ليس أصعب علي المبدع من تلك اللحظة التي يكتشف فيها أنه قادم إلي زمن لن
يجد فيه من يطرب الي معزوفته،ويستمتع بإبداعه أو يستوعبه،زمن لن يقدر أن
الكلمات والمعاني والشخصيات التي ينحتها،قد سحبت من عصارة فكره وأعصابه
وقطرات دمائه، هذه واحدة من أسباب حالة الحزن التي كان يحاول أن يخفيها
اسامة أنور عكاشة عن أقرب المقربين له،هؤلاء الذين عاصروا سنوات مجده
وازدهار موهبته،ونجاح أعماله الفنية،ويرون فيه الفارس الذي يقاوم الفساد
بقلمه!وينهل من أحداث الماضي ،ليقدم صورة للحاضر ويناقش احتمالات ما قد
يأتي به المستقبل!
جمعتني بالكاتب الراحل عدة لقاءات، كنت وقتها لا أزال في السنوات الاولي من
عملي الصحفي،وكان يجلس في مكتب المخرج باسيلي جريس الذي قدم معه مسلسل "
ريش علي مفيش "الذي باء بفشل عظيم،جعل المخرج باسيلي جريس يحلف أيمانات
مغلظة ألا يعود مرة أخري لتقديم مسلسلات كوميدية، بينما كان اسامة أنور
عكاشة علي يقين من أن العمل الذي لم يعجب الناس وقتها،سوف يكون له شأن آخر
معهم في الغد!وأخذ يشرح له فكرة بديهية ،ملخصها أن الجمهور قد اعتاد
المسلسلات التي تقدم له الافكار التقليدية لسنوات طوال،ومحاولة الخروج عن
السرب،أو عن المألوف لها عواقبها، ولكنها أيضا السبيل الوحيد لخلق نوعية
مختلفة من الأعمال الفنية، لكن كان المخرج "باسيلي جريس"،من أنصار المشي
جنب الحيط،وظل كذلك طوال عمره ولم يسمع به أحد،أما أسامه أنور عكاشة فقد
كان أكثر ثقة بموهبته وبمكانته الفنية التي لن يزعزعها فشل عمل فني !
ملامح نفسية
وسألته وقتها،بسذاجة كيف تأتي إليه الافكار؟ وكيف يلتقطها ويطورها ويحولها
الي أعمال فنية ممتعة، فقال ببساطة دون أن يشعرني أن عشرات الزملاء سألوه
نفس السؤال، ولابد أنه أجاب عليهم نفس الاجابة، وهي أنه عندما تأتيه فكرة،
يتركها تنمو داخله براحتها،ولايتعجل اصطيادها ،وكأنه قط يسعي للانقضاض علي
فريسة، ثم ينشغل بأشياء لاعلاقة لها بالموضوع،ويظن من حوله "أفراد أسرته"
أنه لاينوي الكتابة، أو أنه يضيع الوقت، ولايجد مايكتبه، ولكن حقيقة الأمر
أن الفكرة تكون مثل الجنين الذي تتضح معالمه يوما بعد يوم، إلي أن يكتمل،
ويحين موعد ولادته،هنا يجلس إلي مكتبه،ويبدأ في وضع الخطوط العامة للحكاية،
ثم تاريخ كل شخصية، وملامحها النفسية ،والافكار التي تعبر عنها!في ذاك
الزمن "منتصف الثمانينات من القرن العشرين"كان أسامة أنور عكاشه، واحدا من
أساطين كتابة المسلسلات التليفزيونية ،بل كان أبرز نجومها!وقد كان لاعماله
الفضل في تألق وشعبية جيل كامل من نجوم التليفزيون مثل يحيي الفخراني، صلاح
السعدني، صفية العمري،ممدوح عبد العليم، هشام سليم، آثار الحكيم،عبلة كامل،
لوسي، شوقي شامخ وآخرين! بل ساهمت كتاباته في منح المخرج اسماعيل عبد
الحافظ فرصة الظهور، بعد وفاة المخرج "فخر الدين صلاح" الذي رافق مشوار
نجاحه من البداية،ثم دخل علي الخط ،محمد فاضل الذي قدم معه مجموعة من أنجح
أعمالهما مثل «أبو العلا البشري» بجزأيه، وقال البحر، وعصفور النار،الراية
البيضا، أنا وإنت وبابا في المشمش،لايزال النيل يجري،ثم حدث في العلاقة
الفنية والشخصية بين أسامة وفاضل شرخ ،أدي الي توقف تعاونهما الفني،للحفاظ
علي علاقتهما الإنسانية التي بقيت حتي النهاية!
