قبل نحو سبع سنوات ظهرت مجلة “فارايتي” الأمريكية بموضوع غلاف حمل عنواناً
كبيراً يكشف فيه كيف أن معظم الأفلام المعروضة على شاشة قصر المهرجانات في
المسابقة الموسمية لمهرجان “كان” عليها أن تكون مُباعة سلفاً لشركة توزيع
فرنسية لكي تدخل المسابقة . الموضوع يذكر بالأرقام كيف أن تسعين في المائة
من الأفلام التي اختارتها لجنة المشاهدة والاختيار لدخول المسابقة هي أعمال
تبنّتها الشركات الفرنسية الكبيرة إما إنتاجاً أو توزيعاً .
الموضوع لم يُقابل بنفي من ادارة المهرجان الفرنسي، والمجلة المعروفة لم
تتراجع عنه، ولو أنها لم تثره مرة أخرى . هذا مع أن الملاحظة كانت حقيقية
واستمرت هكذا الى اليوم .
هذا العام نجد أن هناك عدداً كبيراً من الأفلام التي موّلتها الشركات
الفرنسية، كلياً أو جزئياً، ومعروضة داخل المسابقة وخارجها في التظاهرات
الموازية . ومن أصل ثمانية عشر فيلماً في المسابقة هناك ستة أفلام فرنسية
الصنع، سواء تكلمت الفرنسية (مثل “رحلة سياحية” لماتيو أمالريك و”أميرة
مونتسييه” لبرتران ترفنييه) أو لا (كما حال “رجل صارخ: للتشادي محمد صالح
هارون و”نسخة مصدّقة” لعباس كياروستامي) .
خارج المسابقة، ضمن العروض الرسمية وفي عروض منتصف الليل، يبلغ عدد الأفلام
المنتجة رئيسياً أو كليّاً بتمويل فرنسي ستة أفلام بينها فيلمان في الواقع
بعنوان “كارلوس” وفيلمان آخران في التظاهرة الرئيسية “نظرة ما” . وهذا
ينطبق على فيلم الاختتام “الشجرة” الذي أخرجته الفرنسية جولي برتوشيللي من
بطولة الفرنسية شارلوت جينبسورج التي نالت جائزة أفضل ممثلة في العام
الماضي عن دورها في فيلم “ضد المسيح” .
الأفدح هو أن العديد من الأفلام المعروضة الأخرى اشترتها الشركات الفرنسية
وبذلك تدخل حيّزاً من الانتاج كونها تدفع لقاء حيازتها التوزيع ما يمنح هذه
الأفلام تغطية فرنسية مدروسة .
والعجيب في الأمر الى حد كبير، أن انتشار هذه الظاهرة بدأ في الوقت ذاته
الذي أخذ فيه المهرجان الفرنسي يحجب هويّات الأفلام المشتركة أساساً عن
جميع نشراته وبرامجه الرسمية . تفتح كتيب المهرجان او تذهب الى الانترنت
فتجد أن عنوان الفيلم متبوع باسم المخرج فقط، في حين كان التقليد السابق
الذي اعتمده المهرجان الى أواخر العقد الماضي هو ذكر اسم البلد الذي ينتمي
اليه الفيلم أساساً .
في تبرير ذلك، ذكر المهرجان أن الغاية هو تأكيد انتماء الفيلم الى مخرجه
وليس الى هويّته الانتاجية . تبرير وجده بعض النقاد مقبولاً حينها وربما
ساعد المهرجان على تأكيد هويّته كمهرجان مخرجين . والواقع أن هذا المنحى لا
علاقة وطيدة له مع ذكر او اخفاء اسم الدولة او الدول المنتجة، ويبدو اليوم
كما لو كان وسيلة للتغطية على مسألة تعدد ذكر اسم فرنسا على نحو كبير يشمل
غالبية الأفلام المعروضة كل عام .
وكان أكثر من مخرج تحدّث عن هذه الملاحظة خلال السنوات الأخيرة حين لاحظ أن
أفلاماً تحمل هوية فرنسية كتمويل مشترك، أو بيعت مسبقاً الى شركة توزيع
فرنسية لها الحظ الأوفر في دخول المسابقة.
