هناك تاريخ طويل من العروض الآسيوية على شاشة مهرجان “كان” يمتد إلى
الأربعينات من القرن العشرين مع مجموعة من الأفلام التي أنجزت المهمّة
بفوزها بالسعف الذهبية عبر العصور . أفلام يابانية وصينية وتايوانية
وتايلاندية وكورية سبق لها أن شاركت وفازت وأثرت رؤية الناقد، جديداً كان
أم مخضرماً، وعرّفته على ما في جعبة فناني ذلك الجزء من العالم .
المسألة لا تختلف حالياً على الاطلاق . خمسة أفلام من تلك المنطقة تعرض
داخل المسابقة وما توفّره هو اختلافات بيّنة في الثقافة والأسلوب والرؤيا
صوب الحياة كما لو كانت هذه الأفلام آتية من مناطق متعددة ومتباعدة .
هناك “أحزان تشونغكوينغ” للصيني وانغ جيانشواي و”الخادمة” للكوري إيم سانغ
سو، و”انتهاك” للياباني تاكيشي كيتانو و”شعر” للكوري لي تشانغ-دونغ و”العم
بونمي الذي يستطيع تذكّر حياتاته السابقة” للتايلاندي أبيشاتبونغ
ويراسيتاكول . وهذا في المسابقة وحدها، لكن خارجها تطالعنا أفلام أخرى
بينها الفيلم الصيني “لو كنت أعرف” لجيا زانغي، “هاهاها” لهونغ سانغ-سو
(كوريا الجنوبية) و”هل أنت هناك؟” لديفيد فربيك (تايوان) .
تلك التي في المسابقة تتطرّق إلى نواحٍ مختلفة، لكن المواضيع وحدها ليست
أسباب الاختلاف، هي أيضاً المواقف المعلنة في هذه الأفلام من الحياة
والشخصيات التي تستعرضها . هناك، بداية، حديث عن هزّة تصيب العائلة
الارستقراطية الكورية في فيلم “الخادمة” . هذه الهزة تبدأ حين تدخل خادمة
شابّة وجميلة البيت فيقع صاحبه في حبّها، ويكون ذلك بداية لانشراخ حاد في
العائلة وسبيلا لتهاويها، فالزوجة تشعر بأنها لم تعد مرغوبة والابن الشاب
يريد فعل ما يقوم به والده . اما الخادمة، فللمرّة الأولى، تشعر بأنها
مكرّمة ومثار اهتمام، هذا كما يرد في سيناريو وإخراج إيم سانغ-سو الذي سبق
له وأن حقق خمسة أفلام معظمها بقي في إطار دور العرض الفنية ولم يبتعد عنها
كثيراً صوب الأسواق العالمية .
من ناحيته، فإن فيلم تاكيشي كيتانو “انتهاك” عمل مختلف ينتمي إلى تلك
الأعمال التي يكرر فيها المخرج الياباني سبر غور التركيبة العنيفة لبيئة
يابانية حيناً حديثة وحيناً ماضية غلفتها السنون . فيلمه هذا يدور حول
مافيا “الياكوزا” المعروفة عبر أجيال متراصّة فلا أحد كشف سرّها وتشعباتها
وامتداداتها التاريخية، والمخرج المثير للإعجاب عادة لا يفعل ذلك هنا، بل
يتحدّث عن صراع السُلطة بين بعض رؤسائها . بطل الفيلم (تاكيشي نفسه) يعرف
ما تؤول إليه تلك الصراعات ويفهم النفسيات الفاسدة، لكن هذه المعرفة لن
تعفيه من اضطراره للاشتراك فيها حتى من باب الدفاع عن النفس في ساعات الحرج
.
هذا الفيلم آت من مخرج سبق له أن بعث بأفلام سابقة له إلى مهرجاني “كان”
و”فينيسيا” ودائماً ما حصد إعجاباً كبيراً عبر بعضها مثل “سوناتين” الذي
عرضه “كان” سنة 1993 و”المحارب الأعمى” سنة 2003 الذي عرضه مهرجان
“فينيسيا” .
