ومرة أخرى يفعلها داود
عبد السيد فيذكّر.. يذكرنا بالحقيقة التي يطيب لكثيرين التغافل عنها، ولو
بين حين
وحين، مرة أخرى يفعلها؛ إذ يعلن عبر عمله الجديد «رسائل البحر»: إن فنا
يربت على
المستقر من قيم، ويستعطف المجمع عليه من أعراف، ويغازل
المتواطأ عليه من عادات، ليس
فنا حريا به أن يدعو نفسه فنا.. وهو إذ يهمس بأن الفنان هو طفل البشرية
الذي يملك
فضيلة الاندهاش، ومن ثم المساءلة إلى أقصى ما يمرح عقل، وإلى حيث ما يرمح
خيال.
والمخرج إذ يفعل يستحث متلقيه على محاولة
الإجابة على أسئلة هذا الطفل العصية أبدا.. يجيب أو -على أدق
تقدير- يدعونا للتمادي
مع هذا الطفل في التساؤل بجسارة لا تعرف ما نسميه نحن بالتردد.
لعبة الوضوح
والغموض
تدور دراما الفيلم حول (يحيى) الطبيب
الشاب الذي لم يكد يمارس مهنة الطب إلا وانقطع عنها بسبب تلعثم
ما في نطقه يحول دون
حيازة الثقة من مرضاه، أو التقدير من معاونيه.. وإن منحنا الفيلم ببساطة
إجابة حول
أسباب عدم استمرار هذا الطبيب في أداء مهنته، فإنه لا يمنحنا مزيدا من
الإجابات حول
أسباب إصابته بهذا التلعثم من الأساس.. والفيلم إذ يمر على تلك
الحقيقة دون إفصاح
يضعنا على مشارف شاطئ من شواطئ جماليات هذا الفيلم على وجه التحديد، وهو
الإخفاء؛
ففي الوقت الذي تتشابك خيوط الدراما عبر لعبة الصراحة، والوضوح، والإفشاء،
والمعرفة، والنصوع، والإباحة، فإنها بالمثل تلعب على أوتار
الاستغلاق، والغموض،
والإخفاء، والصد، والسر، والتشفير بنفس الكفاءة والفاعلية، بل وأشد من هذا
المدخل
ذاته.. ودعنا نحاول عرض وتحليل دراما الفيلم:
سر لا يكشف بشكل مباشر هو سر تلعثم يحيى
الذي تضيق عليه "فيلا" القاهرة بعد أن يواري والدته التراب..
وبعد عودة أخيه إلى
بلاد المهجر بعد فشله في اصطحاب يحيى معه، على وعد من الأخ -لا يبدو أنه
سيفي به-
بإرسال تحويل شهري يتعيش منه "يحيى".. يرحل
"يحيى" إلى الإسكندرية حيث تقبع شقتهم
القديمة.. يعود ليعيد استكمال علاقات قديمة تركها منذ عشر سنوات.. ويفتح
دوائر
علاقات جديدة تعيد ترميم عالمه المرتبك الملعثم.
لكن يحيى -الذي لعب دوره الممثل "آسر
يس"- ليس متلعثما طوال الوقت؛ ففي لحظات تحققه وانتشائه تقل
تلك اللعثمة وتتوارى
إلى حد بعيد، لكنها تنتفي تماما حين يطرح الفيلم يحيى في صيغة الراوي..
ليضع الفيلم
خطوطا فاصلة بين لسان المقال، ولسان الحال لتلك الشخصية؛ فهي حين نسمعها
تتلى علينا "بالجسد-
بالظاهر- بالواقع- بالشخصية" ترتبك وتتعثر، لكنها ما إن تحضر "حضور الروح-
الباطن- الفن- الراوي" إلا وينتفي هذا
التعثر وتنطق بالبيان.
عودة للمكان
القديم
على لسان يحيى الراوي البليغ، نعرف أنه
جزء من تحولات اجتماعية، تتجاوزه وتحاصره في دائرة تضيق عليه،
فيرحل في رحلة يعيد
فيها بناء ذاته، من خلال التفاعل مع عالم مغاير، لكن العودة للمكان القديم
لا تعني
أبدا عودة للزمان القديم؛ فعبر عينيه تتحرك الكاميرا لنرى المبنى السكندري
القديم،
وقد كساه الزمان بقبح وافد، فما بين أسلاك كهربية ممتدة بين الزخارف
الكلاسيكية
ترتع كثعابين في حنايا الرخام، إلى علب معدنية صدئة تحوي أجهزة
تكييف، إلى كراكيب
تزاحمت في الشرفات على غير استحياء.. يفعل الزمان بالأثر فعاله، قل مثل ذلك
وأكثر
في فعله بالبشر.. فـ"كلارا" شريكة الطفولة والمراهقة المبكرة ليحيى، والتي
عاد
ليتفاعل معها، التفاعل الذي يمكنه من إزاحة تلك السنوات العشرة من خارطة
حياته،
تستجيب له استجابة غائمة بل زائفة بوهم استعادة لحظة ماضية..