وهذا يؤكده الموزع والمنتج الفرنسي تييري لا نوفيل الذي نصح أحد المتّصلين
به قبل عامين بأن عليه أوّلاً أن يجد شركة توزيع تتبنّى وصول الفيلم الى
مستوى الترشيحات قبل أن يسعى لتقديمه .
هذا لا يعني بالضرورة أن كل فيلم معروض هناك بيع مسبقاً، لكن القليلة التي
ما زالت بلا موزّع فرنسي هي غالباً ما تحمل اسم مخرجين لهم من الشهرة
والصيت وأسباب الاحتفاء ما يجعل من المستحيل التغاضي عن كل ذلك ورفض
أفلامهم .
من ناحية أخرى، لكن ليست بعيدة، فان بعض الأفلام يكشف عن رغبة المهرجان في
الاحتفاء بها أكثر من سواها . هذا ليس مقصوداً أو يعبّر عن سياسة منتهجة في
هذا السبيل بل عادة ما يتبلور نتيجة ظروف غير اعتيادية، كما الحال هذا
العام، اذ تنتشر صور الممثلة جولييت بينوش في كل مكان كونها تحتل الملصق
الرسمي للمهرجان . وبينوش أيضاً هي الممثلة الأولى لفيلم المخرج الايراني
المعادي للنظام في بلاده عبّاس كياروستامي المعروض داخل المسابقة وعنوانه
“نسخة مصدّقة” ما يجعل الدعاية ملحوظة . على الرغم من ذلك، فان أي من هذه
المسائل لا تؤثر في اختيارات لجنة التحكيم . لأن السنوات السابقة أظهرت كيف
أن “كان” يحترم اختيارات لجان التحكيم ويحرص على تحييدها .
شوكة جديدة في خاصرة اليمين
الأمريكي
ليس من العادة انجاز فيلم أمريكي بكلفة كبيرة قبل تأمين شركة توزيع أمريكية
تتكفّل بدفع الميزانية وفوقها العائدات والحصص التي ارتبط الفيلم بها، لكن
هذا ما حدث مع فيلم “لعبة نزيهة” المعروض في مسابقة “كان” هذه السنة .
تكلّف الفيلم نحو خمسين مليون دولار ويجمع في بطولته كل من شون بن، ناعومي
واتس، تاي بورل وبروس مكجيل وذلك تحت ادارة المخرج دوج ليمان .
حدث ذلك أيضاً في العام الماضي حين أنجز المخرج والمنتج تيري جيليام فيلمه
“خيال بارناسوس” من بطولة هيث لدجر الذي مات خلال التصوير . لكن المغامرة
هناك كانت أكثر فداحة اذ كان على المخرج اعادة كتابة السيناريو خلال
التصوير لكي يتجنّب المشاهد التي كان على لدجر القيام ببطولتها، وحين كان
لابد له أن يتواجد، عمد الى ممثل آخر صوّره من ظهره في مشاهد حوار ضرورية .
لاحقاً ما وجد شركة توزيع تكفّلت بالفيلم على أساس ما أثارته وفاة لدجر من
صدمة بين معجبيه، لكن الايرادات بقيت على الرغم من ذلك دون المستوى المنشود
.
هذه المرّة تدخّلت شركة “سميت”، وهي شركة صغيرة نسبياً، لانقاذ فيلم ليمان
من كارثة متوقعة نجاحاً كبيراً لفيلم لديه ما يقوله في سياسة الرئيس
الأمريكي السابق جورج بوش حول العراق وال “سي آي إيه” ومنوال ما حدث قبيل
غزو العراق بدافع البحث عن أسلحة الدمار الشامل .
* الفيلم هو أكثر من موضوع سياسي . بل هو موضوع سياسي مأخوذ عن وقائع
حصلت بالفعل وعرفت بقضية جوزف ولسون الملحق الاعلامي الذي فضح هيمنة البيت
الأبيض على ال “سي آي إيه” وليِّ ذراعها في سبيل التأثير في نتائج
تحقيقاتها حول موضوع أسلحة الدمار الشامل، او كما كشفت الصحف لاحقاً: “ال
“سي آي أيه” لم يكن لديها أي معلومات مؤكدة حول هذه المزاعم لكن ادارة
البيت الأبيض أرادت منها أن تتبنّى ما تثيره الادارة من ادعاءات” .
