أصبح من الصعب فى السنوات الأخيرة أن تتعامل مع ظهور فيلم سينمائى
جديد باعتباره حدثاً مهماً يستحق الاهتمام والانتباه.. مثلما
لم يعد من السهل أن
تجد فيلماً يعلى من قيمة المعنى والجوهر الحقيقى لعملية الإبداع السينمائى..
ألا
وهو الإمتاع.. ذلك المصطلح الذى بقدر بساطته اللغوية بقدر صعوبة تحققه على
أرض
الواقع الآن، لأنه يحتاج إلى توافر عدة عناصر أساسية أولها
وأهمها وجود مخرج جدير
بأن يكون صانع سينما حقيقيا..
لديه من الأفكار والأدوات والخبرات الحياتية والفنية ما يجعله
قادراً على تقديم وجبة سينمائية ممتعة بصرياً وفكرياً
وإنسانياً.. كل هذه العناصر
تستطيع أن تجدها بمنتهى البساطة فى مخرج بحجم داود عبدالسيد الذى يمكنك أن
تعتبره
رغم قلة عدد منتجاته السينمائية بأنه أحد صناع السينما الحقيقيين فى مصر
والذين هم
أقلية بالمناسبة.
وكل هذه العناصر أيضاً تجعلنا نتعامل مع أحدث أفلامه
السينمائية رسائل البحر على أنه حدث مهم، لأنه لوحة بصرية ثرية بمفردات
متنوعة..
متناغمة.. ناعمة رغم صخب المتناقضات التى
تعبر عنها.
الرحلة
أنت هنا أمام لعبة داود عبدالسيد
المفضلة.. الإنسان فى مواجهة القدر.. بعبثه.. بسخريته.. بغضبه.. وبظلمه.
أنت
هنا أيضاً أمام سيل لا ينتهى من الخواطر والشكوك والأسئلة التى يثيرها
الفيلم
بداخلك.. هل أفعالنا نتيجة اختياراتنا وقراراتنا أم أن القدر
دائماً ما يحمل أجندته
الخاصة؟.. وهل نستطيع أن ندعى أننا وصلنا إلى الحقيقة أم أنها دائماً
مختلفة
الأوجه.. وأبعد مما نتصور.. وحينئذ أيهما الأصح والأفضل.. أن تسير وراء
الحقائق
المعلبة السهلة التى يتم تلقينك إياها، أم أن تسلك الطريق
الصعب، وتقرر البحث بنفسك
عن حقيقة أخرى.
بين ليلة وضحاها
الفيلم يبدأ
بالتيترات تتخللها مشاهد شبه خيالية لمراكب فى البحر.. وزجاجة قديمة طافية
على سطح
الأمواج التى تسلمها لبعضها البعض تباعاً.. تستطيع أن ترى أن
الزجاجة بها ورقة
مطوية تحمل سراً ما.. يجد أحد الصيادين الزجاجة فيشعر بالخوف منها ويلقيها
مرة أخرى
إلى أحضان البحر.. بداية مناسبة لفيلم أشبه برحلة أسطورية لبطل غير عادى
سرعان ما
نتعرف عليه بعد التيترات.
يحيى أو آسر ياسين من عائلة أرستقراطية ضاق بها
الحال، أخوه يسافر إلى الخارج فى أول الفيلم ويتركه وحيداً بدون رأس مال
تقريباً ما
عدا إيراد ضئيل من الأرض التى يملكونها وأموال سوف يقوم بتحويلها له فيما
بعد.
يحيى يقرر أن يعيش حياته، فطوال السنوات الماضية لسبب أو لآخر لم يكن لديه
حياة خاصة تذكر.. يترك الفيللا الكبيرة التى كانت أشبه بالجنة
الآمنة ويسافر إلى
الإسكندرية ليعيش بمنزل الأسرة القديم.. وليمارس مهنة الصيد التى يحبها.
يحيى لديه مشاكل فى الكلام التهتهة الأمر الذى يسبب له مشاكل مع الناس..
ولكنه سرعان ما يبدأ رحلته الحياتية من الإسكندرية.. لتفاجأ بأنه بمثابة
طفل كبير
يفقد عذرية تجاربه للمرة الأولى.. يذهب إلى بار قديم.. يتذوق الخمر لأول
مرة..