غير أنها تنعطف
انعطافة أشد باتجاه ما تعترف هي نفسها بكونه غواية! فتفارق عالم الجنسية
الغيرية
برمته إلى الجنسية المثلية، وتبدأ في علاقة مع إحدى زبائن جاليري الملابس
التي
تملكه هي.. لتكون العلاقة مع يحيى ليست سوى حلاوة الروح، تموت
بعدها علاقتها بعالم
الرجل فتحسم أمرها بالرحيل عن مصر.. فإن كانت كلارا هي سر يتاح ليحيى
معرفته فإنها
أبسط درجات السرية والتشفير في الفيلم.
سر موسيقى
"نورا"
العزف الموسيقي الحزين المنتحب المتألم
المتصاعد من فيلا تكاد تكون مهجورة، سر آخر يتقاطع مع مسار
رحلة يحيى، لكن ما يتاح
له من معرفة عن هذا السر يقل كثيرًا عما يتاح للمتلقي معرفته؛ فخلف النافذة
التي
تنساب منها الموسيقى، وفي موعد محدد يوميا تجلس "نورا" لتعزف ألمها، الذي
هو ألم
الزوجة الثانية، الزوجة السكندرية، الزوجة السرية، زوجة المتعة لرجل أعمال
قاهري
طاب له اقتناؤها بعد أم العيال بشرط عدم الإنجاب. وهو إذ ينفق
عليها يستوفي بذلك
شرط الزيجة كما يتصوره هو، وإذ يأخذ متعة في مقابل ما يدفع يخرج بذلك عن
جوهر
الزواج كما تؤمن هي.. وكم من إثم قد يرتكب في فراش الزوجية الذي عبده مداد
جاف على
وثيقة زواج نالت بذلك كل الشرعية.. "يحيى" دون أن يعرف شيئا من
هذا يظن إذ يقابل
نورا أنها فتاة ليل، برغم عدم وجود ما يشير إلى هذا الظن في مظهرها
الخارجي، لكن
استبصارًا ما يسمح له بالنفاذ إلى عمق ما تعتقده هي في نفسها كما تشير هي
بعد ذلك..
تساوق هي هذا التصور إلى حد ما في محاولة للتمرد على اكتئابها المزمن
فتتطور اللعبة
ويطيح الوهم بالحقيقة من بعد..
ينقضي الفيلم دون أن يتاح ليحيى كشف
حقيقة سر الموسيقى التي آسرته، أي دون أن يعرف أن نورا هي
العازفة، وحين تهاديه
نورا بجهاز تسجيل يسمح له بسماع ما شاء من موسيقى، يتململ هو ويشرح فلسفته
بكون
سماع الموسيقى يستحق بعض العناء، يحيى هنا لا يلغو، ولا يريد أن يستثير
إعجاب
فتاته، إنه يتحدث بصدق، فتحت زخات المطر المنهمر وقف هو مأخوذا
بالموسيقى، ولم يجرؤ
على الانتباه للمطر؛ لتتضافر الموسيقى والمطر بعنفهما على غسله في مجاز
بصري خلاب..
نعود ليحيى الذي يؤكد أن الموسيقى لديه لا
يصح أن يسمعها البشر وقد عزفت في صيغة
محكمة حصينة منتهية متكررة من أسطوانة أو شريط، إنه يريد أن
يسمعها وقد تخللها في
يوم ما خطأ عازف، وفي يوم آخر ارتباك مايسترو، وفي ثالث توفيق يصيب الكل
ولو
لليلة.. ببساطة يريد أن يستمتع بالحضور البشري الحي بمثالبه ونقائصه
واعتواره.. إن
هذا المرتبك المتعثر المتلعثم يريد ما هو إنساني وليس ما هو
آلي أو مثالي حتى في
الفن.. هكذا حين تنقل سيارة الإسعاف نورا من الفيلا أمام عينيه لا يتصور هو
أن
السيارة التي تمر أمامه تحمل تلك التي تؤلمه بأكاذيبها عن عشاقها لينضج من
الطفولة
ويتقبل الألم كقانون للحياة، ومن هنا تنبع مفارقة درامية..
تنبع هنا من مساحة
المعرفة الملتئمة لدى الجمهور والناقصة لدى يحيى، لكنها في الوقت ذاته تصنع
توترا
دراميا قائما على الإخفاء.
