باستثناء المشاهد التى تكفى لعمل فيلم تسجيلى عن جمال ودقة العمارة
الرومانية فى مدينة الاسكندرية، وباستثناء الأخطاء المتكررة فى بعض المشاهد
التى يتحدث بها يحيى "آسر ياسين"، مرة وهو متلعثم بالكلمات ومرة وهو منطلق
اللسان مع صديقه داخل الترام، وباستثناء نمطية أداء محمد لطفى (قابيل)
لشخصية البودى جارد التى كادت تتطابق صورة وصوتا مع الشخصية التى قدمها
سابقاً فى فيلم كباريه، وباستثناء الأداء المتواضع جداُ للممثلة بسمة فى
تجسيد شخصية (نورا) والذى اعتدنا عليه فى كل أعمالها السابقة، وباستثناء
أخطاء الراكورات فى مشهد نرى فيه ثياب البطل يتبدل بين لحظة صعوده السلم
حيث تتبعه الكاميرا ولحظة دخوله باب منزله حيث تستقبله الكاميرا، وباستثناء
غموض الأحداث المتقاطعة التى لا تكاد تتقابل فى ذهن المشاهد حتى يقطعها
حوار بارد ومكرر فى كثير من الأحيان، وباستثناء الحوار الذى احتاج أكثر
الجمهور بساطة الى وجود ترجمة لمحتواه أسفل الشاشة، وباستثناء الميزانية
التى ساهمت بها وزارة الثقافة فى دعم وتمويل جزء من انتاج فيلم رسائل
البحر، باستثناء كل هذا إلا أن مشاهد البحر والأمواج الحيه المتلاطمة على
الشاطئ والصخور والأمطار الغزيرة التى يتسم بها الجو الشتوى فى مدينة
الأسكندرية الجميلة، هى الشيء الوحيد الذى أعطى الفيلم لمسة فنية جمالية
مبهرة لنفس المشاهد الصبور الذى جاهد مستميتا للخروج بفكرة من فيلم رسائل
البحر!.
رسائل البحر هو الفيلم الأحدث للمخرج داود عبد السيد بعد آخر فيلم
قدمه منذ ثمانى سنوات "مواطن ومخبر وحرامي" عام 2001.
رسائل البحر فيلم يحمل مجموعة أفكار عصرية تعتبر امتداد لما سبق أو
نتائج طبيعية لخلط ثقافات متعددة بثقافتنا العربية، يأخذنا الفيلم الى قصة
يحيى الذى يصبح وحيداُ بين أركان أحد الفيلات الواسعة بالقاهرة بعد وفاة
والديه وسفر اخيه الوحيد، فيشعر يحيى بملاذ الوحدة التى كان يتمناها دائماً
للفرار الى الحرية التى افتقدها فى ظل سيطرة عائلته على مسار حياته وحرمانه
من أبسط حقوقه فى الاختيار، شعر يحيى بأن الوحدة خير من الانتماء إلى أسرة
تسلبه حرية تقرير مصيره ويبدأ بالانطلاق إلى عالم آخر يشهد خطواته الأولى
وكأنه طفل وليد خرج لتوه من شرنقة الطاعة التامة لأوامر والديه، فيبحث عن
كل ما كان ممنوعا ويلجأ لتغيير حياته حتى وان كان هذا التغيير انحدارا
للأسفل، فيقرر الرحيل من هذا القصر الخالى من أنفاس الناس ويعود الى شقتهم
القديمة فى أحد أحياء مدينة الاسكندرية الراقية حيث تصدمه ذكريات الماضى مع
إحدى جاراته الأجنبيات والتى كانت على علاقة سابقة معه فيحاول يحيى إقناع
ذاته أن الحب بينهما مازال موجودا أما كارلا جارته إيطالية الاصل تعترف له
أنها تفتقد لشيء خفى فى علاقتها مع الجنس الآخر، ويكتشف يحيى أن هذا النقص
يأتى من اختيار كارلا لحياة الغواية (على حد تعبيرها) والتضحية بالحياة
الطبيعية فى بناء أسرة مقابل متعتها التى لا تحصل عليها الا مع سيدة أخري،
وتنصرف كارلا فى هدوء من حياة يحيى ويفقد أول خيط جعله ينتمى الى شيء
اختاره بإرادته، فيختار حياة أخرى أكثر عزلة نفسية عن المجتمع الذى ينظر له
بسخرية بسبب إعاقته عن الحديث بشكل طبيعى وتلعثمه فى الكلام مع الناس الذى
يدفعه لترك مهنة الطب والعمل كصياد متعته الوحيدة تتلخص فى الوقوف امام
احدى النوافذ التى يصدر منها صوت عزف موسيقى يعشقها، ومنها ندرك أنه حرم من
شغفه بالموسيقى مقابل رغبة والده فى دراسته للطب.تظهر نورا فى حياة يحيى فى
مشهد أشبه ما يكون لقصة مستوحاة من أشعار نزار قباني، نشهد امرأة بكامل
أناقتها تسير بمفردها فى شارع يكاد يخلو من البشر ما عدا يحيى الذى تعرض
عليه نورا أن يشاركها السير تحت المظلة للاحتماء معا من سيل المطر الجارف
ويزداد كرمها بدعوتها له باستكمال الليلة الممطرة معا تحت الغطاء.
