تباينت الآراء والروايات حول السبب الحقيقى وراء مقتل حسن البنا، مؤسس
جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٤٩، ولكن معظم ما ورد عن هذا الحادث فى
مذكرات السياسيين وأعضاء الجماعة يؤكد أن النظام الخاص أو التنظيم السرى
للجماعة، كان سببا رئيسياً فى حادث مقتل البنا، والدافع الأول الذى جعل من
يقفون وراء حادث الاغتيال، يفكرون فى تصفيته.
بداية اختلفت روايات قيادات ومؤسسى الجماعة، على العام الذى تم فيه تأسيس
التنظيم السرى، فيما قال الشيخ عمر التلمسانى إنه تأسس عام ١٩٣٦، قال صلاح
شادى، أحد أعضاء التنظيم، إنه أنشئ عام ١٩٤٠ بهدف المشاركة فى حرب
«فلسطين»، ونظراً للدور الخطير الذى لعبه هذا التنظيم، يجب وضعه فى خلفية
المشهد عند سرد أحداث مقتل مؤسس الجماعة.
التحقيق فى مقتل «البنا».. وسر سيارة الاغتيال الذى كشف
الجناة
كتب
إسلام عبدالوهاب
«٩٩٧٩ ملاكى القاهرة»، قالها شاب أسمر يرتدى جلبابا وطربوشاً لـ(محمد
الليثى) رئيس قسم الشباب فى جمعية الشبان المسلمين، ورد الليثى (تعال اشهد
معانا) فقال الشاب: «ماليش دعوة، أنا باقولك الرقم، عاوز تاخده خده، مش
عايز أنت حر». كتب «الليثى» الرقم على علبة سجائر ملقاة على الأرض، فبعد أن
شاهد بنفسه الجناة يهربون فى السيارة الليموزين السوداء الكبيرة وفشل فى
التقاط أرقامها يشاء القدر أن تأتى الأرقام إليه بسهولة ليتحمل وحده صعوبة
وعناء أخطر شهادة حادثة اغتيال فى القرن العشرين وهى اغتيال المرشد العام
ومؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا.
وجاء فى كتاب «ليلة مقتل البنا» لمحسن محمد نص التحقيقات والكواليس فى
حادثة اغتيال البنا ونذكر من فصل تحت اسم «زيف» ما ورد بالتحقيقات من زيف
وتضليل للعدالة.
«كان يمكن أن تقتل أيضا».. قالها الرائد محمد الجزار، ضابط مباحث أمن
الدولة، لـ«محمد الليثى» ناصحا إياه بألا يذكر رقم السيارة ولا يزج بنفسه
فى الشهادة وأكمل الجزار قائلاً «ماذا تنتظر.. انصرف سالما» ورد الليثى
«لقد أبلغت النيابة إنى أعرف رقم السيارة» قال الجزار «لا تهتم
بالإجراءات.. انصرف ولن يستدعيك أحد ولن يحقق معك أحد.. وأضمن لك ذلك» سكت
«الجزار» برهة ثم أضاف «لقد توفى الشيخ البنا.. ولم يبق إلا شاهد واحد..
أنت!» ثم تعالت لهجة التهديد فى نبرة حديثه وأكمل «للشيخ أكثر من خصم، هم
قادرون على الثأر ممن يعينون على ضبط الجناة فى الحادث وإنى مشفق عليك من
الاعتقال لأن لك صلة بالبنا. إنه رجل كان يهدد أمن الدولة والحكومة والملك
والمواطنين.. لقد انتهى أمر جماعة الإخوان المسلمين بقطع رأس الثعبان..
اذكر رقما آخر للسيارة يختلف عن الرقم الحقيقى» وبعد سلسلة من المفاوضات
انتهى الاتفاق بين الجزار والليثى.
«٩٩٧٩ أو ٩٩٩٧» قالها الليثى فى غرفة التحقيق المقامة فى جمعية الشبان
المسلمين وبالتحديد فى نفس الغرفة التى كان يجلس فيها الشيخ «البنا» قبل
اغتياله بلحظات، واعترض المقدم محمد وصفى، المفتش بالقسم السياسى، رئيس حرس
الوزارات الذى جاء ليكون رقيبا على الشاهد عند الإدلاء بمعلوماته وقال
«أخبرنى الليثى فى المستشفى بأن الرقم هو ٩٩٩٧»، أثار وصفى بتأكيده للرقم
الزائف حنق الليثى وغضبه، ولم يجد كفارة عن ما فعله سوى كشف الحقيقة كاملة
وتأكيد الرقم الصحيح «٩٩٧٩».
