تخيل أن تكون وظيفتك التي
تشغلها هي رفد (فصل) الموظفين وإبلاغهم استغناء الشركة
عنهم(!).. تخيل نفسك وأنت
تجلس أمام كل موظف وموظفة وتبلغه القرار بعد أن يكون قد أمضى 5 أو 10 أو 20
سنة في
هذه المؤسسة، ورد فعلهم الهستيري بين من يستقبل الخبر ضاحكا، ومن يستقبله
باكيا،
ومن يستقبله صامتا لا يدري ماذا يقول!.
تخيل من يقول لك: "لقد
وعدت أبنائي بهدايا ورحلة إلى المصيف هذا العام، والآن لن
أستطيع أن أوفر لهم حتى
مصاريف الدراسة؟" وبماذا سترد عليه؟ ومن تقول لك: "لا عليكم فبالقرب من
منزلي يوجد
جسر ارتفاعه شاهق سوف أتسلقه وألقي نفسي في البحر؟".. وكيف تمنعها من
الانتحار؟ ومن
يصرخ فيك ويقول لك: "من أنت كي تفصلني وأنا لم أرك من قبل ولي ذكريات في
هذه الشركة 10
سنوات كاملة أسست فيها الكثير!؟"..
تخيل أن كل موهبتك في هذه
الوظيفة هي كيفية إقناع هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في شركتهم،
وقضوا فيها ساعات حلوة
ومرة، ويعتمدون على دخلها في سداد فواتير وأقساط واشتراكات.. إقناعهم كيف
يستمرون
في حياتهم ويتحركون إلى الأمام دون أن يَدَعوا هذا الفصل يؤثر عليهم؟ وكيف
أن عليك
أن تزين لهم (الفصل) أو (الرفد) على أنه شيء جيد لمستقبلهم،
وأن هذه الوظيفة التي
هم فيها ممكن أن يساعد فصلهم منها في تحسين حياتهم وممارسة هواية أو وظيفة
أخرى
كانوا يحبونها مثلا ولم يلتحقوا بها قبل شغلهم هذه الوظيفة؟
تخيل أنك تقضي عمرك كله في
المطارات تتنقل من مدينة لأخرى تمكث فيها بضع ساعات "تخرب"
فيها بيوت مئات الموظفين
في شركة ما، ثم تلحق بطائرة ثانية لمدينة ثانية على عجل لتخرب
بيوت مئات آخرين
بقرارات الفصل، وهكذا.. من مطار لآخر ومن فندق لآخر ومن شركة لأخرى، وليس
لك بيت
دافئ تنزل فيه أو زوجة أو ولد ينتظرونك، لمجرد أن أصحاب هذه الشركات لا
يجرءون على
مواجهة موظفيهم وهم يفصلونهم (ربما لما يرافق هذا من مواقف
عصيبة) ففضلوا اللجوء
إلى شركتك أنت التي تخصصت في فصل الموظفين بلباقة وعينوك أنت لتصفيتها؟
أوسكار لفصل
الموظفين!
هذه هي باختصار قصة فيلم
UP IN the AIR
أو (ذهب مع الريح) أو (ضاع في الهواء) وفق الترجمة غير الحرفية لمعنى
الفيلم، أو "عاليا في السماء" أو "معلقا في الهواء" وفق الترجمة الحرفية،
والذي رشح
لـ 6 جوائز أوسكار، و6 جوائز جولدن جلوب، فاز منها بجائزة أفضل سيناريو،
ورشح أيضا
لست جوائز بافتا؛ ما يؤكد أنه فيلم جيد يتناول مشكلة اجتماعية
واقتصادية خطيرة
بقالب رومانسي اجتماعي صادم.
فالفيلم الذي يقوم ببطولته
"جورج كلونى" مع "جاسون باتمان"، فيرا فارميجا ومن إخراج جيسون ويتمان،
يركز على
فكرة بسيطة، ولكنها صادمة في المجتمع الأمريكي تتلخص في إظهار الجوانب
الاجتماعية
للأزمة الاقتصادية العالمية التي راح ضحيتها أكثر من 12.5 مليون أمريكي
فقدوا
وظائفهم في ظل البطالة، وآثارها المدمرة على الموظفين.