حين مانع جوزف ولسون مسايرة تلك الرغبات قام البيت الأبيض بكشف أن زوجته
فاليري واتس هي موظّفة في الاستخبارات الأمريكية وبذلك حرقت ورقة التستر
على عملائها في سابقة أثارت استفسارات واستهجاناً كبيراً .
بيتر بيرج، الكاتب والمخرج الذي سبق له أن حقق فيلم “المملكة” عن عملاء
أمريكيين لل “سي آي أيه” يحطّون في السعودية للمساعدة في تحقيقات المملكة
ضد جماعة ارهابية، كتب هذا الفيلم وأراد اخراجه، لكنه اكتشف أن الميزانية
المحدودة لن تسمح له بتحقيق الفيلم بالصورة التي يريدها . الى ذلك، كان
المنتج والمخرج دوج ليمان لديه معالجة وجدتها الشركة التي تولّت الانتاج،
واسمها “زوكر برودكشنز”، أكثر تلاؤماً مع ما تريده من الفيلم . وفي حين كان
بيتر بيرج غير معني بجلب شون بن الى العمل، نجح ليمان في اقناع الممثل ذي
الموقف السياسي المعادي لسياسة امريكا الخارجية بالانضمام الى الفيلم .
المسألة الثالثة التي يُقال انها حسمت المشروع لصالح ليمان هو أن خلفيّته
كمخرج ناجح تتقدّم خلفية بيرج في هذا المجال، ففيلمه “المملكة” لم يحقق
النجاح التجاري بينما فيلمان لليمان على الأقل، وهما “مستر ومسز سميث”
و”هوية بورن” أنجزا نجاحاً تجارياً كبيراً . كل ذلك لن يعني أن الفيلم سيجد
جمهوراً كبيراً بالتأكيد . حتى مع الاعلام المكثّف الذي سيحصده الفيلم خلال
عروضه الأمريكية، كونه الفيلم الأمريكي الوحيد في المسابقة وكون شون بن
محبوباً فرنسياً وعالمياً . السبب هو أن معظم ما أنتج عن السياسة الأمريكية
خلال حقبة ما بعد 2001 او عن غزو العراق او الحرب على أفغانستان لم يثمر عن
أي نجاح جيّد . بما في ذلك فيلم “المنطقة الخضراء” للمخرج بول جرينجراس
الذي قام ببطولته مات دايمون وعرض قبل أسابيع ليست بعيدة .
في ذلك الفيلم أيضاً تطرّقٌ للموضوع ذاته حول خداع الادارة الأمريكية الرأي
العام بطمسها المعلومات الحقيقية التي وفّرتها وكالة المخابرات الشهيرة .
المفارقة الأخرى هي أن دوج ليمان أحد منتجي سلسلة “بورن” الجاسوسية (تدور
حول عميل ال “سي آي إيه” مات دامون الذي تحاول المنظّمة المعروفة قتله
لأسباب يجهلها)، وهو ان كان أخرج أول أفلام هذه السلسلة الا أن بول
جرينجراس هو الذي تولّى اخراج الفيلمين اللاحقين منها وهما “سيادة بورن”
و”انذار بورن” .
شون بن ونعومي واتس سيحضران المهرجان الفرنسي (اذا لم يثر البركان
الآيسلندي من جديد) وقد يستعيدان حقيقة أن هذا الفيلم هو ثالث الأفلام التي
ظهرا فيها معاً . في العام 2003 ظهرا في فيلم للمخرج المكسيكي أليخاندرو
غونزاليس اياريتو (الذي من باب الصدفة أيضاً له فيلم جديد في مسابقة هذا
المهرجان أيضاً هو “بيوتيفول” مع الإسباني خافيير باردم في البطولة) وفي
فيلم للمخرج الأمريكي نيلز مولر هو “اغتيال رتشارد نيكسون” .
علامات
"كان"
المهرجان الفرنسي “كان” الذي يبدأ دورته الثالثة والستين، الخميس المقبل،
وُلد بضع مرّات في حياته .