الفيلم الثالث في المجموعة كوري جنوبي أيضاً (كوريا الشمالية نادراً ما
تصدر أفلاماً والمعلومات عن سينماها شبه معدومة) هو “شعر” وهو أيضاً لمخرج
حديث لم تشهد أعماله السابقة الكثير من الانتشار هو لي تشانغ-دونغ . وموضوع
الفيلم بالغ الإثارة: امرأة فوق الستين تعيش مع حفيدتها الصغيرة في بلدة
صغيرة قرب نهر “هان” الكبير، ومعروف عنها شخصيّتها المتقلّبة . في يوم ما
تفاجيء الجميع بانخراطها في مدرسة لتعلّم الشعر وتقبل على نفسها تحدّياً من
نوع لم تعهده من قبل: البحث عن أحاسيس ومنابع وجدانية يمكن أن توفّر لها
عناصر المقطوعة الشعرية الأولى .
الفيلم الصيني “أحزان تشونغكوينغ” للمخرج وانغ جياوشواي ويتناول فيه الوضع
الخاص الذي يفاجئ بطله الكابتن البحري الذي يعود من رحلة أخيرة ليكتشف أن
ابنه سقط برصاص رجال البوليس فينطلق باحثاً عن المسببات ليدرك أنه لم يكن
يعرف الكثير عن ابنه وحياته السريّة .
أما الفيلم التايلاندي “العم بونمي الذي يستطيع تذكّر حياتاته السابقة”
فيتعامل والموضوع الفلسفي الذي ساد بعض أعمال المخرج أبياتبونغ وويراسثاكول
السابقة مثل “مرض استوائي” و”عوارض العصر” . بطله رجل عجوز ليس لديه الكثير
من الوقت لكي يعيش بعدما أخذ جسده يرفض الاستجابة لدواعي الاستشفاء . ينتقل
إلى بلدته التي وُلد فيها ويجمع حوله أفراد أسرته ومن بينهم ابنه الذي لم
يره منذ زمن بعيد . لكن إلى جانب الأحياء، فإن روح زوجته الميّتة ستعوده
أيضاً .
التلميذ التشادي مع أستاذيه في
المسابقة
خلال حكم الرئيس التشادي السابق حسين حبري الذي امتد لثماني سنوات (من 1982
إلى 1990) وجد المخرج محمد صالح هارون أن عليه الهجرة إلى فرنسا هرباً من
النظام الحاكم . كان أصيب في مواجهة ضد النظام (من دون أن نعلم إذا ما كان
اشترك بها أو كان موجوداً بالصدفة) إصابة أقعدته . الإصابة لم تمنعه من
التسلل، بكرسيه المتحرك، هرباً من تشاد ليحط في فرنسا لاجئاً . وهو لا يزال
في مطلع العشرينات من عمره ومليء بالطموح . كان أخرج فيلماً واحداً في
تشاد، التي لم تكن عرفت الا أعمالاً سينمائية قليلة جدّاً في الستينات
والسبعينات من القرن الماضي، ورغب في دراسة الإخراج السينمائي . في منتصف
التسعينات بدأ ينجز أفلاماً قصيرة روائية وتسجيلية . درس أيضاً الصحافة،
لذلك فإن تلك الأفلام تظهر أنه كان يفكّر بعقلية الصحافي في معالجاته
عموماً .
في 1998 أنجز بداية لافتة في أوّل أفلامه الطويلة . الفيلم كان “وداعاً
إفريقيا” واستلهمه من تجربته الذاتية . عمل يمزج التسجيلي (القالب الخارجي
للفيلم) بالرواية (أحداث تقع متخيّلة لا تبتعد عن الحقيقي) وقام هو
بالبطولة لاعباً شخصية اسمها هارون . الفيلم وجد محبّذين بين أعضاء لجنة
التحكيم ما خوّله الفوز بجائزة أفضل عمل أوّل .
