بعد غياب تسع سنوات، يعود المخرج المصري بفيلم مفاجئ وغنيّ بمستويات
القراءة. صاحب «الكيت كات» ما زال رومنطيقيّاً يسكنه الحنين. بعيداً عن
الحبكة بمعناها التقليدي، يترك لأبطاله أن يستأنفوا رحلة البحث أو الهروب،
وللكاميرا أن تشرد في بحر الإسكندريّة وبناياتها القديمة
«لازم نتعب عشان نسمع مزيكا» يقول يحيى (آسر ياسين) ثم يطفئ جهاز
الكاسيت. هو لا يحب الأنغام المضبوطة سلفاً التي تمنحنا إياها الأسطوانات،
بل يفضّل المجازفة بتحمّل نشاز عازف، أو خطأ مايسترو، في سبيل موسيقى حية.
ليس غريباً بالتالي أن يترك كل شيء، حتى رفيقته، كي يلتزم بموعد ليلي أسفل
شباك يبثّ موسيقى غامضة، يَكمن سحرها في أنها ليست موجهة إليه تحديداً...
كأنّها متعة التلصّص على رسالة بعثها مجهول إلى آخر. موسيقى تشبه «رسائل
البحر» التي يحملها الموج فتصل أو لا تصل.
بعد غياب تسع سنوات منذ «مواطن ومخبر وحرامي»، عاد داود عبد السيد
بفيلمه الروائي الثامن «رسائل البحر». وربما لولا منحة وزارة الثقافة
المصرية، لطال انتظاره أكثر. صاحب «الكيت كات» ما زال رومنطيقياً، يخاطب
الحنين ويقدم الأماكن والشخصيات كمجازات لا كحقائق. في «الواقع»، لا يترك
المرء حبيبته ليبحث عن «المزيكا»، ولا يعثر في لحظة يأس على رسالة بحرية في
زجاجة. لكن واقع داود، كما عوّدنا، رسالة فنية وشعورية خالصة. لا مجال إذاً
للمقارنة بين الإسكندرية كما رأيناها في الفيلم، والإسكندرية «الحقيقية».
الشخصيات هنا لا تنطق اللغة التي تناسب دورها في الواقع، بل ما يناسب دورها
في السيناريو. من هذه الزاوية، يمكن استقبال الفلسفة المنسوجة على لسان
الشخصيات، ويمكن فهم حركتهم وقراراتهم، شرط عدم فصلها عن جمالية الفيلم.
أمسك آسر ياسين بالشخصيّة الرئيسية التي كان قد رُشّح لها الراحل أحمد زكي
هل يمكن طبيباً ممارسة مهنته، وهو مثار سخرية المرضى والممرضات؟ إجابة
يحيى كانت بالنفي، لم يتحمّل ضحكات المرضى والممرضات إزاء معاناته في النطق
(التأتأة). هكذا، تحوّل إلى طبيب عاطل، بعدما عجز عن تحدي إعاقته الجسدية
كما تحداها الشيخ حسني الأعمى (محمود عبد العزيز) في «الكيت كات»، أو كما
تقبّلتها نرجس اللثغاء (فاتن حمامة) في «أرض الأحلام».
في «رسائل البحر»، تزداد عزلة يحيى برحيل الأهل، فيقرر خوض الرحلة
التي يخوضها عادة أبطال داود: رحلة البحث أو الهروب أو مجرد الرحيل. هنا،
يغادر يحيى القاهرة إلى شقة للعائلة في الإسكندرية. يمارس الصيد فيبدأ
بتلقّي رسائل حياته الجديدة. وفي ذروة أزمته، تصله رسالة: ورقة ملفوفة داخل
زجاجة قذفها إليه الموج، الرسالة مكتوبة بحروف لاتينية. يبدأ بالبحث عمن
يترجمها له، فهل يجده؟
لكنّ الرسالة الأهم هي نورا (بسمة)، المرأة الغامضة التي تقدِّم نفسها
بوصفها مومساً، ثم يتضح أنها مومس وفقاً لوجهة نظرها الخاصة. أما حبّه
القديم كارلا (سامية أسعد) فتتركه إلى خيار عاطفي وجنسي مغاير. خيار لا
تعرف عنه شيئاً أمها فرانشيسكا (نبيهة لطفي)، الإيطالية التي عاشت في
الإسكندرية. تحتضن يحيى وتسدي إليه نصائحها مع حنانها. لكن لا النصائح ولا
الحنان أفلحا في أن تقضي فرانشيسكا أيامها الباقية في بيتها. العصر
المتغيّر يدهمها في صورة مالك البيت الجديد الحاج هاشم (صلاح عبد الله)
الذي يصطاد السمك أيضاً، لكن بالديناميت!