كارثة حتمية
واجتمعنا أنا والراحل أسامة أنور عكاشة، في لجان الدراما التي كان يحذر
فيها من الخطر القادم،وهو سيطرة الإعلانات علي المسلسلات والأعمال
الفنية،بصورة سوف تتيح لاصحاب الشركات الاعلانية التدخل في فرض أسماء نجوم
بعينهم،ومن ثم سوف يأتي الزمن الذي يصبح فيه النجم هو سيد الموقف،ويستطيع
أن يعبث في العمل الفني كيفما شاء! ويضرب بالنص المكتوب عرض الحائط،
وبإرادة المخرج،سوف تتحول الحكاية كلها الي نوع من الهرج والعبث يؤدي الي
كارثة حتمية! عشرات من الاوراق البحثية، انتهت اليها أعمال لجنة الدراما،
التي استغرقت جلسات امتدت عبر أشهر، وللاسف كان مصير تلك الابحاث أن استقرت
في أدراج مكاتب المسئولين،دون أن يفكر أحدهم في الاطلاع علي المقترحات
التي خلص إليها فريق من صناع الدراما والمهتمين بشأنها،وانتاب اليأس نفس
أسامة أنور عكاشة، وتوقف عن حضور جلسات تلك اللجان،وحدث ماكان يحذر منه
،وجاء اليوم الذي يتحكم فيه أي ممثل في شغل المخرج،ويطالب السيناريست أن
يكتب أو يحذف من نصه مايشاء! والمؤلم فعلا أن هذه المرحلة أفرزت كتاب
سيناريو لديهم استعداد لإهانة أعمالهم الابداعية، مقابل ظهورها للنور بأي
شكل ،مما يضمن لهم الحفاظ علي مكاسبهم المادية،وموافقة النجوم علي أعمالهم
ليس لانها الأكثر جودة، لكن لأن أصحابها هم الاكثر إستعدادا لتقديم
التنازلات! لاشك أن هذا الجو الكابوسي،اصاب أسامة أنور عكاشة في مقتل،لقد
عاش حتي سمع أو قرأ أن محمد فؤاد الذي لا علاقة له بفن التمثيل،وليس له
خبرة في العمل في المسلسلات قد اطاح بمخرج أول مسلسل يقوم ببطولته، ولم
يتوقف لحظة عن العبث في السيناريو والغريب انه لم تصدر عن كاتبه أي شكوي أو
تبرم أو اعتراض،وقبل محمد فؤاد ،الراقصة فيفي عبده، ومن هم أكثر أو أقل
قيمة فنية، إنهيار كامل لصناعة وفن كان أسامة أنور عكاشة واحد من نجومهما
،بل ان ماحدث مع غيره،وظن أنه بعيد عنه،بدأ يقترب منه ويهدد وجوده!لوقت
قريب جدا كان ترشيح أسامة لأي ممثل مهما ارتفعت قيمته،لأحد الادوار مدعاة
للسعادة، والفخر،وفرصة يقتنصها الممثل أو الممثلة ليقدم أداء مميزا،وخاصة
وهو يعلم أنه يعمل في مسلسل تتوافر له من البداية أهم عناصر النجاح،وهو
النص أو السيناريو المحكم ، ولكن حدث في السنوات الأخيرة، تردٍّ واضح في
سلوكيات النجوم،مع أسامة ومع غيره من نجوم الكتابة التليفزيونية الكبار!