في هذا الفيلم الذي يحكي عودة مخرج إلى تشاد بعد طول غياب طرح محمد صالح
هارون بعض المسائل التي يعلم أنه سيواجهها، مثل أن تحقيق فيلم حول وضع خاص
في بلد خال من مكوّنات الصناعة السينمائية سيضعه مباشرة في مواجهة
المثقّفين المحليين الذين يرتابون في أهمية أعماله كونها من إنتاجات غربية
ولا مجالات عروض تجارية لها في البلاد، وبالتالي يرون أنه يصنع فيلمه ذاك
لأعين الغربيين وليس للتشاديين أنفسهم .
هو نوع من المواجهة التي على صدقها، تلعب دور من يريد درء التهمة عنه
باستباق طرحها .
هذا لم يوقفه عند حد ما، بل سعى لاستكمال طموحاته السينمائية فأنجز سنة
2002 فيلما استقبل بحفاوة أكبر هو “أبونا” حيث جاب مهرجانات عدّة كما عُرض
تجارياً في أوروبا وحصد بضع جوائز محفّزة . فيلمه الثالث ورد سنة 2006 تحت
عنوان “موسم جاف” أو “دارات” .
في هذا الفيلم يبني المخرج قضيّته ولبّ موضوعه ببطء مقصود سارداً حكايته
بانعطافاتها القليلة بتؤدة طبيعية . نبدأ في قرية تشادية بعد نحو عقدين من
الحرب الأهلية حيث لا يزال العجوز الأعمى (خَيار عمر ضيف الله) يشعر برغبته
في الانتقام لمقتل ابنه وهو يوعز لحفيده الشاب آدم (علي بكري) بأن يكون يد
ذلك الانتقام بعدما خاب أمله حين أصدرت الحكومة عفواً عاماً عن جميع الذين
ارتكبوا جرائم أو مخالفات جنائية خلال الحرب . يدفع الجد لحفيده بمسدس كبير
ويطلب منه الانتقال إلى العاصمة والانتقام لمقتل أبيه . بهذه الشحنة من
التحريض يصل الشاب فعلاً إلى المدينة، ولسبب غير مبرر، يكتشف الفاعل سريعاً
ويهتدي إلى مكانه . الفاعل هو رجل اسمه نصّارة (يوسف جاورو) يتحدّث من ثقب
في الرقبة، بسبب عاهة، لديه فرن قريب وما لا يبيعه عند آخر النهار يوزّعه
على المحتاجين . الرجل متزوّج من امرأة جميلة اسمها عائشة (عزيزة حسين)
تصغره سنّا وآدم يطرق الباب طالباً العمل ومتقرّباً وغير مستعجل للبت
بمسألة انتقامه . وخلال ذلك يتقرّب من الزوجة الحامل ما يعزز السؤال حول
إذا ما كان الانتقام سيبقى مبرراً وحيداً عند آدم أو أن ما يمر به الآن هو
مزيج من المشاعر ولو أن المخرج يبقي المبرر الأول في البال طيلة الوقت،
مظهراً نوايا نصّارة وطيبة قلبه جنباً إلى جنب مع تاريخه الذي شهد قتله
أنفاساً بريئة .
عين المخرج هارون في ذلك الفيلم كانت على التفاصيل اليومية، لكنه لم ينشغل
كثيراً بمراقبة تسجيلية لا محل لها، بل يختار من النهار والممارسات ما
يلتزم بالموضوع ويسانده . في لب الموضوع يتألّف شكل جوهري: الابن الذي لا
أب له يريد قتل رجل لا ابن له . البديل بالطبع، هو أن نصّارة يصبح الأب
الذي افتقده آدم من دون أن يلتقي به، إذ وُلد بعد مقتل أبيه .
في أحاديث له سابقة، ذكر المخرج هارون أنه تأثر بالمخرجين الياباني تاكيشي
كيتانو والإيراني عبّاس كياروستامي والصيني هاو سياو سيين، وهذا مثير في
هذه الدورة من مهرجان “كان” بالتحديد لأن كل من كياروستامي وكيتانو موجودان
في المسابقة التي يشترك فيها المخرج التشادي بفيلمه “رجل صارخ” . فهل أوصل
التلميذ إلى مصاف من يعتبرهم أساتذته؟.