بعد قهر الأهل لرغبات أبنائهم وظاهرة الشذوذ الجنسى التى قدمها المخرج
من خلال كارلا الايطالية التى تعيش فى مصر منذ ولادتها وتمارس الشذوذ مع
امرأه مصرية أخرى وعلى الرغم من ذلك تتعلل أن البيئة هنا لا تصلح لاسلوب
حياتها وتقرر العودة لايطاليا حتى تشعر بطبيعتها فى مجتمع متجانس الافكار،
وبعد الاشارة لقضية الصيد غير الشرعى التى لا ندرك علاقتها بقصة غرام نورا
ويحيى نضيف الى تلك الإشارات اشارة أخرى تأتى حبكتها الدرامية أكثر اكتمالا
فى السيناريو وهى قصة ما يعرف بزواج المتعة الذى أجازه بعض علماء الدين،
نورا التى تسعى لغواية يحيى حتى وان لم يكن يملك المال ليدفع لها قضاء ليال
معه تحاول تغيير شخصية يحيى الطفولية بحكاياتها عن تفاصيل الليالى التى
تقضيها مع زبائنها وتحاول تدريجيا السيطرة على أفكارة وإقناعه ان النضوج
الكامل يعنى التحرر من فكرة الرجولة والشرف والرضا بكل ما هو أمر واقعى دون
مجادلة أو نقاش، فإما عليه أن يقبل كامل شخصيتها وإما أن يرفضها.
لم تجعلنا نورا نتعاطف معها ولو للحظة كباقى الشخصيات التى تعمل فى
هذا المجال والتى اعتاد كتاب السيناريو دائما على تقديمها كشخصية منكسرة
مجبورة على هذا الفعل اما بسبب الفقر أو الجهل او الانحراف الفطري، لكن هذه
الشخصية لم يعطنا المخرج أى تفاصيل عن حياتها الجانبية والتى دفعت بها الى
ان تكون فتاة ليل، فمنذ المشهد الأول وحتى آخر مشهد تبدو نورا كسيدة
أرستقراطية قوية الشخصية والثراء يطل من عينيها، ومع الوقت نكتشف انها ادعت
على نفسها البغاء وانها زوجة لرجل يأتيها عدد من المرات فى الشهر ليمتع
وقته بعيدا عن رتابة الحياة الزوجية، فتصارحه انها لا تختلف عن العاهرات
سوى بالعقد الذى يجمع بينهما وتقايضه مقابل رجل آخر يحتل مكانه باقى ايام
الشهر، فلماذا تبدو لنا كضحية وهى اختارت بإرادتها الحرة المال مقابل
الاستقرار والحب الذى دائما تبحث عنه مع يحيي.
غالبا يصور لنا المخرجون الشخصيات الاجنبية التى تعيش فى مجتمعنا
العربى على أنها شخصيات متزنة تعرف وتحدد هدفها وترضى بنتائج اختيارها الحر
مثل شخصية كارلا التى ترفض تجديد علاقتها بيحيى وتكتفى بالحياة الأخرى التى
تجد فيها متعتها الوحيدة، عن اقتناع تام أما شخصية نورا تحكمها الأطماع
العربية التى لا حدود لها والتى تبحث دائما عن الكمال دون دفع أى مقابل.
قابيل (محمد لطفي) دخل الى احداث الفيلم زائراً وخرج دون أن نشعر أو
ندرى تأثير وجوده على يحيى فهو مجرد شخص تعرف عليه داخل أحد البارات وتنقل
معه من مشهد الى آخر ومن مكان الى مكان ولآخر مشهد بالفيلم ننتظر أى فعل
يعدل ميزان الأحداث المختل فإذا بنا لا نجد الا أداء مكرر الشخصية البودى
جارد ذات الصوت الأجش والقوة البدنية المفرطة الذى تخشى الاعتداء على احد
حتى لا يفقده حياته.
الوحدة والابتعاد عن الحياة الاسرية تعنى الحرية المطلقة فى اختيار
الافكار وتحديد الاهداف وتحمل المسئولية طالما الاسرة متسلطة على ابنائها،
المشهد العام للفيلم فى ظل فوضى الافكار والمشاهد الطويلة والحوار المكرر
دون احساس او تعبير، لكن ليس بالضرورة أن يتخلص الانسان من ارتباطه الاسرى
وينحرف سلوكه باسم التحرر الجسدى لينال حرية غير مشروطة، الحرية ان لم تكن
عن وعى كامل بالمسئولية تتحول الى فوضى وضياع انسانى واجتماعي.
العربي المصرية في
16/02/2010 |