أخرج من قاعة العرض لأردّد «ثمة شيء ناقص....لماذا يتسرب لي إحساس عدم
التسليم الكامل لمنطق الحكاية؟»، أستكمل: «نعم، هناك داود عبد السيد في هذا
الفيلم، لمستُهُ، إيقاعه، لكن شيئاً ما أفسد هذا الخيط المتلاحم من مسيرة
هذا المخرج المصري المهم هذه المرة.
الخروج من صالة عرض نهارية تعرض فيلم «رسايل البحر» متزامنا مع إنقلاب
بالطقس، مناسبة لإثبات علاقات الصدفة التي تنبني عليها الحكاية، فبعد
أسبوعين من الشمس اللاهبة ودرجة حرارة تجاوزت 33 مئوية، هاهي السماء تغيم،
ها هو الرذاذ، والهواء العاصف، ورغم ذلك لم أستسلم لكيميا العلامات
التناصية بين غربة يحيى بطل الفيلم وغربتي.
الغربة عموما طاردتني في الأسبوع الأخير، من نص أرنستو ساباتو «النفق»
المكتوب بنفس طزاجة اليوم عام 48، ثم «رسايل البحر» لداود، وبينهما هروب من
وإلى الغربة، في فترات الصمت الطويلة، من التفكير في شؤون الكون أثناء جلي
الأواني على حوض المطبخ، والميل الجديد الى مصاحبة النفس فقط في جولات بلا
معنى في مناطق جديدة بالمدينة.
كل هذا يؤكد أني على إستعداد «منفرد بكآبتي» لأن تلمسني موسيقى
كلاسيكية يستمع إليها البطل طالعة في المساء من شباك فيلا كتيمة دائرية
كشفية في الفيلم، جربت مثله أن أحافظ على نظافة معزلي بدقة من ينتظر كائنات
قادمة لمراجعة نظافة الخواء، ثم الجوع والخوف والرغبة والسقوط المدوي لا
على شاطئ البحر لكن على مقعد في ميدان عام. كل هذا ولم أقتنع بأن منبت هذا
«الحزن الأبدي» ـ الذي يفترض أن داود يقدم مبرراته منذ اللقطة الأولى ـ
أصيل. فيحيى قادم من أميركا ليتسلم ميراثه من أبيه المتوفى حديثاً. هو طبيب
يعاني من مشكلات في النطق تفسد عليه تواصله مع الآخرين، وخال من اي مرتكزات
واقعية تتمثل في عائلة أو أصدقاء. بل إن إرثه هو عبء يطارده من فيلا لا
يستطيع تحمل نفقات إبقائها مفتوحة في القاهرة الى شقة في الإسكندرية يهرب
إليها فيجد فجاجة صاحب البيت الانفتاحي المؤمن الذي يحلم بهدم البيت
ليستبدله بمول تجاري.
يحيى الذي ترك الطب بعد أن تحول الى مسخرة للمرضى والممرضات والأطباء
بحديثه المتقطع وتأتأته في الكلام، يرضى بصيد السمك، يبيعه في السوق ليلبّي
إحتياجاته البسيطة، والوحدة كما نعلم سكندرية في الهوي المتثاقف. ثمة بحر
يمكنك أن تولي وجهك نحوه، ثمة مسحة كوزموبوليتانية في جدران المباني، لا
يحتاج داود للتأكيد عليها بمشهد طويل وممل مستعرضا أفاريز وبلكونات. ثمة
نوّ بحري ومطر ومناخ شتوي مضطرب. لكن البناء لا ينسجم مع إمرأة تمشي تحت
المطر تدعو غريبا لمشاركتها المظلة.
يبني داود العالم من هذه الصدفة: لقاء يحيى بنورا. والأخيرة تقدم
نفسها كعاهرة من الصنف الراقي، ترضى باقتسام السرير معه مقابل 10 جنيهات لا
يبدو أنها تحتاجها أصلا وفقا لملابسها وجمالها غير المهان.
