ترجل فارس آخر من
فرسان الدراما التلفزيونية عن صهوة الكلمة، هو أسامة انور عكاشة (1941ـ
2010)،
يقتضي منا ان نبدأ في قراءة مشروعه الدرامي، الذي لم يحظ بما يستحق من
اهتمام.
ينتمي عكاشة الى ما يسمى «جيل الستينيات» رغم تحفظي على المصطلح مثل
بقية فرسان الكتابة الدرامية في العقود الأربعة الأخيرة: مصطفى
محرم، محسن زايد،
يسري الجندي، وحيد حامد، بشير الديك، ومحمد جلال عبدالقوي.
ولد هؤلاء جميعاً
في مطلع العقد الرابع من القرن العشرين، وكان وحيد حامد ومصطفى محرم الأغزر
انتاجاً، في السينما والتلفزيون. أما بشير الديك، فجاءت بصمته
السينمائية أهم من
التلفزيونية. في حين حقق زايد وعكاشة عبر شاشة التلفزيون أضعاف ما حققوه في
السينما.
وجميعهم بطريقة أو بأخرى مارس الكتابة الابداعية قبل احتراف كتابة
السيناريو، لكن لا يملك أي منهم رصيداً لافتاً في الكتابة
«المطبوعة»، باستثناء
اثنين فقط هما: يسري الجندي الذي كتب أكثر من عشرين مسرحية قبل ان ينصرف
نهائياً
الى الدراما المرئية، وأسامة انور عكاشة الذي أتى من مملكة السرد وكتابة
القصة
القصيرة والرواية، ورغم شهرته ونجاحه تلفزيونياً، فهو الوحيد
بين أبناء جيله الذي
ظل وفياً وان بشكل متقطع لفكرة اصدار رواية أو مجموعة قصصية من حين الى
آخر. ومن
أبرز رواياته ومجموعاته القصصية: خارج الدنيا (1967)، أحلام في برج بابل
(1973)،
مقاطع من أغنية قديمة (1985)، منخفض الهند الموسمي (2000)، وهج
الصيف (2001)،
سوناتا لتشرين (2008).
اذن هو الوحيد الذي ظل مؤمناً بنفسه كأديب وروائي،
وليس فقط «سينارست» يعد نصوصاً يغير فيها المخرج والممثلون كما يحلو لهم،
وينتهي
وجودها بمجرد عرض المسلسل على الشاشة. صحيح انه مثل بقية زملائه وجد في
الدراما
المرئية متنفساً رحباً، وتواصلاً أوسع مع الملايين، وأجراً أفضل، لكنه لم
يكتف
بالشاشة بديلاً عن الكتاب، ولا بهوية «السينارست» بديلاً عن
هوية «الروائي». وان
كانت الدولة كرمته بجائزة التفوق 2005 وجائزة الدولة التقديرية 2008 في
مجال الفنون
لا الآداب.
هذا الولع الأدبي يتشارك فيه هؤلاء الكتاب جميعاً، وان ظل مضمراً
ومشعاً لدى أغلبهم في نصوصهم المرئية، ويمكن رده الى أب رمزي
مشترك هو نجيب محفوظ،
فسطوة المشروع الروائي لأديب نوبل، واضحة للعيان في نتاجهم، ومعظمهم عالج
نصوصه
مباشرة للسينما أو التلفزيون مثل مصطفى محرم وبشير الديك.
لكن أهم تجربتين
تعبران عن محفوظ هي تجربة محسن زايد وأسامة انور عكاشة، الأول لانه بنى
مجده الأدبي
على المعالجة المباشرة لنصوص محفوظ مثل «الثلاثية»، «ملحمة الحرافيش»،
«حديث الصباح
والمساء», «اللص والكلاب» وغيرها. فهو يكاد ان يكون
«السينارست» المتخصص في النص
المحفوظ. أما عكاشة فهو يعبر عن الحال النقيض، لانه ظاهرياً ابتعد كلياً عن
روايات
محفوظ، لكن في العمق كان تلميذا وفياً لها وقادراً على تمثلها في نصوصه
الخاصة، حتى
كاد ان يكون «السينارست» المتخصص في الروح المحفوظية. لذلك،
ورغم عدم معالجته
لروايات أديب نوبل، تأتي المفارقة بان يطلق عليه لقب «نجيب محفوظ الدراما
التلفزيونية».
أفق جديد
مثلما فتح محفوظ أفقاً حداثياً للرواية
العربية، فتح عكاشة أفقاً حداثياً مماثلاً للدراما التلفزيونية.. ومثلما
بنى الأول
عمارة روائية مدهشة تؤرخ لمصر القرن العشرين في ثلاثة أجزاء في ثلاثيته
الشهيرة،
شيد عكاشة خماسية بصرية موازية في «ليالي الحلمية».