المرّة الأولى سنة 1939 حيث باشر دورته الأولى التي استمرّت يومين ثم
توقّفت حين غزا هتلر بولندا وكان لابد من اتخاذ موقف سياسي وطني أوروبي
موحّد . المهرجان بدا حينها حركة في الاتجاه الخطأ في الوقت الخطأ . المرّة
الثانية حدثت حال انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من الاحتلال
سنة 1946 ثم يمكن اعتبار الثورة الثقافية التي وقعت سنة 1968 بمثابة نهاية
مرحلة وبداية أخرى، تليها ولادة لاحقة مع تحوّل “كان” من مهرجان غالبه فني
الى مهرجان نصفه فني ونصفه صناعة وتجارة واعلام . ومع هذا التغير الأخير
تكمن عوامل كثيرة ليست ظاهرة للعيان من بينها أن الفيلم المنتخب للمسابقة
عادة له ضروريات وشروط ليست بالضرورة فنيّة، بل تتبع سلسلة من عوامل
التفضيل، مثل أن يكون، في شكل غالب، ذات خامة بارقة لافتة تحمل عناصر
انتاجية كبيرة، وأن يكون، على نحو منتشر وملحوظ في العديد من الأفلام
المختارة للمسابقة عاماً بعد آخر، مباعاً سلفاً الى شركات توزيع فرنسية او
أسهمت في انتاجه شركات فرنسية .
على ذلك، وبكل حيادية ممكنة، “كان” يستحق المصاف الذي يحتلّه . اذا لم يكن
هناك “كان” فمن الصعب ايجاد مهرجان آخر يستطيع أن يلعب كل الأدوار التي
يتطلّع بها . انه مهرجان أفلام أولى . ولقاء اعلامي . وحدث ثقافي وفني .
وسوق تجارية كبيرة . ومناسبة للصحافة الاخبارية والفنية العامّة، ومكان
يتّجه اليه المخرجون الجدد والقدامى على أمل أن يكون منصّة للمستقبل او على
الأقل للفيلم المقبل .
ما يصنع “كان” عناصر متداخلة غير متواجدة في “برلين” أو فينيسيا منافسيه
الرئيسيين، أو أي مهرجان آخر على سطح الأرض: نقطة جغرافية تمتد كيلومتراً
على الشاطئ وبعرض نصف هكتار في العمق ما يجعل كل الناس تلتقي ببعضها بعضا
شاؤوا أم أبوا . ومنطقة سياحية في الأساس يزيدها حضور الوافدين نشاطاً
وحيوية وتصلح لأن تجمع بين ثقافة السينما وثقافة الملاهي الليلية في نهاية
اليوم الحافل . هو أيضاً مهرجان يُقام في صناعة سينمائية لها تاريخ عريق -
والأهم - أوسع انتشاراً من تلك الايطالية أو الألمانية او حتى البريطانية .
في الغرب هي الثانية بعد الأمريكية واسبانيا هي الثالثة .
لا يُضير المهرجان اذا صلّحنا اعتقاداً سائداً بأن ما يعرضه هو ثلث أهم
الأفلام المنتجة حول العالم كل سنة (الثلثان الآخران هما حصيلة ما يعرضه
“فينيسيا” و”برلين”، أن هناك أفلاماً بديعة رائعة تجد طريقاً مسدودة .
وأحدث الأمثلة على ذلك “السر في عيونهم” للأرجنتيني خوان جوزيه كامبانيللا
الذي نال “أوسكار” أفضل فيلم أجنبي . وهي ليست حالة منفردة اذ يمكن سريعاً
تأليف قائمة من أفلام جيّدة كانت تصلح لمهرجان “كان” لو انتخبت لكنها انتهت
مستبعدة لسبب عادة ليس جوهرياً (تم استبعد فيلم اليوناني الكبير ثيو
أنجيليبولوس “غبار الزمن” من مهرجان “فينيسيا” لأن المخرج لم يستطع تأمين
حضور ممثليه الحفل الليلي) . أكثر من ذلك هو أن لجان التحكيم كثيراً ما
تمنح الجوائز لمن لا يستحق، أو لمن يستحق أقل .
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
09/05/2010 |