لم يفت الصحافة أن تلعب دورها الدائم فى البحث عن الحقيقة فقد استطاع
مندوب جريدة «المصرى» محيى الدين فكرى أن يخترق السياج الأمنى ويدلف إلى
الجمعية ويحصل على رقم السيارة قبل طرده من قبل رجال الشرطة، وتحرك فكرى فى
سرعة إلى مقر الجريدة ليلتقى بمرسى الشافعى، مدير التحرير، ويكتب وصفا
للحادث فيه رقم السيارة وصورة حسن البنا، ويوافق الرقيب محمود يوسف على
النشر لأنه لم يتلق تعليمات بحظر النشر.
وصدرت «المصرى» تحمل فى صفحتها الأولى رقم السيارة ٩٩٧٩ التى فر بها
الجناة، ولكن مدير الرقابة توفيق صليب فزع من الصورة ورقم السيارة واتصل
بالرقيب العام عبدالرحمن عمار يسأله وأصدر الأخير أمرا بمصادرة الجريدة فى
نفس الليلة، ويتم اقتحام المطبعة وتوقيف الجريدة وتم مصادرة الأعداد
المطبوعة التى لم توزع بعد، وصدرت الجريدة بعد خلوها من الصورة والرقم،
وأحيل الشافعى وفكرى إلى نيابة الصحافة والتحقيق معهما، لكن خمسة آلاف نسخة
تقريبا تسربت بالرقم والصورة وبيعت فوراً ليضاف إلى الأدلة.
«معى ٥٠٠ جنيه خدها.. وستحصل على مثلها، بعد أن تدلى بأقوالك الجديدة
فى تحقيقات النيابة» قالها الجزار لليثى فى لقاء جديد جمع بينهما فى محل
نيوبار بشارع سليمان باشا، ولم يكتف الجزار بإغراء الليثى بالأموال فقط بل
أغراه بالخمر أيضا وحتى النساء فقد كانت هناك سيدة تجلس فى نفس المكان
تتابعهم عن كثب وتبتسم لهم فى إيحاءات ذات مغزى، وعندما وجد «الجزار» أن
إغراءات المادة لا تنفع معه عاد للتهديد وقال له «إن الذين قتلوا البنا لن
يتركوك تضرهم وترشد عنهم وصحيفة المصرى التى نشرت رقم السيارة صودرت»، طلب
الليثى مهلة للتفكير واتفقا على موعد لكن الليثى لم يذهب مرة أخرى لملاقاة
الجزار.
«يا بيه الشيخ البنا اغتيل.. وعندى ٨ أطفال».. قالها السائق محمد
محفوظ، للعقيد محمود عبدالمجيد، فور قراءته رقم سيارته فى الجريدة ورد
العقيد بهدوء «بس. لما يبقوا يتيتموا يبقى يحلها ربنا.. اخرس يا أهبل.. أنت
لك مكافأة وأنا حاشيلها لك». بكى «محفوظ» وقال «انتم اللى عملتم الحادث
وأنا لا كان لى فى الطور ولا فى الطحين» فصرخ فيه العقيد عبدالمجيد قائلاً
«اقفل بقك.. ولا تذكر أن أحداً ركب معك».
وفى النيابة قال محمد محفوظ «كنت داخل السيارة أمام فندق الإيدن»
وقال: إن العقيد كان بالفندق ومعه عدد من أعيان جرجا وبعض ضباط شرطة جرجا،
وعندما سأل المحقق العقيد محمود عبدالمجيد نفى علاقته بالجريمة وقال إنه
سمع عنها فى اليوم التالى وأكد أن سيارته كانت أمام فندق إيدن من الغروب
إلى التاسعة مساء أى إلى ما بعد وقوع الجريمة بأكثر من ساعة وشهد ثلاثة من
ضباط الشرطة ونائب العمدة أنهم كانوا مع عبدالمجيد وأن السيارة كانت تقف
تحت أنظارهم بعيدة عن مكان الجريمة، وبرر عبدالمجيد ذكر رقم سيارته أن
الليثى عرف رقم سيارته عندما زار الجمعية من شهر وأن المقصود بهذا الاتهام
إلقاء الشبهة على الحكومة فى أنها قتلت الشيخ.
