أحيط تصويره بسرّية شبه
تامّة. فريق العمل زار بيروت لأسابيع، بغية التقاط مشاهد عدّة، مع ممثلين
لبنانيين (أحمد
قعبور، فادي أبي سمرا، طلال الجردي، رودني حداد..)، أدّوا أدوار شخصيات
مسجّلة في التاريخ الجماعي الغربي في لائحة الإرهابيين، في حين أنهم، في
المعسكر
العربي، أبطال قضية عادلة (وديع حداد، أنيس نقاش، أبو نضال..). أثناء تنفيذ
العلميات الفنية الأخيرة، تقدّم الرجل محور العمل بدعوى قضائية، مطالباً
بالاطّلاع
على التفاصيل الدرامية كلّها. قلقٌ هو من مسألة واحدة: تشويه صورته أمام
الرأي
العام. الردّ الأول واضحٌ: هذا عمل مرتكز على ما بات معروفاً. محاكم
ودعاوي. الفشل
القضائي لاحق مُقدِّم هذه الدعاوي، وهو «البطل» القابع في سجن فرنسي منذ
سنين
طويلة، بتهمة القتل والإرهاب. سارت أمور العمل بانتظام. بات جاهزاً للعرض.
المفاجأة
الأولى: اختياره رسمياً في الدورة الثالثة والستين لمهرجان «كان»
السينمائي. اليوم
الأربعاء يُعرض العمل كاملاً للمرّة الأولى في إطار المهرجان المذكور،
ويُعرض الجزء
الأول منه مساء اليوم على شاشة المحطّة المُنتجة.
الصورة أم الحقيقة
إنه
العمل التلفزيوني «كارلوس». المخرج: أوليفييه أساياس. المنتج الأساسي:
المحطّة
التلفزيونية الفرنسية «كانال بلوس». الحكاية: مقتطفات أساسية من سيرة
المناضل/
الإرهابي كارلوس (عشرون عاماً بين 1974 و1994). ثلاثة أجزاء تلفزيونية،
بلغت مدّتها 320
دقيقة. نسخة سينمائية واحدة، امتدّت على ساعتين ونصف ساعة. تُطلق عروضها
التجارية في الصالات العالمية في السابع من تموز المقبل (المجلة الفرنسية
الأسبوعية «لو
بوان»، 13 أيار الجاري). إيريك ليبيو ذكر أن الموعد قد يؤجَّل إلى الخريف
المقبل، لأن كل شيء بات متعلّقاً بردود الفعل في «كان» (المجلة الفرنسية
الأسبوعية «إكسبرس»،
12 أيار الجاري). الرجل خائفٌ على صورته. ناضل من أجل عدالة القضايا
العربية، وأبرزها فلسطين. خطف وفجّر وقتل وانتهك حرمة أفراد وجماعات.
مُقرّب هو من «الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين». عمل، أحياناً، بإدارة وديع حداد. طارده الغربيون.
حماه العرب. جاء هو من فنزويلا. تخلّى عن دراسة الطبّ من أجل النضال الأممي.
كأنه
أراد السير على خطى تشي غيفارا. التورّط في الحركات الثورية العربية
والعالمثالثية
ملتبس الأهداف والمصالح. النيّة الصادقة حاضرة. لكن العمل الثوري غارقٌ،
أحياناً،
في فساد وارتباطات وتصفيات وعمليات مشبوهة. ربما للأسباب هذه أراد المناضل
الاطّلاع
المسبق على العمل التلفزيوني. في النهاية، اعتُقل في الخرطوم. سُلّم للدولة
الفرنسية. قيل إن أحد أبرز المقرّبين إليه عميلٌ سوري يُدعى علي، ساهم في
إلقاء
القبض عليه. هذه مسائل أساسية للعمل التلفزيوني. غير أن كارلوس، واسمه
الحقيقي
إيليتش راميريز سانشيز، رأى أن هناك تزويراً متعمّداً للحقائق. تقرير
«وكالة
الصحافة الفرنسية» (نشرته الزميلة «القدس العربي» في عددها الصادر أمس
الأول
الاثنين) نقل عن كارلوس قوله إنه قرأ السيناريو: «فيه تزوير متعمّد
للتاريخ. فيه
أكاذيب».
