّها رفض إسماعيل أن يزوجه إياها لأنه قاطع طريق مقطوع النسل، بل
بقي مصمما على قتله حتى أوصى بقتله برصاصة لم تصبه، في حين أصابته رصاصة
المماليك بينما كان يغنّي لجنود الصعيد في المعركة، كما رفض أن يزوجها من
أمير المماليك في الصعيد المتحالف مع الشيخ همام لكونه عبدا متجاهلا بذلك
المركز الذي يحظى به الرجل، هذا مع أن زواجها من قريبها أحمد الهواري لم
يكن مثاليا، فقد هربت من بيته نتيجة اعتدائه المتكرر عليها بالضرب بدعوى
أنها عاشقة.
لا مجال في هذه المنظومة القيمية لتغيير المكانة، فالعبد عبد والسيد
سيد، واجتهاده لن يشفع له من أجل تغيير مكانته الاعتبارية، بل إن هزيمة
هوارة أمام المماليك ودمار عاصمة حكم شيخ العرب "فرشوط" ومقتل إسماعيل لم
يسمح لجابر بأن يحقق حلمه مع ليلى، ففي أحد المشاهد الأخيرة في المسلسل
صادف جابر ليلى في وسط الدمار الذي خلفته مدافع المماليك، وبعد أن حسب أنه
حقق حلمه خرجت إليه أمها ومجموعة من النساء وفي أيديهن المشاعل، وأبعدنه عن
ليلى.
هل كان التصوف ناجما عن هذا الثبات القيمي خلال تغيرات الزمن
والتاريخ؟ إنه سؤال لا يقتصر في أهميته على هذا العمل الدرامي المتميز، بل
هو سؤال يرتبط بتاريخنا الاجتماعي كله. وقد وظف هذا العمل الدرامي الأحلام
بصورة لافتة بوصفها أداة من أدوات تحقق الحدث، كما جعل شخصية الشيخ سلام
شقيق الشيخ همام شخصية رئيسية لا تقل في أهميتها عن أي شخصية أخرى، وهي
شخصية تتمتع بحس روحي عال ولا تمتلك قدرات اجتماعية ذات أهمية، فقد أسهم
الشيخ سلام في إنقاذ همام من القتل بفضل هذا الحس الروحي، كما أنه أرشده
إلى الوسيلة التي يمكن من خلالها أن ينجب الصبي بعد انقطاع عنه، وما إن
انصاع همام لنصيحته إذ ذهب إلى أحد مقامات الأولياء ومرت به مغامرة صوفية
حتى عاد إلى بيته وزوجته حامل بدرويش، بكر صبيانه.
لعل الحقيقة هي ما يراه الإنسان راسخا في ذهنه غيرَ قابل للتحول أو
التغيير، فما بالك إذا كان راسخا لدى مجتمع بكامله. ألا يصل الالتزام
بالقيم هنا إلى درجة الإيمان الصوفي. ومهما كان الأمر فإن منظومتنا القيمية
هي حقيقتنا التي لن تنفصل عنا، وإن نظرنا إليها نظرة تأملية من الخارج فلن
تنفصل عنا لأنها في داخلنا، وإن ابتعدنا عنها قليلا فرواسبها فينا قائمة
خلال أجيالنا الممتدة، هذا لأنها نحن. هذا الثبات القيمي أنتجنا وأنتج
بكائياتنا التاريخية التي لم تنته بعد. ليست نهايات تراجيدية، بل نهايات
بكائية تجعلنا نعيد النهاية كلما بدأنا، إنها بكائياتنا التي نحب قراءتها
لأنها تتضمن جمالها على الرغم من قصمها لظهر تاريخنا.
لقد انتهى هذا العمل الدرامي بصورة همام ميتا، وإلى جانبه تلك المرأة
التي فقدت أبناءها الثلاثة في الحرب فلم تبكهم بقدر ما بكت بيوت العز عندما
تخرب: "واه على بيوت العز لَمّا تخرب".
الرأي الأردنية في
24/09/2010 |