تتزامن صدفة «المظلة» وليلة الشتاء الدافئة مع تجواله المسائي الذي
ينتهي بشباك عازف الموسيقى المجهول. ولاستكمال الكلاشيه السكندري بوحدته
لابد من وجود عائلة من بقايا التنوع السكندري اوائل القرن: أم إيطالية
وإبنتها مصممة ملابس، والأخيرة هي حب يحيى الطفولي.
كي يتمسح داود ببعض الواقعية، يلامس البطل شخصية واقعية هي قابيل،
البودي غارد الطيب. لمسة منضبطة للعالم الذي يكاد يختنق بكلاشيهات الوحدة
المبررة من وجهة نظر المخرج. بودي غارد يخشى أن يضرب أحداً كي لا يقتله،
مأزق وجودي بسيط يتفجر بكشف يحيى له ويعطيه مبررا لمزاملة ذلك الوحش الطيب،
حتى هذه اللمسة تأتي بمصادفة أخرى.
لماذا تفزعني مثل كل تلك المصادفات، أليست السينما الجميلة بعضاً من
المصادفات المنضبطة؟ ألم يقف بطل ساباتو قبل مايزيد على النصف قرن أمام
مجرد نظرة البطلة القتيلة للوحة في معرضه، نظرة متأملة طويلة للوحة تحتوي
نافذة تطل على بحر تمشي على شاطئه إمرأة مجهولة؟
رواية ساباتو وإسمحوا لي بهذا الربط الصدفوي الذي ترافق مع قراءة
الرواية زمن مشاهدة الفيلم- تحكي عن فنان بقدر كراهيته للناس في مجموعهم
بقدر ما يحن إليهم متأرجحا بين الكراهية العمياء والحب المبتذل، ويشعر في
تأمل المشاهدة المجهولة لتلك اللوحة التي لم تلفت إنتباه أحد برابط سري،
يطاردها ليسألها»لماذا نظرت هكذا الى اللوحة، هل أنت مثلي؟ ثمة شفرة فتحتها
تلك النظرة في بحثه المضني والهوسي عن آخر يفك جدار عزلته، آخر سرعان ما
سينتهي بقتله عندما تبدو الأسئلة بلا إجابات واضحة. ومنذ الصفحة الأولى يقر
بأنه قتل الإنسانة الوحيدة التي فهمته، وهو سيحكي فقط قصة هذا الفهم وهذه
الأسئلة.
في رسائل البحر، الصوت منذ البداية هو صوت يحيى. السرد الذي نراه،
والسرد التعليقي على الأحداث، وبعد تأرجحه بين حب الطفولة وحب العاهرة،
يستسلم لاختيار مصممة الأزياء إغواء إحدى زبوناتها، فعلى سريره يتبادلان
الإعترافات الحميمة وفي مقدمتها إعتراف حبيبته القديمة بطفولة يحيى.
فجأة، وبعد إنتصاف الفيلم تماما تنقلب زاوية السرد مرة واحدة. تحكي
نورا (العاهرة المفترضة) عن يومها الممل إنتظارا لقدوم المساء. تشير الى
طفولتها الفقيرة ثم يعاود السرد زاوية يحيى. فإذا ماعرفنا لاحقا أن نورا
ليست بالعاهرة بل انها تعتبر نفسها هكذا مع زواجها السري من غني يصرف عليها
في زياراتها المفاجئة من القاهرة، وهي الحقيقة التي تتكشف في الثلث الأخير
من الفيلم. ثم قبل النهاية نعرف أنها العازف السري للبيانو في جولات يحيى
الليلية. يعني ذلك أن إنقلاب زاوية السرد والإعتراف القصير وغير المكتمل
كان إتكاء درامياً زائفاً لإزاحة بعض الغموض عن الشخصية أو لتبرير تصرفها
كعاهرة وفقا للوعي الذي ينمو به كاتب الفيلم ومخرجه في هذه اللحظة من خطه
السردي الرئيس. يبدو الأمر أقرب الى خدعة غير محبوكة تشككنا لا في حِرَفية
الكاتب فقط لكن أيضا في البناء المواقفي لمجمل الفيلم. فالفيلم قبل هذا
وبعده هو عن أسئلة «يحيى» التي لا تنتهي لنورا عن عملها ورجاله، عن عدم
تصديقه لحبّه عاهرة، عن محاولة تفهمه لما تستطيع أن تقدمه له لا مايرغب
فعليا فيه.