لكن، على الرغم من كل شيء، هناك أسئلة تُطرح عشية عرض العمل
التلفزيوني: كيف تمّ تصوير الأحداث؟ أين هي الحدود القائمة بين الوفاء
للوقائع
التاريخية والجانب الدرامي المتخيّل (وهذا أمرٌ مشروعٌ في أي صنيع فني)؟
إلى أي مدى
تمّ التأكّد من الوقائع ومصداقيتها؟ هل أراد القيّمون على العمل «تشويه»
صورة
المناضل، خصوصاً أن أوليفييه أساياس قال، ردّاً على سؤال حول سبب اختياره
الشخصية
هذه محور عمله الجديد، إن كارلوس نفّذ «غالبية اعتداءاته في فرنسا» (المجلة
السينمائية الفرنسية المتخصّصة «بروميير»، أيار 2010)؟ لائحة الاتّهام التي
صدر
بسببها حكم بالسجن المؤبّد في العام 1997، ارتكزت على تورّطه في مقتل
شرطيين اثنين
ومخبر للشرطة في باريس في العام 1975. في المقابل، فإن مسعى كارلوس
ومحاميته/ زوجته
إيزابيل كوتان بيري إلى مشاهدة الفيلم أو العمل على إيقاف عرضه، مردّه إلى
أن
الرجل، المعروف باسم «ابن آوى» أيضاً أيام «النضال الثوري الأممي»،
«سيُحَاكم
قريباً في باريس»، في أيار 2011 على الأرجح، كما جاء في تقرير الوكالة
نفسها نقلاً
عن محاميته، وذلك في إطار قضية اعتداءات أخرى منسوبة إليه، كالاعتداء على
قطار
باريس ـ تولوز «لو كابيتول» في آذار 1982 (خمسة قتلى)، وعلى مقرّ مجلة
«الوطن
العربي» في باريس في نيسان 1982 (قتيل واحد)، وعلى محطة «سان شارل» في
مرسيليا (قتيلان)،
وعلى قطار سريع في «تان ليرميتاج» في جنوب فرنسا (ثلاثة قتلى) في كانون
الأول 1983. رأت المحامية أن الفيلم يمسّ بمبدأ «افتراض البراءة». قبل
إنجازه، طلبت
من القضاء منح موكِّلها حقّ الاطّلاع على الفيلم. رُفض الطلب، إذ اعتبرت
المحكمة أن
إجراءً كهذا «مخالف تماماً لحرية التعبير». لا تزال المحامية على موقفها.
إنها تدرس
حالياً الالتماسات التي يُمكن اللجوء إليها بعد بثّ الفيلم على صعيد
«الحقوق» من
جهة، و«انتهاك سرية التحقيق» من جهة أخرى، عشية بدء المحاكمة الجديدة:
«عندما
يُشكّل أحدهم عصب فيلم، يُصبح غير مفهوم رفض مقابلة نظرته إلى الأحداث مع
المعلومات
المجمَّعة حول ماضيه. «كانال بلوس» أكّدت أن هذا عملٌ متخيّلٌ، لكنه متعلّق
بسيرة
ذاتية، لأن الأشخاص حقيقيون، كما الوقائع. تقديم كارلوس كقاتل دموي، أمرٌ
مريبٌ:
هناك دعويان قضائيتان لا تزالان (معلّقتان) في المحاكم. الأحكام في فرنسا
مرتكزة
على قاعدة الاقتناع الشخصي، وليس على الإثباتات. (بهذا المعنى) الفيلم
يُخاطر
بالتأثير على الدعويين» («إكسبرس»، 12 أيار الجاري).
أكاذيب أم وقائع
أما
كارلوس (مواليد كاراكاس/ فنزويلا، 12 تشرين الأول 1949)، فقال (وفقاً
لتقرير «وكالة
الصحافة الفرنسية» أيضاً) إنه لا يحتجّ دفاعاً عن نفسه، بل دفاعاً «عن
رفاقي شهداء
الثورة. تناولتني شخصياً أفلام وكتب عدّة في الماضي، تضمنّت أخطاء كثيرة
عنّي». في
حوار منشور في «لو بوان» (13 أيار الجاري) أجراه معه لازلو ليسكي، فنّد
كارلوس بعض
المعلومات الواردة في الفيلم. مثلٌ أول: زعم الفيلم أن الرجل التقى يوري
أندروبوف
في العام 1978 في بغداد برفقة وديع حداد وأبو نضال، وأن المسؤول السوفياتي
(ك. جي.
بي.) كلّفه اغتيال أنور السادات. نفى كارلوس بشدّة هذه الواقعة، واصفاً
إياها بأنها «تافهة».
أشار إلى أنه «كاد» يلتقيه في العام 1969 أثناء حفلة صيد في قوقاز: «لا
أعتقد (أن السوفيات أمروا بقتل السادات)، لكنّي لستُ متأكّداً. هذا أمر
يعود
بالفائدة على القذافي خصوصاً، وعلى صدام حسين أيضاً». لكن، هناك تسجيلات
إستخباراتية مجرية أكّدت أن كارلوس كان يزمع استئجار «غوّاصة» تنقله إلى
مصر لتنفيذ
العملية: «كانت (الكلمة) مجرّد صفيحة. كنّا نعلم جيّداً أن المنزل المقيمين
فيه
داخل بودابست مراقب. بين حين وآخر، كنا نقول أموراً سخيفة تمّ تسجيلها».
