الجميع كان يتوقّع فوز البريطاني مايك لي، لكنّ تيم بورتون وزملاءه في لجنة
التحكيم، فضّلوا التايلندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول. مفاجأة سارة، وفيلم
نادر لفنّان مشغول بقضايا الحريّة في بلاده. «مهرجان كان السينمائي 63»،
احتفى بجولييت بينوش وخافيير بارديم، وطالب بإطلاق الإيراني جعفر بناهي،
وفضّل مذبحة رهبان تيبحرين، على حرب تحرير الجزائر...
تايلندا المقسّمة في دوّامة نزاع دموي، وجدت نفسها نجمة الكروازيت أمس. نسي
الجميع الحرائق المشتعلة في شوارع بانكوك بين قمصان حمر وصفر. توجهت
الأنظار مساء أمس إلى رئيس لجنة التحكيم المخرج الأميركي تيم بورتون، وهو
يعلن، خلافاً لكلّ التوقّعات، فوز أبيشاتبونغ ويراسيتاكول (1970) بالسعفة
الذهبيّة لـ«مهرجان كان ــــ 63».
السينمائي التايلندي الملقّب بجو، والموزّع بين الأفلام وتجهيزات الفيديو،
ليس غريباً عن المهرجان الفرنسي العريق. عام 2002 فاز بجائزة تظاهرة «نظرة
ما» عن
Blisfully Yours،
ثمّ حاز عام 2004 جائزة لجنة التحكيم عن شريطه
Tropical Malady،
وشارك في لجنة التحكيم عام ٢٠٠٨... قبل أن تأتي مشاركته الثالثة حاسمة مع
شريطه الآسر «العم بونمي يتذكّر حيواته السابقة». السينمائي الشغوف
بالسينما الخام، كما كتبت صحيفة «ليبراسيون»، تعبق عوالمه بروائح اللغز،
بلغة أقرب إلى النبوءات أحياناً.
شريطه رحلة عجائبيّة خارقة مع العم بونمي الذي يسترجع حيواته السابقة في
آخر أيّامه. البطل المصاب بقصور في كليتيه يجد نفسه محاطاً بأشباح الماضي،
من زوجته المتوفاة، إلى ابنه المختفي العائد على شكل قرد. سينما
ويراسيتاكول أقرب إلى الهلوسة، بين الطبيعة الخضراء البوذيّة والوجود ما
فوق الطبيعي... لكنّ الأزمة التايلنديّة الأخيرة سترخي بظلالها على سعفة
جو، وخصوصاً أنّ العمل هو امتداد لشريط شاعري قصير يندرج ضمن تجهيز بعنوان
«رسالة إلى العم بونمي» (٢٠٠٩)، جاء مسكوناً بهواجس القمع والثورة التي
انفجرت أخيراً في بانكوك.
رغم التوقعات التي تحدّثت بإلحاح عن فوز الروسي نيكيتا ميخالكوف عن شريطه
«الشمس الساطعة ــ 2»، والبريطاني مايك لي عن شريطه «عام آخر»، خرج
السينمائيّان البارزان خاليي الوفاض من المسابقة الرسميّة. كزافييه بوفوا
الذي كان اسمه متوقعاً على قائمة الفائزين، نال الجائزة الكبرى عن شريطه
«بشر وآلهة» (راجع المقال أدناه)، فيما حاز الفرنسي ماتيو أمالريك جائزة
أفضل إخراج عن شريطه «الجولة الفنية». يروي الشريط «أزمة الأربعينيات» من
خلال قصّة منتج تلفزيوني فرنسي يتخلى فجأة عن عمله وعائلته ويسافر إلى
أميركا لتأسيس فرقة للتعري تقتصر على الراقصات البدينات، أطلق عليها اسم
News Burlesque.
