استطاع المخرج داود عبد السيد أن يقدم معالجة جديدة لعديد من القضايا
النفسية والاجتماعية وحتى الجنسية، في فيلمه الأخير "رسائل البحر"؛ ليثبت
أنه مخرج متميز صاحب رؤية مختلفة عن السائد، وقادر على ترك بصمة جديدة في
كل فيلم يخرجه.
القضية الأولى التي تناولها الفيلم، هي قضية الإعاقة في النطق "التهتهة"
ممثلة في شخصية البطل الرئيسي يحيى الذي يقوم بدوره آسر ياسين، وهو شاب ابن
لعائلة من الطبقة المتوسطة القديمة التي أوشكت على التآكل، يموت أبوه ويجد
نفسه وحيدا في العالم. فشقيقه الأكبر، يعيش في الخارج ويكاد يكون منقطع
الصلة به، يقرر البطل أن يترك القاهرة ويعيش في شقة الأسرة في الأسكندرية،
بحثا عن عالم أفضل وأكثر اتساعا، مبررا ذلك بجملة مؤثرة قالها لأخيه قبل أن
يسافر "العالم هنا بقى ضيّق عليّ قوي".
وفي الأسكندرية يتعرف يحيى على عوالم جديدة، بعضها كان يألفه مثل
الجيران الإيطاليين الذين تربى معهم في طفولته، وحبيبته القديمة كارلا،
وعوالم أخرى لم يألفها من قبل مثل عالم الخمّارات والسكر حتى الثمالة.
وتتفتح أمامه عوالم جديدة نتيجة سماعه بالمصادفة صوت الموسيقا ينبعث من أحد
المنازل، فيستمع ويشرب حتى يسكر تماما، ثم بكل براءة وبساطة وتلقائية يصفق
محييا العازف ويهاجم المنزل بحثا عن هذا العازف، وينتهي به الأمر في قسم
الشرطة.
ويفاجأ بأن أصحاب المنزل الذي هاجمه تنازلوا عن المحضر المقيد ضده،
ليصبح هذا المنزل قبلته لسماع الموسيقا المنبعثة منه. حتى يتعرف على نورا
التي تقوم بدورها بسمة، وتعرّفه على نفسها باعتبارها مومسًا.. ترحب بالمبيت
عنده، بل وتسعى الى النوم معه في السرير، فيخبرها أنه لا يملك مالا، ويقترح
عليها أن يقتسم معها 20 جنيها هي كل ما يملك.
ومع الوقت يقع يحيى في غرام نورا، إلا أنه ببراءته الفطرية يغضب
لكونها مومسًا، ويسعى للاستحواذ عليها، بعد أن جرب مشاعر حب سطحية مع جارته
وحبيبته القديمة كارلا، واكتشف أنها متعلقة عاطفيا وجنسيا بامرأة، وكانت
هذه هي الصدمة التي جعلته يسقطها من حساباته، ويوجه مشاعره العاطفية كلها
نحو نورا التي تعامله بحنو وحب بالغيْن، وهو يبادلها المشاعر برغم تحفظاته
الأخلاقية عليها لكونها مومسا.
وبرغم أن المثليات جنسيا ، السحاقيات، تيمة تكررت كثيرا في الأفلام
المصرية الأخيرة، وكان أشهر من جسّدها علا غانم وغادة عبد الرازق، إلا أن
وجود هذه الشخصيات لم يكن مبررا دراميا في الأعمال التي ظهرت بها، وإن كانت
التيمة أصبحت مستهلكة ووسيلة للإثارة وجذب الجمهور لمشاهدة الأفلام لما
تحمله هذه التيمة من مغازي إيروتيكية مفرطة في الإثارة، لكن عبد السيد تمكن
من توظيف تلك التيمة دراميا في سياق الأحداث بشكل جيد ومبرر تماما، مستغلا
القيمة الإيروتيكية العالية للتيمة، وفي الوقت نفسه، مستخدما إياها في حسم
تشتت البطل بين حبين أحدهما متاح وشائك وغير مقبول أخلاقيا واجتماعيا ممثلا
في نورا، والآخر ممتنع بسبب شذوذ كارلا الجنسي.
المشاهد الجنسية في الفيلم ليست قليلة، ولكنها معبرة ومستساغة دراميا
إلى حد كبير. وهي المشاهد التي استدعت كتابة عبارة "للكبار فقط" على أفيش
الفيلم، لكن قد يكون الغرض من كتابة تلك العبارة شيء آخر وهو التأكيد على
الحالة الخاصة التي يمثلها الفيلم، وتتطلب جمهورا من نوع خاص يدرك الأفكار
المثالية التي يطرحها مؤلفه ومخرجه داود عبد السيد، والمعاني العميقة لقيمة
الوحدة والإحساس المفرط بالاحتقار للذات من خلال الزوجة المنسية "نورا"
التي تقيم علاقة مع البطل على أساس أنها مومس.