يستيقظ فى اليوم التالى ليجد نفسه فى منزل لشخص لا يعرفه قابيل أو محمد
لطفى الذى
يبدو إنساناً مخيفاً بعضلاته وتقاسيم وجهه الحادة.
انطلاقاً من هذه الأحداث
تبدأ دائرة علاقة يحيى بالبشر من حوله.. فهناك الجارة الإيطالية المسنة
فرانشيسكا
وابنتها كارلا.. حب يحيى القديم.. وهناك قابيل حارس الملهى
الليلى.. وهناك نورا أو
بسمة فتاة الليل التى تكتشف فى النهاية أنها ليست فتاة ليل.. وبيسا أو مى
كساب جارة
قابيل.
رسائل البحر يحمل مستويات مختلفة للطرح كعادة أفلام داود عبدالسيد..
هناك خيط أساسى يتمثل فى رحلة يحيى داخل هؤلاء البشر الذين إما أنهم يعودون
مرة
أخرى إلى حياته مثل فرانشيسكا وكارلا أو أنهم يقتحمونها للمرة الأولى مثل
قابيل
ونورا وبيسا.. أيضاً تجد شخصية أخرى تظهر وتختفى داخل أحداث
الفيلم ألا وهى شخصية
الحاج هاشم أو صلاح عبدالله الذى اشترى العقار القديم الذى يعيش به يحيى
ويريد طرد
السكان منه نظير شقة جديدة أو مبلغ مالى كبير.
كارلا وفرانشيسكا تعبران عن
حالة الحنين لدى يحيى لأيام مراهقته وطفولته.. ذلك الحنين الفطرى للأشياء
المألوفة.. للجذور.. أما قابيل ونورا وبيسا مع الأخذ فى
الاعتبار دلالات الأسماء
فيعبرون عن العالم الذى على وشك أن يكتشفه يحيى.. فتجربته الجنسية مع فتاة
الليل
نورا تبدو كما لو أنها تجربته الأولى.. يدور بينهما حوار على السرير يكشف
مدى سذاجة
هذا الطفل الكبير.
تقفز هى فجأة إلى سريره فيقول لها بس أنا مامعاييش
فلوس.. لا تعلق هى.. ثم يعود هو ليقول معايا 20 جنيه.. تاخدى 10.. تبتسم فى
حنو
وتوافق.. وهكذا تمضى تجربته معها.
رحلة داخل البشر
على مدار ساعتين من الإمتاع يصطحبك داود عبدالسيد فى رحلة سينمائية عذبة
الصوت.. ناعمة الصورة داخل مجموعة من البشر.. فهى ليست رحلة
أحداث فى المقام
الأول.. وإنما هى رحلة للبحث عن حقائق مختلفة للحياة.. يكتشف فيها يحيى
لأول مرة
معانى الجوع، القهر، عدم الأمان، الألم، والمتعة.. يناديه صوت موسيقى
كلاسيكية تعزف
على بيانو وراء ستارة فى فيللا أنيقة.. يقف كل يوم بالساعات لا
لشىء إلا للاستماع
إليها.. لأنها تعزف مشاعر الغضب والألم بداخله.. وحتى اللحظة الأخيرة من
الفيلم لا
يدرك أن نورا التى التقته فى الشارع خارج الفيللا فى إحدى الليالى.. هى
التى كانت
تعزفها.. ليس مهماً أن يعرف.. المهم أن يتلذذ بمتعة التلصص على هذه السعادة
المسروقة.
يفترسه الجوع فى أحد الأيام فيذهب إلى البحر الذى لا يجيبه إلا
بغضب ونوة تطيح بمن أمامها.. فجأة يجد يحيى نفسه يواجه البحر
جيتلك وأنا محتاج
اديتنى.. جيتلك وأنا جعان أكيد حتأكلنى.. ده ظلم ولا فوضى.
وكأنك أمام مشهد
من ملحمة يونانية قديمة.. الإنسان فى مواجهة الآلهة.. فى الصباح التالى..