وحدث ماكان بعيدا عن خيال الكاتب الراحل،فبعد أن قدم الجزء الاول من مسلسل
المصراوية وتحمس لمنح البطولة المطلقة لهشام سليم،إيمانا منه
بموهبته،وخاصة أن هشام وجد نجاحه من خلال أعمال أسامة أنور عكاشة، في ليالي
الحلمية ،والنوة،والراية البيضا،وبعد نجاح الجزء الاول من المصراوية الذي
شاركت في بطولته للمرة الاولي النجمة الشابة غادة عادل، فوجئ باعتذارها عن
تكملة الدور! بعد أن شاركت شريف منير في مسلسل قلب ميت! والأغرب من ذلك أنه
فوجئ باعتذار هشام سليم نفسه ،رغم أنه صاحب دور البطولة،مما هدد الجزء
الثاني من المسلسل بالتوقف تماما! حتي استقر الامر علي أن يقوم ممدوح عبد
العليم بتكملة الشخصية التي بدأها هشام سليم في الدور الاول،وعجز فريق
العمل عن إيجاد أي ممثلة شابة تقبل تكملة الدور بعد غادة عادل،وحاول اسامة
أن يتصل بأكثر من واحدة وتصور أن أيهن سوف تقدر قيمة العمل الذي يعرضه
عليها، لكن هيهات، فكل واحدة منهن كانت تسعي لبطولة منفردة في أي عمل مهما
كانت تفاهته،حتي تمارس فيه كل أمراضهاالنفسية،وكان اختيار ميس حمدان هو
الحل الاخير،بعد أن وجد الرجل أن ظهره أصبح ملتصقا بالحائط،وأن شباب هذا
الجيل من الممثلات والممثلين قد خذله! وأيقن أن الايام القادمة سوف تكون
أكثر سوءا!
جرح المصراوية
في برنامج باسم قلبي ومفتاحه تعده آمال عبد السلام ويقدم علي الفضائية
المصرية،تابعت حواراً لاسامة أنور عكاشه يتحدث فيه بمرارة عما حدث معه في
مسلسل المصراوية من اعتذار النجوم الذين يلعبون أدوار البطولة، هشام سليم
وغادة عادل،وأكد خلاله أن هناك التزاما ادبيا بين النجم ،والدور، بحيث
لايجوز له أن يعتذر عن الاجزاء التالية، طالما أنه يعلم من البداية أن
المسلسل مكون من أجزاء،ورغم تكرار تغيير النجوم في الاجزاء التالية من
مسلسلات أسامة أنور عكاشة: "آثار الحكيم في ليالي الحلمية،وزيزينيا"، وعبلة
كامل في ليالي الحلمية واستبدالها بمحسنة توفيق! إلا أن ماحدث في المصراوية
قد تسبب له في جرح غائر،لانه أدرك وقتها أن الزمن القادم ليس زمنه،وأن
أخلاق النجوم التي تغيرت بحيث أصبح لهم الهيمنة والسيطرة علي مجريات الامور
في تقديم المسلسلات التليفزيونية، لن يتيح له تقديم إبداعه الفني بالصورة
التي يرتضيها،آلام قلبه تحولت إلي أوجاع وجراح،وقلت قدرته علي الاحتمال،
وخاصة أنه يتابع مجموعة من الادعياء وضعاف الموهبة والقيمة وقد صاروا نجوما
في الـتأليف وانهم يحاولون أن ينالوا من تاريخه،ويتطاولون علي إبداعه !قد
يكون الجسد قد ضعف وأصابه الوهن وسقط بلاحركة، لكن من حسن الحظ أن قيمة
المبدع لاتتأثر بوجوده بين الاحياء،المهم أن يكون قد ترك ثروة من الأعمال
الفنية سوف تعيش بعده، وللأبد !
جريدة القاهرة في
01/06/2010 |