بالعودة الى «النفق»، يطارد البطل «خوان بابلو» عاهرته»ماريا
إيريبارني» بالأسئلة، كما يصفها منفعلا بعد أول لقاء. وهي مثل نورا في
رسائل البحر لا تجد مبرراً للإجابة عليها بإجابات واضحة. إجابات ستزيد ألمه
كما تردد دائماً. لكنها تكاد تعرفه على زوجها العجوز الضرير، بل إنها تنقل
عبر الأخير رسالة حبها له، ثم لا تكاد تخفي عليه إقامتها في مزرعة عشيق آخر
لها هو أبن عمها، بل تستقبله في المزرعة، ومثلما يسأل يحيى نورا عن
إستمتاعها بمضاجعة رجال المهنة يسأل خوان بابلو حبيبته عن إستمتاعها بالنوم
مع زوجها العجوز. في الحالتين لا تنفي السيدتان إستمتاعهما، في الحالتين
تحاولان تعريف علاقتيهما بالبطلين تعريفا ملتبسا يفصل بين الحب والجنس،
يفصل بين التاريخ والحاضر والمستقبل. وكلا الإجابتين لا ترضي المحبين
المهووسين.
متأرجحاً بين الحب والكراهية العميقة يدفع خوان بابلو بأسئلته الى
مصيرها المحتوم، لا يشبع من تناسل هوسه بالاحتمالات، لا يرضى للزمن أو
المستقبل بفك ما استحال فهمه. وكلما أسال دماء ضحيته طعنا بالأسئلة والبناء
المترابط للأحداث فكا وتركيبا كلما بانت نهاية نفقه المسدود، نفق ينتهي
بسكين وقتيلة على سرير في مزرعة تسأله ماذا يفعل بنفاد صبر قبل أن يكرر
طعناته تحت عينيها المحملقتين، في حين يبدو يحيى مهشما تحت اللاإجابة قابلا
لغموض الرسالة التي تلقاها من البحر، قابلا أن يكون زوجا لعاهرة تخفي عليه
أنها عازفة البيانو المجهولة، وتخفي عليه للنهاية حقيقة زواجها منتصرين
سويا للاجدوى الإجابات الواضحة، فيما الأسماك الميتة التي يصطادها صاحب
منزل يحيى بتفجير الديناميت تحيطهما في البحر في مشهد النهاية.
أعود لمنطق الحكي الصدفوي المتراكب بين العملين، وأسأل نفسي سؤالاً
واحدا حول الصدفة في كلّ منهما، الصدفة التي تقود سردا الى نهاية تبدو
منطقية وأخرى غير مصدقة، أو بين صدفتين إحداهما تنتصر لا لنهاية دراماتيكية
بل لتسلسل كارثي منطقي يخفي قانون صدفته بينما يغمز بعين، وبين سرد يتواطأ
بالصدفة ليكرس كآبة وتثاقفاً وغربة لامبررة، في الأول يبدو إستسلامنا
المشروط لعبث فنان شبه مجنون يهذي بشكوكه، يتأرجح بين الحياة والموت، يبدو
منطقياً. وأنتصر لنفسي عند هذه الحدود المفصلية لهذه الذائقة في التشبع
بالهواجس. في الثاني، ثمة هندسة غير منضبطة لتلقّ سلبي غير معمق لوحدة
تنتظر صدفاً حياتية. الإنتظار الأخير غير مقنع. يفتقد حتى لهشاشة القدرية
التي تجعلنا غير مصدقين في النهاية مشهد دخول نورا على يحيى بحقيبتها وقد
تخلصت من الحمل والزواج. يجعلنا غير مكترثين لطفولة يحيى وقد وجدت حبا
يرعاها، حبا لم يبذل سواء في تفتحه أو في أشواكه مجهودا في طرح أسئلته. أمن
هنا يأتي الشعور بالنقص؟ أمن هنا ترشح عدم «تسبيك» المعالجة، أم ان الأمر
يتجاوز حدود ذلك الى إفتقاد داود وجيله هوس»تعميق الأسئلة»؟
المستقبل اللبنانية في
28/02/2010 |