وبعد
استقرار النوة.. ترسل إليه رسالة فى زجاجة.. تزيد من حيرته
وقلقه وأزمته.. منشغلاً
هو بالبحث عن معناها.. عاجزاً هو عن رؤية الحقائق.. لا يعلم أن المتعة
الحقيقية
ليست فى فك شفرات الرسالة.. وفى الحصول على ملخص قدرى وسحرى للحقيقة وإنما
فى رحلته
هو للبحث عن تلك الحقيقة فى أحشاء البشر والأماكن.. وعليه أن يعلم أنه لن
يجدها فى
رسائل البحر الحتمية القدرية والعابثة.
أثناء الرحلة يصطدم يحيى من وقت
للآخر بـالحاج هاشم الذى يهدده باستخدام القوة التى تأخذ شكلاً أخلاقياً
ودينياً فى
بعض الأحيان.
فى النهاية يطرد يحيى ونورا من المنزل..
ولكن بعد أن أصبح
الطفل رجلاً.. يهرب بها إلى البحر.. وينام الاثنان فى أحضان بعضهما البعض
على سطح
قارب صغير فى وسط البحر.. حولهما أطنان من الأسماك التى طفت
على السطح بعد أن قام
الحاج هاشم الحاضر الغائب بتفجير إصبع ديناميت كوسيلة لاصطياد السمك.
مشهد
رومانسى قاتم وكئيب بدلالته.. الحب يولد على سطح قارب يعيش فى أحضان
الموت.. هكذا
يرى داود صراع الإنسان مع قدره. يحيى ونورا قادران على المقاومة والتمسك
بحقهما فى
الاختيار.. فى مواجهة ظلم وعبثية القدر.
البحث عن إجابات
يحيى كثير السؤال.. أشبه بطفل لم يتخل عن سذاجته بعد.. يبحث عن إجابات
مريحة.. يبحث عن رحلة بدون ألم.. بدون تضحيات.. تغريه الحقائق
التى لا يعرفها..
تغريه المتع التى لا يعرف مصدر سحرها.. يشغل نفسه طوال الوقت بالبحث عن هذا
المصدر.. بحثه المضنى يلهيه عن تلك المتعة الأبدية.
ليس المهم نهاية
الرحلة.. رسائل البحر والقدر ستظل مبهمة إلى الأبد.. ليس مهما أن تعرف
فحواها ولكن
عليك أن تعلم أن البحر هو الذى أرسلها إليك.. هناك مغزى وراء
هذا العبث.. أكمل
الرحلة حتى تصل إليه.. قاوم حتى تصل إلى اليقين الذى يبدو أشبه بوهم أو حلم
بعيد
المنال.. النهايات البسيطة المريحة ليست هى الحل. فى نهاية الفيلم تقول
نورا
لـيحيى: مش مهم الرسالة بتقول إيه.. ممكن تكون رسالة من بحار
لأهله.. ممكن تكون
وصية.. ممكن تكون صلاة راهب.. المهم إنك تبقى عارف إن البحر بعتلك رسالة.
مع إيقاف التنفيذ
فى رسائل البحر أنت أمام مجموعة
من الأشخاص المختلفين.. أهم ما يوحد بينهم هو عجزهم.. جميعهم يعيشون مع
إيقاف
التنفيذ.. مكبلين بخوف يمنعهم من المضى بحياتهم.. البادى جارد المفتول
العضلات ليس
قوياً لأنه خائف من استخدام قوته.. يداهمه مرض خطير فيهرب من
غرفة العمليات.. خائف
من الإقدام على تجربة قد تفقده ذاكرته.. لا يملك إلا الذكريات. وفتاة الليل
ليست
حقاً فتاة ليل.. فهى متزوجة من رجل لا يمنحها ما تريده.. وأصبحت ترى نفسها
مجرد
عاهرة.
يحيى صغير فى مواجهة قوى ثلاثية الأبعاد.. بعد غيبى لا يراه.. بعد
مادى يتمثل فى الحاج هاشم والمنظومة المادية والاجتماعية
الجديدة التى طفت على سطح
الواقع الاجتماعى فى مصر والتى عليه أن يتعامل معها.. وبعد سلطوى يتمثل فى
علاقته
المضطربة برجال الأمن.. ففى المرتين اللتين يتعامل فيهما مع رجال الأمن
يكون مصيره
الحبس وفى المرة الثانية منهما ينال علقة ساخنة يفقد فيها
كرامته على مرأى ومسمع من
الألعاب النارية التى تحتفل ببداية العام الجديد.
روز اليوسف اليومية في
06/02/2010 |