الفيلم الإفريقي الوحيد في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ63 بل وفي كل
أقسام
المهرجان المختلفة، هو فيلم "رجل يصرخ" A Screaming Man
للمخرج التشادي محمد صالح
هارون.
ويعتبر هارون الرائد الحقيقي للإخراج السينمائي في تشاد، ولا أقول
للسينما، فلا توجد هناك صناعة سينمائية أو إنتاج سينمائي له صفة
الاستمرارية
والدوام في تشاد، بل وقد دمرت معظم دور العرض في البلاد خلال سنوات الحرب
الأهلية.
وقد أخرج هارون ثلاثة أفلام روائية طويلة قبل فيلمه الجديد هي "باي باي
أفريقيا"
Bye Bye Africa،
و"أبونا" Abouna
و"موسم الجفاف"
Dry Season
أو "دارات" Darat،
وكل أفلامه من الإنتاج الفرنسي. وتدور أحداثها
في أجواء الحرب الأهلية
التي تمزق تشاد، وهي الخلفية الرئيسية لفيلمه الجديد الذي يتنافس على
السعفة
الذهبية في مهرجان كان.
الفيلم السابق لهارون وهو فيلم "موسم الجفاف" كان عملا
فيه الكثير من الطموح، لتناول موضوع يدور حول فكرة الثأر وجدواها، وهل يمكن
أن
يتوصل المرء إلى الإحساس بالتسامح حتى مع من قتل والده، دون أن يفقد
احترامه لنفسه،
خاصة وأنه يحيا في ظل تقاليد قبلية عتيقة تضع الكثير من القيود حول عنقه.
أما
فيلمه الجديد "رجل يصرخ" فهو يتناول التأثير النفسي للحرب الدائرة بين
القوات
الحكومية وقوات المتمردين، على العلاقة بين الأب والإبن، بين "آدم" الذي
يعمل مشرفا
على حوض السباحة في أحد الفنادق الفخمة في العاصمة نجامينا، وولده الشاب
"عبد الله"
الذي يساعده في العمل. ومن المشهد الأول الذي نرى فيه آدم يقود دراجته
النارية في
شوارع المدينة في طريقه إلى العمل، نلمح أجواء الصراع المسلح، مع انتشار
نقاط
التفتيش على الطرق، وأمام الفندق، وتعرض آدم للتفتيش اليدوي في الشارع. لكن
الأمر
لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن هناك إدرارة جديدة صينية للفندق جاءت بعد أن
اشتراه
رجل أعمال صيني، وهذه الإدارة تريد خفض العمالة، وتبدأ بصديق آدم "ديفيد"
الطباخ
الذي قضى زهرة شبابه في العمل بمطبخ الفندق، فيجد نفسه وقد أصبح بلا عمل،
مما يؤدي
إلى وقوعه صريع المرض.
وسرعان ما يأتي دور آدم عندما يتم نقله من الإشراف على حوض السباحة، الذي
نرى عائلات ضباط الأمم المتحدة الأوروبيين وأطفالهم يلهون ويمرحون وهم
يسبحون فيه،
إلى تناوب الحراسة على مدخل الفندق.
وتنهار حياة آدم انهيارا تاما، ويسيطر عليه
الاكتئاب، فحوض السباحة، كما يقول للمسؤولة الصينية مدام وانج، هو حياته
بأسرها،
وهو كان بطلا للسباحة في منطقة إفريقيا الوسطى في الستينيات. ويكاد عقله
يطير من
رأسه عندما يعلم أيضا أن ابنه "عبد الله" هو الذي سيحل محله في الإشراف على
الحوض.
الإبن وجل، متردد، بل ومتلعثم ومرتبك، لا يمكنه مواجهة والده. يجلس
الإثنان أمام الأم/ الزوجة "مريم" في البيت، عاجزان عن الكلام. عبد الله
يشعر
بالذنب لاستيلائه على مهنة والده، لكنه يبرر ذلك بقوله: إنه أيضا من حقه
الحصول على
عمل مناسب لأن أمامه مسؤوليات في انتظاره. وآدم لا يمكنه قبول الانسحاب من
موقع
يعتبره ملكا أبديا له بحكم تاريخه الشخصي!
وتقع الطامة الكبرى التي تزلزل حياة
الأسرة كلها عندما يساق الإبن عبد الله، لأداء الخدمة العسكرية، ووالده
آدم، يراقب
الجنود يسوقونه بالقوة، من نافذة حجرة النوم، دون أن يتحرك لمساعدته أو حتى
لتوديعه، بينما أمه تصرخ وتولول، وتستنجد بآدم دون جدوى.
تحضر ضيفة جديدة تحل
على الأسرة المحطمة، هي حبيبة الإبن التي تحمل أيضا في أحشائها جنينا منه،
ويرحب
بها آدم ومريم ويرعيانها كإبنة لهما. والمسكينة لا تكاد تصدق أن عبد الله
اختفى
هكذا ببساطة. وفي لحظة مواجهة مع الذات ممزوجة بنوع الإحساس بالندم العميق،
يعترف
لها آدم بأنه هو الذي أبلغ السلطات في ابنه.
وطول الوقت، نلمح آثار الحرب
الأهلية غير المعلنة في البلاد، الراديو يبث الكثير من الأخبار عن
المتمردين
الاستيلاء على بلدتين، ونفي الحكومة، ومسؤول الحكومة المحلية يمارس ضغوطا
على آدم
من أجل التبرع بالمال لصالح المجهود الحربي للقوات الحكومية، وأصوات
القذائف وإطلاق
النار هنا وهناك، ومع اتساع التهديد الذي تمثله قوات المتمردين، يهرع
السكان في
هلع، إلى الفرار من المدينة حاملين معهم أمتعتهم، بينما مسؤول الحكومة
يخاطبهم عبر
مكبر الصوت، داعيا إياهم إلى البقاء، مؤكدا أن الوضع "تحت السيطرة".
