يعرض حاليا على شاشات السينما في أنحاء العالم الفيلم الأميركي "أفاتارAVATAR
" المصنف في دائرة أفلام الخيال العلمي، وهو من بطولة "سام ورثنغتون" و"زو
سلدانا" و"سغورني ويفر"، والإخراج للأميركي "جيمس كاميرون" والذي سبق له أن
أخرج فيلمين شهيرين هما: تيتانيك والمدمر.
السمة المشتركة لأفلام جيمس كاميرون قدرتها على أن تكون مميزة على
مستوى الإبهار البصري، وحاجتها دوما لميزانيات ضخمة كما في فيلم "أفاتار"
الذي تكلف أكثر من 300 مليون دولار. وفيه يعمل كاميرون على تقديم وجبة
سينمائية للمشاهد الذي يتناسى حاضره عبر الانتقال إلى العالم المتخيل الذي
يلامسه عبر تقنية المشاهدة، التي تعتمد على تقنية السينما ثلاثية الأبعاد "Dimensions 3".
قصة الفيلم تقوم على عالم متخيل، عبارة عن كوكب يدعى "باندورا"، يحتوي
غابة تعيش فيها كائنات حية: حيوانات، ونباتات، وقبائل يصل طول الفرد فيها
إلى ثلاثة أمتار، هذه البقعة لا يمكن أن يتواجد فيها بني البشر-أي
الأرضيين- دون أقنعة تسمح لهم بالتنفس. هذا التقديم على صعيد المكان يتقاطع
مع حملة عسكرية وعلمية، يقودها الجيش والحكومة الأميركية لاكتشاف هذا
المكان.. مع الإشارة إلى ان الحملة تتكون من مرتزقة الجيش، وعدد من
العلماء.
بطل الفيلم عبارة عن مقاتل سابق في الجيش، وهو مقعد يتنقل على كرسي
متحرك، يأتي بديلا عن أخيه المتوفى، والذي كان يمتلك خبرات ودورات علمية
تؤهله للتعاطي مع هذا المكان الجديد، يُقابل حضور هذا المُقعد بالاستهزاء
من قبل الجنود والعاملين هناك، ولكنه سرعان ما يلفت الانتباه حين يتمكن من
الولوج إلى عالم القبائل التي تعيش في هذا المكان، وكسب ثقتهم وتعلم طرق
حياتهم، ورؤيتهم للأشياء كل ذلك بمساعدة ابنة قائد القبيلة، يتحقق هذا
التواصل عبر تقنية خلق جسد مشابه لأجساد هذه القبيلة حيث يتم ربط عقل
الإنسان الأرضي بجسد مختلق و ُصنّع شبيه بأجساد السكان الأصليين.
يتمكن هذا البطل من التدرج في اكتساب ثقة قبيلة "النافي"، إذ يعمل هذا
الجندي ضمن مستويين: المستوى العلمي حيث ينقل معلومات علمية حول المكان
والثقافة التي تميز هؤلاء القوم، ولكن على المستوى الآخر، فإن هذا البطل
يقوم بنقل معلومات للقائد العسكري المسؤول عن الحملة، والذي يهدف للحصول
على مصدر للطاقة أو معدن ثمين، يتمركز تحت الشجرة الضخمة التي تسكنها هذه
القبائل، وضمن هذين المستويين، نشهد صراعا داخليا في الواقع الداخلي للبطل،
يتمثل بين الانتماء الحقيقي للمكان الجديد وتمثله عبر ذاته الجديدة، لاسيما
في الجسد القادر على حمله، فهو في الجسد الجديد يتميز بقدرات هذه الأجساد
عوضا كونه غير مقعد، مما يولد له انشطارا وتذبذبا وتوترا بين جسدين وعقل
واحد، مما يصعد حالة التفسخ العقلي والأخلاقي، حيث تبدو الشخصية غير قادرة
على تحديد ذاتيتها بين واقعين؛ واقع الغازي "المرتزق والواشي والمقعد"،
وواقع الشخص الآخر، المنتمي إلى قبيلة "النافي" بجسد مكتمل وبرؤية جديدة
للكون والحياة والأشياء، وبين هذين المستويين، يتفاقم الصراع، لينتصر في
النهاية عنصر الخير المتمثل بالانتماء لهذه القبيلة المسالمة، والانخراط في
القتل والدفاع عن وجودها وثقافتها، لاسيما عندما تقوم القوات الغازية بحملة
لطرد سكان القبيلة من شجرتهم العملاقة، بغية الحصول على المصدر الكامن، أو
المعدن الثمين تحت الشجرة.