«موقفك مشرف ولابد أن تستمر».. قالها فؤاد سراج الدين باشا، سكرتير
عام حزب الوفد، لـ«محمد الليثى» وطلب الأخير منه أن يقف الوفد بجواره لأنه
وحده، ووعده الباشا خيراً، وقابل الليثى عمر عمر نقيب المحامين الوفدى
فوعده خيراً أيضاً.
وأما محمد الجزار، وكبار الشرطة فأحاطوا الليثى بالشبهات وقالوا فى
تحقيقات النيابة وأمام القضاء إنه كان يعمل مرشدا عند «الجزار» ويتقاضى
عشرة جنيهات شهريا قبل الجريمة بعام، وقال صالح حرب باشا، رئيس جمعية
الشبان المسلمين، مدافعاً عن «الليثى» أمام المحكمة: «أدى الليثى واجبه فوق
ما يطيق» ونفى عنه تهمة الإرشاد لصالح الشرطة.
وتذكر «الليثى» الشاب الأسمر الذى منحه الرقم ولم يرض أن يمثل للشهادة
فقد كان محقاً ولو شهد لكان من السهل أن ينفى أمام المحقق أنه رأى رقم
السيارة أو يغير هذا الرقم.
صحافة الإخوان قديماً.. أنشأها البنا لتكون منبراً للدعوة
والسياسة معا
كتب
إسلام عبدالوهاب
«إنما المؤمنون إخوة» شعار رفعته جريدة «الإخوان المسلمون» فى أعلى
صفحتها الأولى، بعددها الأول فى ٢٢صفر لعام ١٣٥٢هـ الموافق ١٥ يونيو١٩٣٣م
وهى جريدة أسبوعية إسلامية جامعة. تمثل لسان حال الجماعة وتخدم كل هيئة
تعمل لرفعة الإسلام وإعادة مجده، ورأس تحريرها الشيخ طنطاوى جوهرى، ورأس
مجلس إدارتها الشيخ محب الدين الخطيب، وأدار القسم الدينى المرشد العام
للجماعة الشيخ حسن البنا بنفسه.
٥ مليمات هو ثمن الجريدة و٣٠ قرشاً قيمة الاشتراك
السنوى داخل مصر وخارجها تباع بـ ٥٠ قرشا، وبدأ توزيع الجريدة بشكل محدود
فى القاهرة، وبدءاً من العدد السابع زادت منافذ توزيعها إلى ٢٦ منفذاً، كان
ثلثها فى القاهرة، والثلث الآخر فى الدلتا والسواحل. وثلث فى الصعيد وخارج
مصر.
تصدرت غلاف الجريدة على نحو ثابت صورة للحرمين المكى والنبوى معاً.
وكان عدد صفحاتها من ٢٤ إلى ٢٨ صفحة. يتضمن كل عدد «فهرست» فى الصفحة
الثانية بديلاً للمانشيتات.
احتلت البسملة صدر الصفحة الأولى، وأسفلها مباشرة القسم الدينى الذى
يقدمه الشيخ حسن البنا، مهتما بالدعوة إلى الله حيناً، وحيناً آخر يتناول
قضية دينية وربما درساً دينياً أو فقهياً أو تفسيراً لأى من القرآن الكريم.
وتليه مقالات لكتّاب من مؤسسى الجماعة مثل الشيخ مصطفى جوهرى العالم
الفيلسوف صاحب «الجواهر فى تفسير القرآن الكريم». والشيخ عبدالرحمن أفندى
الساعاتى نائب الإخوان بالقاهرة ووالد المرشد العام حسن البنا، وكتب فيها
بأسماء مستعارة ومختلفة منها أحمد البنا وأحمد عبدالرحمن، كما كتب فيها
محمد أحمد جاد المولى بك. وأحمد حسن الباقورى، وإبراهيم عبدالباقى، ومحمد
أسعد راجح، ومحمد زهران، ومصطفى الطير وغيرهم الكثير.