وبالرغم من أن فصل
الموظفين أو العمال يبدو مسألة بسيطة في عالمنا العربي والإسلامي ولا يتطلب
سوى
إبلاغ الموظف أنه مفصول وأنه –أحيانا- ليس له أي حقوق، فهي في العالم
الغربي تحولت
-في
ظل حالات البطالة المرتفعة وتداول الوظائف- إلى حرفة ومهنة لها شركات تتخصص
في
دراسة كيفية تسريح الموظفين وإبلاغهم –عبر خبراء مدربين على الفصل– أنه تم
الاستغناء عنهم بدون أن يجرحوهم، وإنما من خلال السعي لإقناعهم
أن هذه الوظيفة التي
يشغلونها ليست مناسبة لهم، وأنهم أفضل وأكفأ من البقاء في هذه الوظيفة طول
هذه
السنين وعليهم بالتالي التحرك للأمام للبحث عن غيرها!؟..
وهو يدرك أن وظيفته هي
إيلام الناس لا إسعادهم، ولكنه يسعى لتخفيف وقع الفصل والتسريح من العمل
عليهم عبر
خبرات تعلمها في التنمية البشرية وعلم النفس، ولذلك نجد بطل الفيلم -الذي
يدرك
حقيقة وظيفته- وهو يقول لزميلته ضمن أحداث الفيلم: "نحن نلقي
الناس في البحر ونطلب
منهم أن يسبحوا"!.
مشكلتان
أحداث الفيلم تدور حول دور
"ريان بينجام" -جورج كلوني- الذي تعتمد وظيفته على السفر بطول وعرض
البلاد وإطلاق
الرصاص على الموظفين (فصلهم)، بدلا من مديري الشركات الذين يخشون مواجهة
غضب بعض
موظفيهم وسبهم لهم أو الاعتداء عليهم (!)، ومع تنقل "ريان بينجهام" من شركة
لأخرى
ليفصل موظفيها بسهولة ويسر، وازدحام جدوله بالعديد من السفريات نتيجة تزايد
أعداد
الشركات التي تفصل موظفيها، تواجهه مشكلتان:
(الأولي): أنه يشعر مع
الوقت، وبسبب طبيعة تنقله من مطار لآخر، أن بيته هو الطائرة فقط لدرجة أنه
يفوز
بجائزة لقطعه مسافة 10 ملايين ميل بالطائرات (!)، وأن حياته هي فقط
المطارات
والطائرات والفنادق وشنطته المجهزة التي يحملها من مكان لآخر
ولا يكاد يتواجد في
منزله الحقيقي إلا دقائق كل بضعة أشهر، ومن ثم يتسرب له شعور أنه هو نفسه
"مفصول"
و"مرفود" و"مستقيل" عن الحياة.
(الثاني): أن شركته -التي
تتولى فصل الموظفين- تسعى نتيجة تزايد نشاطها في تسريح
الموظفين لتدشين برنامج
"إلكتروني/ تليفزيوني" لتسريع عمليات الفصل عبر تحويل اللقاءات
المباشرة مع
الموظفين الذين يجري تسريحهم إلى لقاءات خلال شاشات تليفزيونية على طريقة
"الفيديو
كونفرانس"، بحيث يجري إبلاغ الموظف عن بعد بأنه مفصول وتسريع عمليات الفصل
(!)، وهو
ما يعتبره "ريان بينجام" بمثابة فصل له هو شخصيا من وظيفته التي يمارسها
منذ عشرات
السنين وهي السفر بالطائرات، وإرباك لحياته الشخصية الخاوية التي تعود أن
يقضيها في
المطارات والفنادق وحيدا منعزلا ومنقطعا عن أهله لدرجة أنه لا يجد الوقت
لحضور زفاف
ابنة أخته!.
بل إنه عندما تصور أن هناك
من تقوم بوظيفة مشابهة له وتقضي وقتها في الطائرات مثله، وتعرف
عليها وقضى معها
أوقاتا سعيدة وهم بأن يسافر إليها في مدينتها ويفاجئها في منزلها ليعرض
عليها
الزواج والاستقرار، فوجئ أن هذه الإنسانة متزوجة ولديها أبناء وأنها كانت
تفعل هذا
خيانة لزوجها، وتصفه بأنه "مجرد جملة اعتراضية في حياتها" سعت
لمغامرة عاطفية معه،
ولكنها لا تستطيع العيش مع هذا سوى وسط أسرة، بعكسه هو الوحيد
المنبوذ الذي يعاني
من حياة خاوية تماما، ويزيد المأساة والمفارقة أنه لن يدرك ذلك إلا في
مشاهد
النهاية، وعندما يذهب لحضور فرح ابنة أخته ويضطر للاختلاط بالمشاعر
الحقيقية للناس
ويشعر بدفء الأسرة، وما كان يسببه للأسر التي كان يفصل عائلها
من ألم!.