ان ولع عكاشة الأدبي،
يفوق أقرانه، ويتجاوز فكرة اصدار رواية أو مجموعة قصصية أو كتابة المقالات
بصفة
دورية، الى اصراره على ان يكون «النص» المرئي نصا أدبياً
رفيعاً، وليس مجرد «ورق»
للتمثيل والتصوير، وبعدها مصيره الى العدم. وهذا واضح من تشدده في عدم
تغيير حرف
بعد «بروفة الطاولة» التي يحضرها مع المخرج والممثلين. واصراره على وصف
أعماله
بانها «رواية تلفزيونية» وليست مسلسلاً. كما كان حسب معلوماتي
أول كاتب درامي يطبع
سيناريو مسلسله في كتاب وهو «ليالي الحلمية»، ليس بهدف الربح كما فعل أصحاب
السيناريوهات المتهافتة من بعده، بل لقناعته ان نصه المرئي ينتمي الى نصوص
محفوظ
وتولستوي وتشيكوف. وعندما عجز عن العثور على منتج يتحمس لفيلمه
الأخير طبعه أيضاً
في كتاب بعنوان «الاسكندراني».
لذلك يتمايز نص عكاشة عن نصوص أقرانه الى حد
ما بسطوة الملامح الروائية مثل النفس الملحمي كما في رائعة «الشهد والدموع»
بجزأيها، «ليالي الحلمية» بأجزائها الخمسة
(قبل ان تصبح مسلسلات الأجزاء سبوبة
تجارية)، وصولاً الى آخر أعماله «المصراوية». فهو لا يسرد حكاية تقليدية عن
الثأر
والزواج والطلاق وثراء أحد الأشخاص فجأة، بل يؤرخ بالصورة لوطن بكامله،
لمدينة،
لطبقة اجتماعية تتآكل، ويتابع ذلك عبر أكثر من جيل. مع التحفظ
حتى على تعبير «يؤرخ»
لانه يفعل أكثر من مجرد التوثيق واستعادة الماضي والتباكي بشأنه، فالنفس
الملحمي
بما يقتضيه من امتداد سردي معقد، يقتضي وعياً هائلاً بجدلية الزمان
والمكان،
وبالتغيرات العميقة التي تنتاب الشخصيات، وقدرة على استشراف
المستقبل.
كل
ذلك يتجلى بوضوح في نصوصه، بدءاً من وإلى عمل حقق له شهرة
مدوية وهو «المشربية»
الذي يتناول مشكلة رسامين يعملون في مواقع تراثية ويتعرضون للطرد منها (هذا
ما حدث
فعليا بعد عشر سنوات تقريبا)، وفي «رحلة أبو العلا البشري» و«الراية
البيضا»، و«انا
وانت وبابا في المشمش» يظهر بجلاء التأثير المدمر لقيم عصر الانفتاح على
الشخصية
المصرية. «أبو العلا» أب دونكيشوتي حالم جاء كي يجمع أسرته
الكبيرة ويمنحها ثروة
كبيرة، تحل المشاكل الاقتصادية شريطة الحفاظ على قيم الأسرة الأصيلة كما
هي، لكنه
يفاجأ بان المشكلة ليست في الفقر بل في انتشار قيم مغايرة كالطمع
والانتهازية
والانانية. أما «فضة المعداوي» فهي التجسيد الانثوي لصاحب
المال الجشع، الجاهل،
العنيف، المتسلط، القادر على رسم خريطة المكان بما يملكه من مال و نفوذ.
وفي «انت
وبابا في المشمش» صورة مأساوية صادمة ومبكرة جداً لتحالف الفساد الاقتصادي
والاداري
والسياسي، وهي الصورة التي تفشت بعد عرض المسلسل بعقدين من
الزمان، وليس
قبله.
في هذه الأدوار الثلاثة أعاد عكاشة اكتشاف فنانين كبار هم محمود مرسي
وسناء جميل وفردوس عبد الحميد، كما فعل في أعمال أخرى مع سميحة
أيوب، نبيل
الحلفاوي، صلاح السعدني، يحيى الفخراني، هشام سليم، ممدوح عبد العليم
وغيرهم. وهو
اكتشاف نابع من قناعته بالدور وقوة الشخصية الدرامية وليس نجومية
الممثل.