علامات
مخرجو البداية
كان مفهوم المهرجانات السينمائية لا يزال جديداً تماماً حين أقيمت الدورة
الكاملة الأولى من مهرجان “كان” سنة 1946 والتي ضمّت 45 فيلماً طويلاً .
هذه الأفلام كانت كل ما عرضه المهرجان الذي ترأس لجنة تحكيمه مؤسسه الفرنسي
جورج ويزمان . بكلمات أخرى، كان كل ما هو مطلوب جلب عدد معيّن من الأفلام
الجيّدة وإجراء مسابقة بينها من دون تقسيمها إلى تظاهرات أو استحداث برامج
هامشية أخرى بمزيد من الأفلام .
السنة المذكورة تلت سنة انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية استعادة
الدول الأوروبية التي خسرت استقلالها، حريّتها بعد رد الغزو الألماني، ولو
أن بعضها تخلّص من النازية ليجد نفسه مطوّقاً بالنظام الشيوعي الذي أدّى
بدوره إلى تقسيم اوروبي استمر ردحاً طويلاً: هناك أوروبا الغربية، تلك التي
تقوم على النظام الرأسمالي أو الاشتراكي- البرلماني الحر والنظام الشيوعي
وهذا التقسيم ساهم في تعزيز رغبة الغرب في التعرّف على الآخر كما فعل
لاحقاً حينما بدأت الأفلام الصينية تشق طريقها إلى المهرجانات الدولية،
وكما أخذت الأفلام الإيرانية تفعل من التسعينات من القرن الماضي وصاعداً .
المخرجون الذين شاركوا في تلك الدورة انقسموا إلى قسمين: الأول مغمور
والثاني مشهور . الخانة الأولى، إذ نطالع أسماءها اليوم، نجدها تشمل أسماء
مثل البرتغالي جوزيف لاييتو دي باروس والروماني غبريال باسكال والنمساوي
ليوبولد ليندبيرغ والروسي لَف أرنشتام . معظم أسماء هذه الخانة حققوا
أفلاماً قليلة نسبياً ولم يتداول التاريخ أياً من أعمالهم لما بعد مناسبة
عرضها .
الخانة الأخرى كانت تضم فعلاً أسماء كبيرة ومشهودة تركت آثاراً مختلفة، من
هذا الفريق البريطاني ديفيد لين والأمريكي جون كرومول والروسي ميخائيل روم
والأمريكي تشارلز فيدور والإيطاليان ألبرتو لاتوادا وروبرتو روسيلليني
والبريطاني ألفرد هيتشكوك من بين آخرين .
أحد الذين اشتركوا في المسابقة أيضاً المصري محمد كريم الذي قدّم فيلم
“دنيا” بطولة سليمان نجيب ودولت أبيض وراقية إبراهيم وأحمد سالم .
هذا الاشتراك العربي المبكر تكرر في الأعوام القليلة التالية حيث انضم
اللبناني جورج نصر إلى شلّة العارضين لأفلام هناك، كذلك كمال الشيخ ويوسف
شاهين وصلاح أبوسيف، وهم أفضل مخرجي السينما المصرية على مر العصور .
سوف يكون مثيراً للاهتمام إطلاق مشروع خاص يرصد في كتاب أو بحث ما كل
المخرجين الذين اشتركوا في الدورة الأولى وما حدث لكل منهم على حدة .
والأفضل لو كانت هناك وسيلة لمشاهدة هذه الأفلام لكي نعلم -على الأقل- ما
إذا كان سليماً ذلك التخمين من أن الأفلام التي فازت بالجوائز في تلك
الدورة الأولى، والتي بلغ عددها 27 فيلماً، كان تستحق كلها ما فازت به .
وفي وقت بات نشر ثقافة سينمائية أمر عسير في أي من الأوساط المعمول بها،
فإن العودة إلى الأمس من باب الرصد والتسجيل أكثر صعوبة، ولو أنه بالغ
الأهمية .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
16/05/2010 |