في المقابل، أسرت جولييت بينوش القلوب في أدائها لقصّة حب على طريقة عباس
كيورستامي في «نسخة طبق الأصل». النجمة الفرنسيّة نالت جائزة أفضل ممثلة عن
أدائها، ووقفت من دون ماكياج تذكّر بالمخرج جعفر بناهي المعتقل في إيران
منذ أشهر، من دون أي معلومات عن مصيره. وصدقت التنبّؤات بفوز الإسباني
خافيير بارديم بجائزة أفضل ممثّل، عن دوره في «بيوتيفول» للمكسيكي
أليخاندور غونزاليس إيناريتو، لكنّه لم يستأثر بها، بل تقاسمها مناصفة مع
زميله إيليو جيرمانو بطل «لا نوسترا فيدا» للإيطالي دانيلي لوشيتي.
وأخيراً «رجل يصرخ» للتشادي محمد صالح هارون الذي يروي جوانب من الحرب
الأهلية في بلاده، نال جائزة لجنة التحكيم، فيما فاز
Poetry
للكوري الجنوبي لي شونغ دونغ بجائزة أفضل سيناريو.
على الورق، بدت الأعمال المشاركة في المسابقة ثرية متنوعة... لكنَّ الأفلام
الـ19 التي تنافست على السعفة لم تروِ ظمأ روّاد الكروازيت. الأفلام التي
لفتت عشّاق الفنّ السابع جاءت من خارج المسابقة الرسميّة: «روبن هود»
لريدلي سكوت مثلاً و«وول ستريت: المال لا ينام أبداً» لأوليفر ستون. «حالة
أنجليكا الغريبة» لمانويل دي أوليفييرا استوقف النقّاد أيضاً، فيما خيّرهم
وقسمهم بجدّة، شريط جان لوك غودار «فيلم: اشتراكية»، والعملان عرضا ضمن
تظاهرة «نظرة ما».
«العم بونمي» (تايلندا) ينتصر للسينما الخام ويعبق بالأرواح والألغاز
جاء نيكيتا ميخالكوف مع شريطه «الشمس المخادعة ــ 2»، وهو التتمة لرائعته
«الشمس المخادعة» («السعفة الذهبية» ــــ 1994)، وإذا به يتلقى تهماً بـ«تمجيد
الستالينية»، بسبب إقامته عرضاً خاصاً للشريط في الكرملين، بحضور رئيس
الوزراء الروسي فلاديمير بوتين. يواصل السينمائي الروسي الكبير ما بدأه في
الجزء الأوّل من فضح للشطط الستاليني. تدور الأحداث في مطلع الأربعينيات،
وتحكي عن أحد أبطال الثورة البولشفيّة الجنرال كوتوف الذي يختلف لاحقاً مع
ستالين، ما يؤدي الى إرساله إلى معسكرات السخرة في سيبيريا. مطلع عام 1941،
ينجح في الفرار من الـ«غولاغ»، لكنّه لا يعثر على أي أثر لابنته وزوجته،
فيعتقد أنّهما تعرضتا للقتل خلال التصفيات الستالينية، ويقرر الذهاب إلى
الجبهة لمحاربة النازية، عاقداً العزم على الموت وسلاحه بيده.
الهجمات غير المبررة طاولت أيضاً الفيلم العربي الوحيد في المسابقة
الرسمية، أي «الخارجون على القانون» لرشيد بوشارب. فقد قامت تظاهرات حاشدة
تجمهر خلالها أكثر من 1500 شخص أثناء العرض الرسمي للفيلم، بتهمة العداء
لفرنسا، ويمثّل «تزويراً للتاريخ ولرواية حرب الجزائر». الفيلم الذي صوّره
بوشارب، يدور حول ثلاثة أشقاء جزائريين تمزقهم الحرب، ويختارون الانخراط في
الجهاد لاستقلال بلادهم، من فرنسا. لا يخلو العمل من نظرة نقدية فريدة إلى
منهج «جبهة التحرير» الجزائرية... لكنّ جزائر كزافييه بوفوا فازت في
النهاية.