ويتخذ عكاشة مثل محفوظ من المدينة والحي الشعبي، فضاء أساسياً
لنصوصه، فهي جامعة تناقضات المجتمع وهي الأسرع في تغيرها
الدراماتيكي. وفيما اكتفى
محفوظ بالحي الشعبي في القاهرة، اتسعت الدائرة لدى عكاشة لتشمل أحياء مدنية
بارزة
في القاهرة والاسكندرية ثم تمتد منها الى بيئات هامشية: بحرية وصعيدية
وريفية في
الكثير من أعماله مثل: «زيزنيا»، «وقال البحر»، «الحب وأشياء
أخرى»، «عصفور النار»،
و«آرابيسك». ان عكاشة هو العصامي الذي أتى من مهنة التدريس في
كفر الشيخ والاختصاصي
الاجتماعي، والصبي الذي ولد في وسط الدلتا في تلك المسافة الروحية بين مقام
أحمد
البدوي ومقام ابراهيم الدسوقي.. والذي تنقل بين دسوق حيث ولد وعاش مع أبيه
التاجر،
وطنطا حيث أهل الأم، والقاهرة حيث الجامعة في عين شمس، وأسيوط
حيث عمل لفترة، الى
ان انتهى به المطاف موظفاً في الأزهر قبل ان يتفرغ للدراما ويستقيل من
وظيفته بعدما
تخطى الأربعين.. فهو اذن منفتح على مختلف البيئات التي تشكل الهوية
المصرية،
ومتواصل مع تلك الطبقات التي لا يراها المخمليون، وملتزم مرة
واحدة والى الأبد
بهمومهم اليومية وأحلامهم.
فليس غريباً ان كل أعماله مسكونة بقضايا حقيقية
مؤثرة، مثل الصراع الطبقي في «الشهد والدموع» والذي هو أكثر من مجرد خلاف
على ارث
بين أخوين (أزعم ان مسلسل «المال والبنون» استفاد من هذا العمل)، أو صراع
الحب
الرومانسي تحت سطوة القيم المادية في «الحب وأشياء أخرى».
تحولات
وقد
كان انشغاله بقيم مجتمعه وتحذيره من خطر التحولات التي أعقبت عصر الانفتاح،
سبباً
لمعركتين كبيرتين متصلتين، الأولى: اتهامه بانه ضد «السادات»
على طول الخط بسبب
ناصريته، والثانية: انه ضد التيار الديني المتشدد الذي تواكب مع عصر
السادات. وليس
دفاعاً عن الرجل، لكن هناك الكثير من التناقضات في المعركتين بحاجة الى
اعادة نظر،
فهو بالتأكيد كان ميالاً الى عبد الناصر لان ما عاشه من قيم في
الحقبة الناصرية
كانت امتدادا طبيعياً للقيم المصرية الأصيلة، وليست انقلاباً عليها. وليس
معنى ذلك
انه ناصري متعصب مؤدلج وحزبي، والدليل انه هو نفسه طالب في آخر أيامه بحل
الجامعة
العربية والتأسس لـ«كومنولث» عربي على أساس شراكة اقتصادية لا
سياسية. وهجومه على
عصر السادات كان رفضاً للانقلاب القيمي لا السياسي وكُرهاً لكل القيم
المرتبطة بهذا
العصر، ومعظم أبناء جيله على الموقف ذاته تقريبا.
ولربما الأدق انهم ليسوا
ناصريين بقدر ما هم أبناء جيل «النكسة» اذ بدأوا حياتهم العملية في ظرف
تاريخي
محبط، هزم أحلام وطن قبل ان يهزم أحلامهم الفردية، فأدركوا ان
معركتهم الحقيقية هي
معركة قيم لا بنادق ولا شهرة ولا فلوس.
ولا يخرج رأيه في ظاهرة التدين عن
هذا السياق ذاته، فهي استشرت في عصر السادات أيضا وتأثرت بهجرات المصريين
الى
الخليج، وشوهت ما يعتبره ملامح أصيلة في الشخصية المصرية بتدينها
الفطري
البسيط والمتسامح. والغريب ان الكثيرين من الأدباء والمفكرين في الخليج لا
يختلفون
عما طرحه عكاشة، لكنه وحده فيما يبدو دفع ثمن هذا الموقف واستعداء جماعات
دينية
سلفية ضده.
وبغض النظر عن جدلية تلك القضايا، فانه في تصويرها ظل مخلصاً
للمقاييس الجمالية والدرامية، بعيداً عن الأدلجة وديماغوغية الطرح، فهناك
دائماً
حبكة مشوقة بمنزلة هيكل عصبي للعمل مثل جريمة قتل في «عصفور النار»، وهناك
دائماً
صراع الأضداد: شخصيات قيم، ففي المسلسل نفسه تقف بنت وابن الأخ
رمزاً للعدالة، في
مواجهة العم الطاغي رمز القوة.. فأيهما ينتصر: العدالة أم القوة؟ وفي
المصراوية يقف
العمدة فتح الله رمز السلطة والحاكم الفرد في مواجهة الأهل والشعب.. فأيهما
ينتصر؟
وفي «ليالي الحلمية» تتجسد جدلية القيم الريفية والمدنية: العمدة والباشا!