لسنا هنا أمام حبكة وصراع وذروة بالمعنى التقليدي. كل شخصية حكاية
يمكن التحرك فيها طولياً وعرضياً. يمكن تأمل صراع البشر الهادئ ضد شروط
حياتهم. وعندما يدخل يحيى البار ليسكر لأول مرة في حياته، تنحلّ عقدة لسانه
ويتحدث بطلاقة لأول مرة، لكنه ينهار من السكر فيستيقظ في بيت قابيل (محمد
لطفي)، الـ«بادي غارد» المخيف شكلاً والطيب القلب الذي أقسم ألّا يضرب
أحداً في حياته. الصداقة التي تنشأ بينهما تصطدم لاحقاً بالخطر الذي يهدد
حياة قابيل: ورم في المخ يمكن إزالته بجراحة، لكنها جراحة تهدّده بفقدان
الذاكرة. يكلّف قابيل زميلته في الكباريه بيسة (مي كساب) بأن تحفظ عنه كل
ذكرياته. وفي أحد أعذب مشاهد الفيلم، يلقّنها أسماء إخوته ورفاق الحي، إذ
يخشى ألّا يتذكرهم بعد الجراحة فيظنوا أنه يتعالى عليهم!
طبعاً، لا يدين داود شخصياته، ولا يطلق ضدها الأحكام... ربما باستثناء
الحاج هاشم الذي ظهر في مشهدين يجسدان اقتحام الواقع لأرض الخيال. «مسحة»
الواقعية هنا تبدو في شكلها الأرقى، حيث الحياة صراع بديهي بين حلم ويأس،
ماض وأمل. ورغم بعض مشاهد الزحام ومخفر البوليس والكباريه، إلّا أن أياً من
ذلك لا يخدش هدوء المدينة التي يبتكرها الفيلم. بدت فرانشيسكا وابنتها
كارلا كحيلة درامية أكثر مما بدتا «رمزاً للإسكندرية الكوزموبوليتية». تنسى
الكاميرا نفسها أحياناً فتشرد في تأمل البحر والبنايات القديمة بنقوشها
المنمنمة. التفاصيل الصغيرة تقول كل شيء: خلال الإفراج عن يحيى من المخفر،
نرى يده مقيّدة في باب الحجر بصورة لا آدمية. ونرى كيف يخدش البواب الجديد
بهيئته العدوانية نسق البناية العتيقة.
كعادته، يستخرج داود من الممثلين أقصى طاقاتهم. لذا لم نأسف لذهاب دور
يحيى إلى آسر ياسين، بعدما كان مرشحه الراحل أحمد زكي. أمسك آسر بالشخصية
من الداخل والخارج، وقدمت بسمة أداءً أبان عن تعدد مستويات الممثلة داخلها.
وأدى محمد لطفي دور عمره. موسيقى راجح داود كانت جيدة وإن لم تتألق. أما
كاميرا أحمد المرسي فاتسقت مع روح الفيلم وإيقاعه، حتى بدا كأن المخرج
والمصوّر شخص واحد.
الأخبار اللبنانية في
15/03/2010
«رسائل
البحر» لداود عبد السيد..
حلول
درامية
تنأى عن المنافسة
وكالات: يرى المخرج داود عبد السيد أن فيلمه (رسائل البحر)
والذي عرض مؤخرا في الصالات، هو عن شخصيات تنطلق من فهم مشترك يجمعها أساسه
العيش بطريقه خاصة تروق لها، شخصيات تجد ايضا اعذارا للآخرين الذين يختلفون
معها، ويقول عبد السيد في تصريح ادلى به مؤخرا: «حاولت أن يخرج الفيلم
مشوَّقاً وراقياً. لا يعنيني وجود أفلام عدة تعرض حالياً تتعرض للشذوذ
الجنسي ومعبأة بالمشاهد الساخنة.
فلكل مخرج رؤية وهدف. وأنا بدأت أكتب سيناريو «رسائل البحر» من أكثر منذ ثلاث سنوات. لست في سباق أو منافسة مع أحد،
فالحلول الدرامية الجمالية التي استخدمتها للإيحاء بالجنس سواء بين البطل
والبطلة أو بين الصديقتين، لا تثير الغرائز أو الاشمئزاز، على رغم أنها
محــــور العلاقة بينهم».
وحول تعامله مع أبطال أفلامه، يقول: «أتعامل مع أبطال أفلامي كأصدقاء،
في جو من الحب والتفاهم. أقرأ السيناريو معهم، نتكلم، أستمع الى أسئلتهم،
وأوضح لهم أبعاد الشخصيات وأدخلهم في أجواء الفيلم. وبالطبع أثناء التصوير
يتوقف التعامل مع كل ممثل على المشهد الذي سيؤديه من أجل تهيئته للانفعالات
المطلوبة لأحصل على الأداء الذي يرضيني ويخدم رؤيتي للفيلم. خصوصاً انهم
ممثلون ولديهم حساسية ورهافة تجاه الكاميرا. وأذكر هنا أن كثيراً من مشاهد
الفيلم صورت في وقت هبوب «النوة» في الإسكندرية في جو ممطر وعاصف، لأنني
كنت أنتظر هذا الجو!. صحيح أن الممثلين وطقم المصورين أرهقوا إلى حد كبير
لأننا صورنا نحو 18 ساعة في اليوم واستمر ذلك خمسة أسابيع، لكني أجد ذلك
أمراً منطقياً يجب أن يعتاده الممثل المحترف في بلادنا مع الحفاظ على
تركيزه».
الإتحاد العراقية في
14/03/2010 |