أهم ملامح تبويب الجريدة أنها تضمنت موضوعات وقضايا تاريخية تعنى بسرد
الأعلام المشهورة من الصحابة، وكان يكتبها أحمد عبدالرحمن البنا، كما تضمنت
أبوابا أدبية تقدم القصص والقصائد، وكان هناك أيضا باب «السُّنة» ويختص
بالأحاديث، وباب بعنوان «من الصحائف المجيدة» وهو عن شؤون التوحيد
والعقيدة، ولم تنس الجريدة تخصيص باب لعرض مبادئ الإخوان المسلمين، وكان
هناك «المأثورات» فضلا عن باب «بريد القراء».
وهناك أيضا باب بعنوان «ديوان الجريدة» خُصّص لنشر قصائد ذات روح
أخلاقية وإسلامية فى كل عدد.
وجاءت الإعلانات المنشورة مقتصرة فى معظمها على الدعاية للصحيفة، منها
ما يقول «شجعوا جريدة الإخوان المسلمون بإيصالها إلى كل بيت»، وكان هناك
إعلان آخر «حافظ على اقتناء هذه المجلة أسبوعيا وبذلك يكون عندك فى نهاية
العام الهجرى قاموس إسلامى ترجع إليه عند الحاجة»، وكان هناك إعلان مختلف
قليلاً وهو كالتالى »جميل بثينة.. للأستاذ عبدالرحمن الساعاتى.. الرواية
الشعرية التمثيلية المحبوبة».
تبنت الجريدة معارك فكرية عديدة، منها معركة البنا مع القمص سرجيوس
صاحب مجلة المنارة المرقسية وخطيب ثورة ١٩١٩، الذى خطب فى الأزهر لمدة
ثلاثة شهور كاملة ليلاً ونهاراً مرتقياً المنبر وكذا فوق منبر جامع ابن
طولون وهو من القادة الوطنيين المشهود لهم بالشجاعة والوطنية، حيث كتب
البنا فى العدد الثانى للسنة الثانية بتاريخ ٢٦ محرم لعام ١٣٥٣هـ عنوانا
يقول: «بالتى هى أحسن.. إلى القمص سرجيوس» للرد على القمص الذى كتب مقالاً
فى مجلته تحت عنوان «هل تنبأت التوراة والإنجيل عن محمد» ويذكر البنا فى
مقدمة مقالته «اطلعت على هذا العدد فأدهشنى ما رأيت فيه، من تشويهٍ
للحقائق، وافتراءٍ على الأبرياء، وجرأة على تحريف الأقوال ومسخ الآراء»،
وذكر البنا فى مقاله جزءاً صغيراً من مقال سرجيوس واعتبره ركيزة المقال.
فسرجيوس كتب فى مقاله «وبما أن إخواننا المسلمين نعزهم كل الإعزاز وقد
اتجهوا بعقولهم إلى خزانة الأسفار المقدسة السماوية يتجولون بين صحائفها
منقبين باحثين، فنرى أن أقدس واجبات الضيافة أن نرافقهم فى جولاتهم ونقدم
لهم كل ما يسهل لهم مهمتهم ونمسك أمامهم مصابيح كل ما نملك من مصابيح تنير
أمامهم الطريق ليبحثوا وينقبوا ويمحصوا ما يعثرون عليه من دلائل تدل على
نبوة محمد فى التوراة والإنجيل» ورغم اعتماد سرجيوس على علماء المسلمين
أمثال «جلال الدين السيوطى، الفخر الرازى، الإمام البيضاوى، الجلالين،
الطبرى، العدوى، الهندى وغيرهم الكثير»، بالإضافة إلى القرآن الكريم والسنة
النبوية فى كتاباته، لكن ما أثار حنق البنا هو تهكم وسخرية سرجيوس الدائمة
والتى كان يعانى منها الأقباط أنفسهم من رجال الدين واعتبرها البنا على حد
تعبيره «لا تجيزه أدب المناظرة، ولا ترضى بها عفة النقاش».