آدم، مدفوعا
برغبته في التكفير عن الذنب، يذهب للبحث عن ولده إلى أن يعثر عليه جريحا في
صدره
وقد غطت وجهه الضمادات، فيقوم بتهريبه ومساعدته على النجاة والعودة به إلى
حبيبته.
وينتهي الفيلم تلك النهاية التي يمكن للبعض أن يعتبرها سعيدة، غير أنها
تشير إلى
استمرار المأساة وامتدادها في تشاد.
في الفيلم أجواء افريقية صرف، من خلال
الشخصيات المختلفة التي تنتمي إلى بلدان أخرى، مثل الطباخ ديفيد الذي يقول
إنه من
الكونغو، وحبيبة عبد الله التي جاءت من مالي، كما يصور هارون كعادته،
الكثير من
العادات والتقاليد، ويستخدم إيقاعا بطيئا يعتمد على اللقطات الثابتة أكثر،
وعلى
الحركة البطيئة للكاميرا، وعلى الإبقاء على اللقطة زمنا أطول على الشاشة،
كما يهتم
بالتكوين، وبالإضاءة خاصة في المشاهد الليلية، وينتقل من المدينة إلى
الصحراء، ومن
الداخل إلى الخارج، دون أن يفقد التدرج اللوني الطبيعي في إطار الشاشة
العريضة التي
تساهم في إضفاء طابع ملحمي على الفيلم.
ويعتمد هارون أيضا على براعة ممثليه
الذين يبرز من بينهم بوجه خاص الممثل يوسف جاورو الذي يؤدي دور آدم برصانة
وحزن
عميق في عينيه.
إلا أن مشكلة هذا الفيلم أن مادته الدرامية البسيطة لا تساعد على
التعمق في الفكرة ومنحها أبعادا أكثر شمولية، سواء على الصعيد الفلسفي أو
الإنساني.
فهناك الكثير من الغموض الذي يلف سلوك الشخصيات: لماذا يبدو عبد الله مثلا
مبتهجا
إلى هذا الحد بعد أن تتم ترقيته من مساعد لوالده إلى مسؤول عن حوض السباحة؟
وما
الذي يمكن أن يمثله حوض السباحة أصلا في الموروث الثقافي الافريقي لكي
تنهار حياة
آدم بعد إبعاده عن العمل بجواره؟ وهل أبلغ آدم السلطات فعلا عن ابنه لكي
يسوقونه
إلى الجيش؟ وهل كان الإبن متهربا أصلا من أداء الخدمة، علما بأنه العائل
الوحيد
لوالده المتقدم في العمر؟ وما موقف الزوجة مريم، أكثر من تكرار التعبير عن
استيائها
من أن أحدا منهما، أي الإبن والزوج، لا يطري طهيها، ولا يقبل على تناول
الطعام، دون
أن تسعى لفهم حقيقة ما حدث. وما هذه الصدفة التي تجعلنا نكتشف وجود حبيبة
لعبد
الله، تحمل أيضا طفلا منه؟ وما هو المغزى الخاص لاستيلاء رجل أعمال صيني
على
الفندق؟.
وربما
يكون الإيقاع أيضا أكثر بطئا مما يمكن احتماله في العديد من المشاهد، حتى
أنه بدا
مفتعلا، لإضفاء سمة خاصة على الفيلم، كما أن كثرة تكرار التركيز، من خلال
لقطات
قريبة (كلوز أب)، على وجه آدم، أفقدت هذه اللقطة قوتها التعبيرية الخاصة بل
ودفعت
أحيانا إلى الشعور بالملل منذلك التكرار الذي لا يضيف جديدا.
ولعل القتامة
الشديدة في أحداث الفيلم، كانت تقتضي كسر هذا الطابع الثقيل من خلال ابتكار
بعض
المواقف التي تتسم بروح المرح، وإن كان المخرج- المؤلف قد حاول في المشهد
الذي نرى
فيه ديفيد يقول لآدم إنه أخبر للسيدة وانج إنه يفرط في وضع الملح في
الطعام، فقط
عندما يقع في الحب، وإن بعض الناس لا يعرفون غير الكلام فقط!
ولاشك أن مشاركة
فيلم "رجل يصرخ" في مسابقة مهرجان دولي كبير مثل كان، تعيد تسليط الأضواء
على
السينما الإفريقية المنسية التي لم تعد تحظى بأي اهتمام حقيقي (في العام
الماضي كان
هناك فيلم واحد أيضا من افريقيا السوداء في كان هو فيلم "قل لي من أنت؟"
للمخرج
سليمان سيسي من مالي).
أخيرا ربما تجدر الإشارة إلى أن المخرج محمد صالح هارون (مواليد
1960) عانى كثيرا أثناء الحرب الأهلية، فقد اختطف عمه، وأصيب هو بجروح
وتمكن من الهرب من بلده على عربة يدفعها شخص استأجره.
وهو يقول إنه يعرف الكثير
من الأشخاص الذين قتلوا زمن الحرب الأهلية أثناء حكم الرئيس حسين حبري،
ويقدر عددهم
بـ40 ألف شخص.
يقول هارون: "البعض ينظر إلى القارة الإفريقية على أنها ضاحية من
ضواحي العالم. ولكن البعض منا يرى أحيانا أنه يمكن لهذه الضاحية أن تعيد
الحياة إلى
منتصف العالم".
الجزيرة الوثئقية في
20/05/2010 |