الأخبار اللبنانية في
24/05/2010
«بشر وآلهة»: جزائر التسعينيات والسؤال الصعب
كان ــ سعيد خطيبي
بين الجدل الذي رافق عرض فيلم الفرنسي كزافييه بوبوا «بشر وآلهة» (الجائزة
الكبرى) وحقيقة ما جاء على الشاشة، فارق ملحوظ، لكنّ لبّ القضية ظل ثابتاً،
خصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة المشبوهة التي تبنّاها الجيش الجزائري في
التعامل مع رهبان تيبحيرين (90 كلم جنوب الجزائر العاصمة) الذين أودت بهم
مذبحة فظيعة بقي مرتكبها مجهولاً، في عام ١٩٩٦.
قلبَ الفيلم التوقعات وحادَ عن إثارة جدل دبلوماسي بين الجزائر وفرنسا قد
يعمق الهوة بين البلدين. فضّل عدم اتهام الجيش الجزائري ــــ اتهاماً
مباشراً ــــ بقضية اغتيال رهبان تيبحيرين، مكتفياً بإبراز جملة تلميحات
تترك الباب مفتوحاً أمام مختلف الفرضيّات. وقد بدا سيناريو الفيلم (اتيان
كومار) حذراً في التعاطي مع مظاهر الحرب الأهلية، خلال التسعينيات في
الجزائر، عبر دمج صوتي الجماعة الإسلامية المسلحة والسلطات الرسمية، وعدم
اتخاذ موقف متعاطف مع أي طرف.
الشريط الذي سبق عرضه في «كان»، أثار لغطاً كبيراً ومخاوف من إمكان فتح جرح
لم يندمل بعد، تناول الشق الديني من حياة ثمانية رهبان، يقيمون في «دير
الأطلس» في منطقة تيبحيرين، حيث تقتصر يومياتهم على ممارسة شعائرهم،
ومساعدة أهالي البلدة.
تجنّب الشريط اتهام الجيش الجزائري بالمجزرة
هذه الحياة الهادئة تطغى عليها روح التسامح والمحبّة مع نظرائهم المسلمين.
ويذهب الفيلم إلى تقديم الراهب كريستوف (أوليفيه رابوردان) وهو يطّلع على
القرآن. لكن يوميات السلم والتناغم تتحول إلى حياة رعب وخوف مع اتساع مد
الجماعات الإسلامية، وتزايد العمليات الإرهابية، والاغتيالات والتفجيرات
«بشر وآلهة» لم يتهم صراحة الجيش الجزائري باغتيال الرهبان، لكن الإيحاءات
التي يتضمنها السيناريو كانت صريحة. يركّز الشريط على تصوير علاقة تحكمها
الخدمة الإنسانية بين الجماعة الإسلامية والرهبان، وهي علاقة تختلف عن تلك
التي تربطها مع القوات العسكرية الحكومية التي تتهم الرهبان، في البداية،
بدعم المسلحين الإسلامويين، ثم تأمرهم بإخلاء المكان والرحيل إلى فرنسا،
بحكم أن المنطقة صارت غير آمنة. لكن الرهبان يفضلون البقاء وينتهي الفيلم،
بمشهد مفتوح، على خلفية حادثة اختطافهم عام 1996 من قبل الجماعة الإرهابية
ثم إطلاق سراحهم، فاغتيالهم في ظروف مجهولة. هذه الطريقة تترك السؤال
مطروحاً عما سماه المخرج، «لغز» اغتيال هؤلاء الرهبان في عملية تبّنتها
الجماعات الإرهابية...
أهم ما جاء في «بشر وآلهة» هو أنّه أعاد طرح سؤال «من قتل من؟» في جزائر
التسعينيات، في انتظار مبادرات أكثر وعياً وعمقاً في الغوص في أسئلة ما
زالت جزءاً من الراهن.
الأخبار اللبنانية في
24/05/2010 |