وتوقفت الجريدة عن الصدور ثم عادت بعد أربع سنوات من إغلاقها فى ٢٩
أغسطس ١٩٤٢م ولكنها ظهرت فى شكل المجلة بدلا من الصحيفة. وتحمل نفس العنوان
«الإخوان المسلمون» مع فروق بسيطة وأسماء جديدة. كما زاد سعر المجلة عن
الجريدة فثمن النسخة قفز إلى ٢٠ مليما وأما الاشتراكات فكانت ١٠٠ قرشا فى
السنة داخل مصر و١٢٠ قرشا خارجها، واختفى الفهرس وتوقف عدد صفحاتها عند ٢٤
صفحة. واختلفت هيئة التحرير فى المجلة ليرأس تحريرها وإدارتها صالح عشماوى،
أما الغلاف فيعلوه اسم المجلة «الإخوان المسلمون» ومن العدد ١٠٦ الموافق ١٥
يونيو لعام ١٩٤٦، تم وضع شعار الإخوان كخلفية للاسم وهو الشعار المعمول به
إلى الآن: السيفان وبينهما القرآن الكريم وأسفلهما «وأعدوا».
أبرز تبويب المجلة وكتابها فهو «حديث الأسبوع والذى كان يقدمه صالح
عشماوى، خواطر حرة يقدمها العالم محمد الغزالى، صفحتنا الفقهية يقدمها
الفقيه سيد سابق. فى صميم الدعوة يقدمها عبدالعزيز كامل. أمراض المجتمع
يقدمه أنور الجندى البنا، العالم الإسلامى فى أسبوع يقدمه عبدالعزيز عزت
الخياط، ومن صحائف المجد يقدمه صابر عبده إبراهيم، نحو الإصلاح التشريعى فى
مصر يقدمه فتحى عبدالصبور، (قصة الأبد.. إبراهيم الحائر) يرويها ابن جلا».
وبحكم المجلة فقد كانت المجلة لديها صفحتان فى منتصف المجلة ذاتا
لونين وكان يقدم فيهما موضوعات مصورة قصيرة «فيتشر» عن مدن إسلامية وتقدم
معلومات كاملة عن المدينة وتعدادها وإسلامها، وقدمها أكثر من شخص كان آخرهم
قطب.
وبرز فى المجلة فكرة العمود الصحفى ومن أبرز كتاب الأعمدة حسن البنا
والذى كان يوقع أسفل مقاله بالفقير إليه تعالى.. حسن البنا، على الشريف.
محمد الهادى عطية. حسن الأهوانى. أحمد مهدى الظواهرى وغيرهم.
كما احتوى الغلاف الأخير للمجلة على صور يصاحبها تعليقات قصيرة
«فيتشرات» منها «الشيخوخة المشردة» فى العدد ١٠٢ ونجد بها صورة لثلاثة
عجائز أحدهم ينام على الرصيف أمام مسجد والآخر يدخن الشيشة والثالث ساقى
ماء «سقا»، وموضوعا آخر عن الأضرحة بعنوان «الأعداء الثلاثة فى ساحة أبى
السعود» ويقصد بالأعداء الثلاثة الفقر والجهل والمرض، وقد صور الأول فى
صورة طلائع للنساء أتين للزيارة والبركة، والثانى فى صورة رجل يضرب الودع،
والثالث فى صورة عربة طعام يقف عليه شخصان فقط علقوا عليها بتعبير «مطعم
معرض للهواء والغبار»، كما كان هناك موضوع عن «تلويث سمعة مصر» هاجم فيه
الإخوان الأجانب الذين يسيئون لسمعة مصر عن طريق تصويرهم الفقراء والفلاحين
ونشرها بالخارج، وأما الصور المسيئة فهى عبارة عن فلاحة تحمل جرة ورجل أشعث
فى الصحراء ورجل فقير فى السوق وخلفه لا يتعدى الناس الأربعة رجال وتعليق
الصورة أنه شارع مزدحم غير صحى!.