بالنسبة
إلى هذه النقطة، علّق الصحافي ستيفن سميث (مساعد أساياس في مجال توثيق
المعلومات)
بالقول إن «الفلسطيني وديع حداد روى لصحافي إنكليزي قصّة هذا اللقاء مع
مسؤول رفيع
المستوى في المخابرات السوفياتية، وكان هو حاضراً. هل كان أندروبوف؟ هناك
شكّ لا
يزال قائماً. لكن كارلوس، الذي رفض تكليف «ك. جي. بي.» هذا، وافق على تكليف
آخر
قدّمه القذافي لاغتيال السادات». مثلٌ ثان: قيل إن صديق كارلوس المدعو علي
(كمال
العيساوي) هو الذي خانه بتسهيل إلقاء القبض عليه في الخرطوم (نهاية
الفيلم)، وإن
علي هذا عميل للمخابرات السورية: «كلا. لا علاقة لهذا بالحقيقة. علي رجل
جيّد».
إذاً، من خانه؟ نفى كارلوس وجود خيانة: «علم الجميع أني مسافر من عمّان إلى
الخرطوم. السعوديون والأميركيون أيضاً. هم الذين أبلغوا الفرنسيين الذين لم
يشاركوا
في الأمر نهائياً». هنا أيضاً، علّق سميث بالقول إنه أمر جلل أن يكون وجوده
في
الخرطوم مكشوفاً إلى هذه الدرجة: «غير أن علي عاد إلى سوريا، مطلعاً
السوريين على
ما كانوا يعرفونه أصلاً. كارلوس نفسه، في كتاب (ألّفته) زوجته، وصف علي
بالخائن.
قال عنه إنه يهوذا».
إذاً، أين الحقيقة وأين المتخيّل، في عمل يُفترض به أن
يُحسَب أساساً على الإبداع البصري؟ الجواب كامنٌ في العمل نفسه. المهتمّون
به
وبموضوعه مدعوون إلى مشاهدته بدءاً من اليوم. لكن، بانتظار هذا، لا بأس
بسرد بعض
المعلومات العامّة حول المشروع، الذي وضعت «كانال بلوس» خمسة عشر مليون
يورو
لتنفيذه (قال أساياس إن تصوير كل جزء تطلّب ستة أسابيع، وإنه احتاج إلى ستة
أسابيع
لإنجاز المونتاج). ففي تحقيقها المنشور في «إكسبرس» (12 أيار الجاري)، سردت
ساندرا
بينيدتي تفاصيل عدّة (منها أن التصوير دام اثنين وتسعين يوماً!)، عائدة إلى
شباط 2006،
داخل مكتب المنتج الفرنسي دانيال لوكونت، الذي شاهد حينها «سيريانا» لستيفن
غاغان: «لم أفهم لماذا لا يُحقّق الفرنسيون هذا النوع من السينما». كان
يبحث عن
موضوع مؤثّر ودولي كموضوع «سيريانا» (تجسّس وصراعات سياسية واقتصادية حول
النفط في
الشرق الأوسط). عثر عليه في كارلوس: «إنه يرمز إلى أولئك
المناضلين الشيوعيين الذين
يضعون أنفسهم في خدمة الأفكار الشجاعة، قبل أن ينتهوا دمويين مجرَّدين من
أي مبدأ.
أردت معاينة الأسطورة». تعاون مع دان فرانك، الكاتب والسيناريست: «أثار
الموضوع
اهتمامي. أردت معرفة كيف أن رجلاً يُدعى إيليتش، وشقيقه يُدعى لينين، ودرس
في جامعة
باتريس لومومبا في موسكو، بات أحد أفضل أصدقاء المصرفي النازي غونو، موصى
له بحقوق
الملكية الفكرية لغوبلز». وصل المشروع إلى يدي أوليفييه أساياس. قال المخرج
الفرنسي (بروميير):
«السؤال الحقيقي لا يتعلّق بمعرفة سبب إنجازي هذه الأفلام التلفزيونية
الثلاثة عن كارلوس، بل بمسألة أخرى: لماذا لم يحاول أحدٌ غيري مقاربة
الموضوع
قبلي». أضاف أن الرجل بالنسبة إلى الفرنسيين «إرهابيّ وقاتل أبرياء بدم
بارد».
يُعرض الجزء الأول العاشرة إلاّ ربعا مساء اليوم بتوقيت بيروت،
والجزآن الثاني والثالث مساء يومي الأربعاء المقبلين، في 26 أيار و2
حزيران، في
الموعد نفسه، على شاشة «كانال بلوس».
السفير اللبنانية في
19/05/2010 |