ولذلك تجده، وبينما هو
منهمك في روتينه اليومي المتعلق بخلق الحوافز لدى الموظفين، وإلقاء
المحاضرات
والنصائح -للمفصولين- والتي محورها "أن عليك أن تفرغ حقيقة حياتك من كل
المسئوليات
والعلاقات والهموم، وأن تؤمن بأن الحياة هي الحركة، وأن تستمر في حياتك
مهما يحدث
لك من عثرات، يتوقف فجأة خلال كلمته في أهم محاضرة كان ينتظرها
في حياته في شركة
كبيرة، ويهرب متوجها نحو من شعر أنها يمكن أن تؤثث معه أسرة وحياة.. لأنه
شعر أن ما
يقوله من كلام "معلب" خال من الأحاسيس والمشاعر وأن علاقته الاجتماعية
الأهم مع
زوجة ومع أسرته سطحية ويحتاجهم ليشعر أنه إنسان وليس وحيدا!.
أما زميلته في العمل
-ناتالي
(آنا كيندريك)- الشابة العبقرية فلا يعنيها فقط سوى كسب إعجاب مديريها في
العمل، والتي ابتكرت برنامج فصل الموظفين عن بعد خلال برنامج الفيديو
كونفرانس
لتسريع عمليات الفصل الكثيرة، فلا تختلف حياتها عنه عندما
تصطدم بعواطف الموظفين
وهم يستقبلون إبلاغها لهم بالفصل، ويسبونها أحيانا ويشعرونها بالذنب دوما،
وتضطر
للاستقالة عندما تعرف أن إحدى الموظفات التي فصلتها انتحرت بنفس الطريقة
التي
قالتها لها بعدما أبلغتها أنها مفصولة، فتشعر بدورها أن حياتها
فارغة خصوصا بعدما
هجرها خطيبها أيضا، وأن عملها الناجح في فصل الموظفين لم يوفر لها حياة
اجتماعية
مستقرة مع هذا، بل وتغار من الموظفين الذين يبلغونها أن أهم ما سيخفف عنهم
صدمة
الحياة ويواصلونها هي عائلاتهم وزوجاتهم وأبناؤهم، وهي مزايا
تفتقدها هي
شخصيا.
الفصل الحقيقي
"بينجام" يكتشف في نهاية
الفيلم -متأخرا جدا- كم كانت حياته فارغة مع أنه مشغول جدا ولا
يجد وقتا حتى لفصل
الموظفين أو تناول الطعام، ولذلك سيحاول أن يغير حياته تحت تأثير ما لمسه
من مزايا
للعلاقات الاجتماعية من خلال علاقته مع زميلته، ومع الزوجة الأخرى التي
أحبها
واكتشف أنها متزوجة، والأهم عندما حضر زفاف ابنه شقيقته ولمس
أهمية العلاقات
الأسرية والعائلية وأهميتها، أنه اكتشف كل هذا متأخرا، فيضطر لمواصلة
مشواره في
السفر لفصل الموظفين وإقناعهم أن الفصل أفضل لهم، ولكن وهو بلا روح أو حماس
هذه
المرة لهذه الوظيفة.
وسيكتشف أن من فصلهم هو من
وظيفتهم ربما بعضهم أفضل منه حالا لأنهم لم يفقدوا أبناءهم أو
حياتهم العائلية
الدافئة، وأن الفصل والرفد والتسريح الحقيقي ونهاية الحياة هو عندما تفقد
عاطفتك
وتفقد حبك للآخرين ولا توجد لك أسرة أو حبيبة تخفف عنك، أو أبناء يشعرونك
ببهجة
الحياة، وأن الفراغ الحقيقي هو الفراغ العاطفي لا المادي الذي
يأتي ويذهب في حين أن
الفراغ العاطفي ودفء الأسرة لا يعوضه شيء.
*المحلل السياسي
بموقع إسلام أون لاين.
إسلام أنلاين في
07/03/2010 |