وبالطبع كانت هناك معارك فكرية تبنتها المجلة وهذه المرة الطرفان
المتنازعان أقباط والمتنازع عليه الإسلام! فقد خرج العدد ١٠٣ بتاريخ ٢٥
مايو لسنة ١٩٤٦بمقالة بعنوان «الأستاذ سلامة موسى» المفكر القبطى الكبير
أحد رواد الاشتراكية المصرية ومن أول المروّجين لأفكارها، وبدأت المعركة
حينما كتب موسى مقالين فى جريدة مصر حول فكرة حرمان الأقباط من المدارس
الإلزامية، وانتقد الزفة التى يقوم بها المسلمون لكل من تحول عن دينه فى
الشوارع، ولم ترد مجلة الإخوان أو هكذا بدا للجميع، بل واعتذرت المجلة
لقرائها من الذين أرسلوا إليها ردوداً على مقال موسى وذلك للتفويت على
الأخير على حد تعبيرهم ما يهدف إليه من إثارة فتن طائفية ونبهوا أنهم
سينشرون مقالاً واحداً فقط نسبوه إلى مواطن مسيحى يدعى توفيق غالى تاجر
وقومسونجى ومورد مدارس يرد فيه قائلا «يهمنى كرجل مسيحى عاش بين المسيحيين
أن أرد على هذين المقالين فى جو هادئ» ثم يستطرد قائلا «هذا المقال لا يقصد
به خدمة الطائفة القبطية مطلقا بل إنه يخدم به الاستعمار.. نرى الكثيرين
يعتنقون الدين الإسلامى ولكننا لم نر شخصا له كرامة اعتنق الدين الإسلامى
ونرضى بأن يزفه الناس» ولم يكن المدعو توفيق يتوقف عند حد الاعتراف أن
الكثيرين من أبناء دينه تحولوا إلى الدين الآخر بل اعترف أيضا بأن جماعة
الأخوان المسلمين أشرف الجماعات مقصدا وأنبلهم خلقا، بل وزايد فى رسالته
على موسى قائلا: «باسم إخوانى المسيحيين أن تغذينا بعلمك الغزير وأن توجه
جهودك للناحية الثقافية فهذا خير وأجدى».
الإمام «الشهيد».. وساعات ما بعد الاغتيال
كتب
ميلاد حنا زكى
فى تمام التاسعة مساء ١٢ فبراير ١٩٤٩م، اتصل الملك فاروق بالدكتور
يوسف رشاد طبيبه الخاص، وقال له بلهجة مفرحة «حسن ضُرب بالرصاص وحالته
خطرة، ولكنه لم يمت بعد»، وقال محمد حسن السليمانى، الأمين الخاص للملك فى
كتاب «مقتل البنا» للكاتب محسن محمد، إن الملك فاروق تأثر جداً عندما قتل
النقراشى، وعندما قتل البنا لم يظهر عليه أى تأثير. وبعدها علم الجميع أنه
لفظ أنفاسه الأخيرة، وقال الإخوان إن الملك فاروق توجه إلى قصر العينى ليرى
بنفسه حسن البنا قتيلاً.
ورأى عبدالرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية، أن تشييع الجنازة كان
مباشرة من مشرحة قصر العينى خشية أن ينتهز الإخوان المسلمين الفرصة
ويتجمعوا لإحداث خلل بالأمن العام، ولكن عندما علم بذلك والده الشيخ أحمد
البنا، من أحد الضباط فى الواحدة بعد منتصف الليل، توجه إلى مكتب اللواء
أحمد طلعت، وطالب بإلحاح بأن تشيع الجنازة من منزله، ووافق الحكمدار بشرط
أن تشيع الجنازة فى هدوء بلا مظاهرات أو هتافات، وأكد ذلك الدكتور محمد
حسين هيكل، رئيس مجلس الشيوخ فى مذكراته.