من المعروف أن عبد السيد لا يعمل في السينما التجارية، بل يعتبر أهم
المخرجين في مصر الآن، الذين يقدمون أعمالا ذات بعد ثقافي ومليئة بالوعي
والمفارقات الذهنية، ما يتضح جليا في اعتماد الفيلم على تيمة الموسيقا
كحبكة درامية من خلال موسيقا راجح داود. وهي الأفلام التي عادة ما تستعصي
على الجمهور، ولا تجد إقبالا كبيرا أو تحقق إيرادات عالية، ما دفعه في بعض
الأحيان إلى محاولة الخروج من هذه المنطقة بتقديم أفلام متماسة مع الواقع
الشعبي ومعبرة عنه تماما، مثلما فعل في "الكيت كات"، أو تقديم أفلام تمتزج
فيها الكوميديا مع التراجيديا مع السخرية في قالب جماهيري أيضا مثل "مواطن
ومخبر وحرامي"، مستفيدا من النجومية التي تمتع بها المطرب الشعبي شعبان عبد
الرحيم في فترة ما.
ما يؤكد أن هناك سعيًا من المخرج لإحداث توازن بين القيمة الفنية
والجماهيرية- المادية للفيلم. وهو ما حاول استدراكه في فيلمه الأخير. إلا
أنه سقط في فخ الإغراق في الذاتية، فيما يتعلق بالشخصية المحورية. فبرغم
أنها شخصية جديدة تماما على السينما المصرية، فالإعاقة النطقية- وليس
الخرس- لم يتم استخدامها من قبل في شخصية رئيسية بأحد الأفلام. وهي شخصية
ذات أبعاد نفسية تتعلق بالطفولة والبراءة، والإحساس الصافي النقي بالعالم.
وتقترب إلى حد كبير في أدائها النفسي، وليس الفكري العدمي، من شخصية ميرسو
في رواية ألبير كامي الشهيرة "الغريب"، وهي بالطبع شخصية فلسفية ذاتية
وفريدة، وغير مستساغة شعبيا أو جماهيريا.
هذه الشخصية جعلت إيقاع الفيلم بطيئا لدرجة الملل، إلا أن عبد السيد
حشد شحنة من المفاجآت في نهاية الفيلم كسرت هذا الملل، وجعلته مسوغا تماما
حتى يكون أثر المفاجاة أكبر وأكثر عمقا. ومنها اكتشاف أن نورا ليست مومسا،
وأنها متزوجة من رجل ثري أدى دوره باقتدار- في مشاهد محدودة للغاية- الممثل
المتميز أحمد كمال.
ومفاجأة أخرى تتمثل في اكتشاف أن نورا هي نفسها عازفة البيانو التي
أدمن البطل عزفها، وأنها أقامت علاقة معه، لتخرج من حالة اكتئاب مزمنة وقعت
فيها بسبب إهمال زوجها لها. فهو يزورها كل أسبوع أو أسبوعين لممارسة الجنس
معها ويعود إلى زوجته الأولى وأولاده في القاهرة. وفجأة وجدت شخصا يهتم بها،
ويشعر بوقع إحساسها من خلال الموسيقا التي تعزفها، فارتبطت به عاطفيا وحولت
هذا الارتباط إلى ارتباط جنسي؛ لتكتمل الحالة بالنسبة لها، وتخرج من
اكتئابها.
لا يخلو الفيلم من إسقاطات سياسية واجتماعية، دليل على التحول الكبير
الذي طرأ على المجتمع المصري بسبب رجال الأعمال الجدد، أو محدثي النعمة.
وجسد هذه الشخصية الممثل القدير صلاح عبد الله في دور صغير، إلا أنه مؤثر
ودال جدا. فهذا الشخص يريد طرد سكان العمارة التي يسكن فيها البطل والتي
تحمل عبق الزمن الجميل وروح الماضي، ليهدمها ويبني مكانها "مول كبير". وفي
إحدى مناقشاته مع البطل تبدو مدى وحشيته وعدم إنسانيته من خلال حوار بسيط
بينهما، إذ يخبر البطل أنه صياد، ولكن ليس لديه صبر على الصيد بالصنارة،
وهي الهواية والمهنة التي احترفها البطل بعد سفره إلى الأسكندرية لكونه
طبيبا فاشلا، يضحك المرضى وزملاؤه والممرضون من تهتهته، ولم يجد مصدرا يوفر
له قوت يومه غير صيد السمك باعتباره منحة من البحر.
ويخبره الحاج هاشم الذي يقوم بدوره صلاح عبد الله أنه يصطاد
بالديناميت، وهو ما يتضح في المشهد الأخير الذي يجمع بين نورا ويحيى في
مركب بالبحر وحولهما كمية كبيرة من الأسماك الميتة، بعد انفجار مدوٍّ.
ويشرح يحيى لنورا أن هذا الانفجار هو صوت الديناميت الذي يصطاد به الحاج
هاشم، وينتهي الفيلم دون أن يدرك البطل معنى أو لغة الرسالة التي وجدها في
زجاجة في البحر ذات يوم، ولم يستطع التعرف على لغتها، ليبدو الأمر وكأنها
رسالة كتبها البحر بلغته لشخص مختار يتميز بالنقاء الكافي الذي يجعله يهتم
بمثل تلك الرسالة.
السياسي الإلكتروني في
06/02/2010 |