الفيلم على المستوى التقني السينمائي، حقق توظيف تقنيات عالية جدا بين
المزج بين صورتين متناقضتين لعالمين مختلفين، وهذا ما نراه على صعيد
التقنية المستخدمة في الإخراج، والتي تتكئ على تقنيات الإبهار العالي
الجودة، خاصة الحركة المتقنة للكاميرا المتنقلة بين عوالم متخيلة بدقة، تم
ابتكارها لتكون محاكاة أو تجسيدا لهذا العالم المتخيل مما يعد تحولا ثوريا
في تاريخ السينما، فكاميرون عمل على استخدام تقنية الواقع "ثلاثي الأبعاد"،
ولاهي عبارة عن كاميرتين عاليتي التفاوت على غلاف واحد، تتيح للمشاهد
التمتع بالإحساس بعمق الواقع، وقد استغرق إنتاج هذا الفيلم أربع سنوات، في
حين استفاد المخرج من جهود واضع الموسيقى "جيمس هورنر" المتخصص في تأليف
موسيقى الشعوب، التي نتذوقها كخلفية ملازمة لحركة وطقوس شعوب "النافي"، مما
أضفى على الفيلم حالة من التماهي بين العالم المتخيل والمشاهد.
المخرج استطاع تحقيق هذه الدهشة عبر الحيوانات والنباتات والكائنات
التي ضمنها في المشاهد، بغية إقناع المشاهد بواقعية العمل، وتوفر هذا
المكان حقيقة، والذي يبدو أنه عالق بين كواكب أخرى، فالمخرج ركز كثيرا على
سمة العلو المكاني، فمعظم المشاهد تنحو منحى يقوم على اتخاذا الكاميرا
موقعا مرتفعا، لتحقيق وظائف كثيرة منها، وظيفة الإبهار البصري، وقد حقق ذلك
بامتياز عالٍ، بالإضافة إلى وظيفة دلالية، تهدف إلى تقديم الارتقاء الثقافي
لهذه القبائل، والتي تتخذ رؤية جديدة للأشياء المحيطة بها، لاسيما الخليط
المكون من الطبيعة والحيوان والنبات والإنسان أو المخلوق، إذ تتعاطى مع
بعضها البعض ضمن حساسية عالية، وطقس كوني جميل، كما نرى مثلا في مشهد قتل
الحيوان، حيث تتم القراءة عليه قبل القتل بعبارات بلغة قبيلة "النافي"، أو
كما نرى في معتقدهم الديني المتمثل بالشجرة التي تحتوي على أرواح من مات،
أو عبر الإشارات المتأتية منها، أو حتى عبر التواصل مع الطيور والدواب،
التي يتم امتطاؤها، حيث تتواصل مع ممتطيها عن طريق خصل الشعر، وهو ما يحقق
انسجاما بين الكائنين، وهارموني شامل بين العوالم والكائنات المختلفة، التي
تتقاسم هذا الكوكب، وتحافظ على توازنه بطريقة مثلى.
مما لاشك فيه أن ضمن هذا الإبهار السينمائي الفخم والمتخم، ثمة قراءة
ثقافية وإنسانية يريد الكاتب أن يضمنها في الفيلم، هذه ميزة جيمس كاميرون،
الذي يجعل لغة الإبهار خلفية لرسالة الفيلم، كما شاهدنا سابقا في فيلم
"تيتانيك"، وهنا تبدو رسالة "أفاتار" شديدة الوضوح، فالفيلم يعكس واقعا
استعماريا "كولونياليا" مسيطرا على صانعي الأفلام في هوليود، فصناعة
السينما الأميركية منشغلة في مفهوم الآخر والغريب وغير المتوقع، كما نلحظ
في إنتاج أفلام نعجز عن حصرها وتقوم على فكرة محورية واحدة، هي أن هنالك
ثمة آخرون على هذا الكون، وهؤلاء الآخرون، غالبا ما يتم تناولهم من
منظورين: المنظور الأول يتمثل بالتهديد الذي يمثلونه على وجودنا وحضارتنا
وحريتنا أي "نحن"، وهذا ما نقع عليه في قائمة طويلة من الأفلام، التي تصور
غزوا خارجيا من الفضاء لكوكب الأرض، بينما المنظور الثاني يتمثل بالانشغال
بالآخر، والرغبة في اكتشافه، ودراسته، وترويضه، والسيطرة، والهيمنة عليه.