ووصفت صحيفة «الكتلة»، الناطقة باسم حزب الكتلة الذى يرأسه مكرم عبيد
باشا جنازة حسن البنا فقالت «نقل جثمان حسن البنا إلى بيته فى سيارة،
وتحرسه سيارة أخرى، مملؤة بفريق من رجال البوليس المسلحين». وقبيل الفجر
تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ الوالد، الذى جاوز
التسعين من عمره، وأدخلوا الجثة متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران، وظل
حصار شوارع الحلمية بمدينة القاهرة وتُشدد الحراسة حول البيت المتواضع فى
منتصف الشارع، ولا يسمحون لإنسان بالاقتراب،
وقام الأب نفسه بإعداد جثة ولده، ومسح الشيخ دماء ابنه من أثر
الرصاصات التى سكنت جسده وجهزه للدفن، فإن أحداً من الرجال المختصين بذلك
لم يسمح له بالدخول، ثم وضعت الجثة حيث وضعت فى النعش، وبقيت مشكلة من
يحملها إلى مقرها الأخير، ورفض رجال البوليس أن يحضروا رجالاً لكى يحملوا
النعش. ولم يكن موجود بالبيت إلا زوجته وبناته وابنه الصبى الصغير، ورفض
رجال البوليس حمل النعش ولم يحمل النعش إلا نساء أهل البيت، وسارت الجنازة
مسلحة وخلفه فقط والده، دون أحد وراءها غيره بجانب رجال البوليس أنفسهم
وشاهد الجنازة الناس بعيون مختبئة من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق من الحزن
والألم، وعندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد
كان المسجد خالياً من الناس حتى من الخدم طبقاً لأوامر رجال البوليس،
وعندما شاهد ذلك والده الشيخ أحمد البنا انهمرت دموعه أمام النعش فترة
طويلة وصلى ومعه النساء الثلاث، اللائى حملن النعش وبعد انتهاء الصلاة حملن
النعش على أكتافهن مرة أخرى ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعى،
وعاد الجمع القليل إلى البيت الذى حرم أيضا أفراد الأسرة من إقامة
العزاء فيه وتلاوة القرآن وكل ما حضر أحد من المعزين منعه الجنود من الدخول
وإذا اعترض أو وصل للعزاء تعتقله على الفور عدا مكرم عبيد باشا، الذى دخل
البيت وأزجى كلمات العزاء ولم يتمكن رجال البوليس من منعه. ورثاه فيما بعد
الحاج أمين الحسينى فقال «كان رحمه الله يتوقّد غيرة، وحميّة، وحماسة ضد
الاستعمار المعتدى على مصر، وسواها من أقطار المسلمين والعرب، وكان يعمل ما
بوسعه لتحرير وادى النيل، والبلاد العربيّة، والوطن الإسلامى بكل أجزائه،
من كل استعمار أجنبى» .
ونشرت الصحف المصرية، حادث اغتيال الشيخ حسن البنا بالعناوين الكبيرة
فى الصفحات الأولى، فقالت صحيفتا «الأهرام» المستقلة و«الأساس» الناطقة
باسم الحزب السعدى الحاكم «إن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا حسن البنا،
لأنه كان ينوى إبلاغ الحكومة عن مكان الأسلحة ومحطة الإذاعة السرية».
ونشرت صحيفة «التايمز» فى لندن النبأ فى طبعتها الأخيرة موضحة أيضا أن
خطابات البنا الأخيرة وإفشاء أسرار الجماعة هى السبب فى قتله. وأبدت صحيفة
«اللواء الجديدة» صحيفة الحزب الوطنى أسفها للحادث، وقالت «إن الشيخ البنا
كان يود قبل اغتياله أن يعتكف استجماما من عناء ما كابده فى الأيام
الأخيرة»، وقالت مجلة الحوادث الوفدية «من كل هذا يبرأ الوطن» فيما قال
الأمير المغربى وقتئذ عبد الكريم الخطابى عندما سمع النبأ «ويح مصر وإخوتى
أهل مصر سفكوا دم ولى من أولياء الله» ولم تنشر كلمات الأمير بسبب الرقابة
على الصحف إلا بعد فترة طويلة.
والعجيب ما ذكره «الميجور سانسوم»، ضابط الأمن بالسفارة البريطانية فى
مذكراته أن كل الإجراءات التى اُتخذت لمنع المظاهرات بعد الاغتيال، وفى
الجنازة تم تخطيطها قبل عدة أسابيع. كما بعث «جيفرسون باترسون»، القائم
بأعمال السفارة الأمريكية، إلى واشنطن يقول «تم فى هدوء دفن الشيخ حسن
البنا، وهذا الدفن السريع ليست له سوابق حتى فى مصر التى يقضى فيها القانون
بدفن الجثة خلال أربع وعشرين ساعة من الوفاة، وقد تم تحت ضغط الحكومة التى
خشيت أن تكون الجنازة العامة للرجل مناسبة لأتباعه والمتعاطفين معه للتجمع
وتعكير الأمن».
واشتركت مؤخراً مراكز الأبحاث فى فرنسا وأمريكا فى وضع قائمة بأهم
مائة شخصية أثّرت فى العالم فى القرن العشرين، فكان من العالم العربى اثنان
هما: الإمام الشهيد «حسن البنا»، والآخر هو جمال عبدالناصر.
المصري اليوم في
17/09/2010 |