ولا
تمنعه تلك الثنائية الاستقطابية من قراءة تعقيدات كل شخصية
ونقاط قوتها وضعفها، أي
انه لا يصورها على الاطلاق بمنطق الأبيض والأسود، بل بكل تناقضاتها
الانسانية التي
موضعتها في هذا الموقف أو نقيضه. ولعل أعماله أحادية القطب هي الأقل قيمة
مثل «ضمير
أبله حكمت» لفاتن حمامة، و«امرأة من زمن الحب» لسميرة أحمد.
صراحة
ومهاترات
ورغم ان أعماله جلبت له الكثير من الشهرة والنجاح، وتحولت الى
ظواهر اعلامية وفنية، لكنه ظل كما هو أسامة انور عكاشة الريفي
المدني، ابن الحارة
المصرية، بقيم التعفف واحترام الذات والعمل والكبرياء والصراحة (المفرطة
أحيانا)
وخفة الظل. لم يقم بعملية تجميل لشخصيته كي
تتناسب وأضواء المدينة وكاميرات برامج
ال
Show، كما فعل غيره. ومثل أستاذه محفوظ، كان يتراجع
خطوات كي يبقى نصه في
المقدمة، وان اختلف الاثنان في الحذر، فمحفوظ ابن المدينة أكثر
حذراً وحيطة وأقل
صداماً مع من يختلف معهم، أما عكاشة فقد أدخلته صراحته الريفية في مهاترات
ربما كان
في غنى عنها (رأيه في عمرو بن العاص، على سبيل المثال). وأتصور ان بعض
المعارك التي
وُرط فيها لم يفد منها بأي شيء،
واستُغل فيها بسبب طيبته وصراحته وانفعاله
السريع. ومن استغلوه هم من كانوا يبحثون عن
«Show»
وليس
هو!.
Sherifsaleh2000@gmail.com
النهار الكويتية في
29/05/2010
وجهة نظر
عكاشة
عبد الستار ناجي
خسرت الساحة الفنية في العالم العربي وفي
جمهورية مصر العربية احد الرموز الشامخة في المجال الفني، وفي الكتابة
الدرامية على
وجه الخصوص، ونعني الراحل الكبير اسامة انور عكاشة.
والحديث عن عكاشة بعض
الحديث عن «شاهد» فقط حول ذلك المبدع الكبير، كلمة الى «شاهد» على عصره
وتاريخه
ومرحلته وبلاده ووطنه وقضاياه الكبرى.. والصغرى.
الدراما عنده لم تكن مجرد
حدوتة وحكاية هامشية بل نبض وتحليل عميق لقضايا الانسان العربي، في كل
مكان.
«شاهد»
يرصد بعين شفافة، ومفردات تذهب الى الجرح، تفجر الالم، تخلق
حالة من الجدل في هذا البلد او ذاك، ومع الرقيب هنا او هناك.
الدراما
العربية بها المئات من الكتاب وكتابها كاتب واحد اسمه «اسامة انور عكاشة»
ذلك
الفنان استطاع ومنذ مرحلة مبكرة من تجربته الدرامية ان يحول
قلمه وعقله وفكره الى «شاهد»
يذهب الى موضوعات تتجاوز حدود «مصر» وقضايا الانسان «المصري» الى مضامين
وابعاد عربية شمولية، حتى حينما يذهب الى ادق القضايا «المصرية» فانه
يمنحها بعداً
عربياً.. ابعد.. واشمل.. واوسع.
واسامة انور عكاشة ليس مجرد تلك الاعمال
التي لاتزال حاضرة ومنها «ليالي الحلمية» و«الراية البيضاء» وغيرهما وهو
ايضاً
عشرات المعارك الفنية والثقافية والسياسية، التي خاضها من اجل ترسيخ كم من
القيم
الحقيقية لدور الكاتب الشاهد والشاهد الكاتب.
فما اروع ان يتحول الكاتب
الدرامي الى شاهد على عصره اميناً على قضاياه نابضاً بالايمان بوطنه، وامته..
وقوميته.. وقضاياه المصيرية.
ومن هنا تأتي قيمة الخسارة الكبيرة التي يمثلها
غياب «الشاهد» اسامة انور عكاشة.
وعلى المحبة نلتقي.
Anaji_kuwait@hotmail.com
النهار الكويتية في
31/05/2010 |