رسالة يحيى من
البحر
سر ثالث لا يتاح لا ليحيى ولا للجمهور
كشفه هذه المرة؛ وهو سر الرسالة التي يلقي بها البحر ليحيى في
زجاجة، يحاول هو
معرفة ما تقوله الكلمات المتراصة على الورقة بعد أن يعرضها على كل من يعرف،
وتتسع
دائرة الأصدقاء إلى معارف الأصدقاء، وبالطبيعة الكوزموبوليتانية للإسكندرية
يتاح له
مقابلة بشر من كثير من أرجاء المعمورة، فينفي الكل كون الرسالة مكتوبة
بلغته، ليصل
هو بمساعدة نورا إلى قناعة مفادها أنه بغض النظر عن فضول معرفة
ما قد تقوله الرسالة
أيا ما كانت تقوله، تبقى هي رسالة البحر إليه.. والرسالة وإن لم تحمل خطابا
يحوي
معنى محددًا، إلا أنها تحمل إشارة إلى الغموض المتناقض للسر، ذلك الذي
تتآكل ماهيته
مخفيا كان أو غير ذلك.. فما بقاء ما سيظل مجهولا! وما معنى أن
يسمى (سر) ذلك الذي
يعرف! ولعل الرسالة المنطوية على ذاتها في الفيلم تشغل الحيز الذي يشغله
الفن في
الحياة.
بين نسيان
وتذكر
سر مضحك مبكٍ يفشيه (قابيل)، الدور الذي
لعبه ببراعة لينقله نقلة نوعية في مستوى التمثيل الممثل محمد
لطفي.. سر لا يتصور
لهذا البودي جارد ذي المظهر المرعب.. فجسد هذا المارد يحول دون توظيفه في
أي عمل
خوفا من بطشه المحتمل بل المرجح.. وهنا لم يبق للرجل إلا العمل كفزاعة أو
خيال مآتة
–على
حد توصيفه- مع قسمه الباطني إلا يمد يدا لأحد وهو السر الذي لو كشف لطرد من
عمله.. وهو يفشي هذا السر ليحيى مبررا عهده هذا بكونه قد سبق له في مشاجرة
أن قُتل
بين يديه إنسان.. غير أن الأقدار لا تمهل (قابيل) فيجد نفسه مصابا بصرع
تكشف
التحاليل أن وراءه ورم يجب أن يستأصل، ويعني استئصاله في
الغالب فقد
ذاكرته..
المفارقة أن هذا الذي يريد أن ينسى
جريمته لا يريد أن ينساها في الوقت ذاته، فخبرتنا مهما كانت
سلبية هي معرفة وعلم
وحكمة اكتسبناها بالعزيز الغالي، إنه وببساطة يخشى إذا ما فقد الذاكرة أن
ينسى نظرة
القتيل، يخشى أن يقتل مرة أخرى، يخشى أن يختبر هذا الألم للمرة الأولى مرة
ثانية..
تردد بهذا الحجم لا يحسمه إلا الحب، فحبيبته "بيسا" التي قامت بدورها مي
كساب تتوصل
معه لحل ينبع تماما من التكوين الدرامي لتلك الشخصيات وعالمها، إنه يجلس
بجوارها
ليستعيد معها أسماء إخوته وأصحابه ورفاقه وجيرانه وذكرياته، حتى تذكره إذا
ما نسي..
وتلك اللقطة من أسمى وأرق التجسيدات لمعنى الرفقة في تاريخ السينما المصرية
وبحق.
لغة بصرية
مجازية
بقي أن الفضاء الدرامي المتشكل في آهات
البحر وأسراره لا يستوعب كل أسرار هذا العمل؛ فمساحة الراوي
التي يشغلها في الأغلب
الأعم يحيى تبقى منها مساحة تشغلها "نورا" التي جسدتها الممثلة "بسمة"..
ويحدث هذا
بعد انقضاء ما يزيد عن ثلثي زمن عرض الفيلم، فإن كانت تلك مذكرات يحيى مثلا
أو
تأملاته أو أيا ما كان فكيف تداخلت معها الحكاية من لدن "نورا"؟ ويبدو لي
أن المبرر
الدرامي بارتباطهما العاطفي أو حتى انتهاء الفيلم بتشاركهما غير كافٍ أو
وافٍ.. تلك
النقطة لا يوجد لها عندي أي تفسير!
والشاهد أن لغة بصرية سمحت بوجود لحظات
مجازية مثل هطول المطر مع الموسيقى على روح وجسد البطل..
وتشارك نورا ويحيى لحظة
دافئة حية متحدية يؤطرها السمك المتكاثف المقتول الطافي على سطح الماء، في
انتصار
بليغ لإرادة الحب والحياة في مواجهة القبح والموات.. ثم فراشات تطير محلقة
في الوقت
الذي تحكي فيه بيسة عن ذكرياتها الأثيرة.. كل ذلك يصنع مجازا مركزيا قوامه
أن حدود
التداخل بين الوهم والحقيقة، وبين الواقع والخيال، وبين الفن
والحياة، وبين المتاح
والمأمول، وبين الحاضر والمفارق، وبين الفعلي والمتصور، وبين العلم والحلم؛
حدود
أوهن من أن تعيق بشرا إذا ما أراد.
كاتب وناقد
فني.
معلومات عن الفيلم:
فيلم: "رسائل البحر"
سيناريو وإخراج: داوود عبد السيد
هو عودة للمخرج بعد توقف سبع سنوات.
إنتاج: 2010
إسلام أنلاين في
15/02/2010 |