المدهش في هذا الفيلم قدرته على أن يكون مندرجا ضمن الخطاب
الكولونيالي، بكل أبعاده، فالفيلم يقوم أولا على أدبيات راسخة في الثقافة
الغربية، تقوم على محاولة غزو الآخر واكتشافه، هذا الغزو يتم عبر وسيلتين
هما، تضافر عاملي القوة والمعرفة، وهذا ما نقع عليه في فيلم كاميرون، فنحن
نرى الجندي وسلاحه، والعالم ومختبره، كلاهما في حيز واحد، فهما يعملان جنبا
إلى جنب في معرفة ودراسة هذه الرقعة الجغرافية، بكل ما تحتويه من مخلوقات،
إلى حد القيام بخلق أجساد شبيهة بأجساد سكان الكوكب للتمكن من الولوج إلى
عالمهم، إلى حد تعلم لغتهم. هذا هو تحديدا ما نعثر عليه فعليا في الخطاب
الكولونيالي القائم على اتحاد المعرفة والقوة، وهما متلازمتان في
الإستراتيجية الكولونيالية. فمعرفة الآخر دوما تهدف إلى أن تخدم القوة،
والتي ترتبط بدورها ترتبط بالرؤية الاقتصادية والنفعية والعقائدية، فنرى
العلماء يعملون، ويتعلمون لغة الآخر، ويبحثون عميقا في رؤيتهم للكون
وفلسفتهم الخاصة، كل هذا عبر رحلات يومية يقومون بها، ومن ثم تأتي القوة
العسكرية مستفيدة من جهود المعرفة، للتعاطي مع العدو الجديد، من مبدأ اعرف
عدوك، وكم يبدو هذا شبيها بجهود العلماء والمستشرقين، الذين قادوا رحلات
شبيهة لاكتشاف الآخر ودراسته لتسهيل احتلاله والسيطرة عليه لاحقا.
في قراءتنا لواقع الفيلم نرى أن بطل الفيلم المقعد يتحول إلى فرد من
القبيلة حين يتمكن من ترويض وركوب أكبر طائر جارح في تلك البقعة الجغرافية،
حيث لم يتمكن أحد من فعل ذلك إلا بطل وقائد من السكان الأصليين في الزمن
البعيد، وحين يتمكن هذا البطل الأميركي من ترويض هذا الطائر، يصبح قائدا
لهذه الشعوب والقبائل، و في هذا الإطار نرى الإصرار على وضع الأمريكي حتى
في تحوله إلى رفض السيطرة والهيمنة على الآخر وتقويض ثقافته، يتخذ دورا
مميزا، فهذا الأمريكي المرتد على فكرة استعمار الآخر، يتحول إلى المدافع عن
الشعوب الضعيفة عبر قدرته على أن يكون شجاعا و منظما، فهو يقود الحرب ضد
الغزاة عبر استدعاء باقي القبائل، وضع خطة للدفاع عن الشعوب الأصلية أو
المحليين كما يرد في الفيلم، وكأن هذه الشعوب عاجزة على أن تجد من يدافع
عنها. هذا الإصرار على خلق صورة البطل، هي حقيقة آفة السينما الأميركية،
التي تبقى دوما ضمن المنظور الكولونيالي، فهؤلاء الأصليون صوروا في بداية
الفيلم على أنهم متوحشون وبدائيون، لا يمتلكون حضارة حقيقية من منظور
الغزاة، كما ورد على لسان قائد الحملة.
لكن هذا يتم تفنيده عبر البطل المنخرط في ثقافتهم "أي الأصليين" حين
يقول صراحة أن هذه الشعوب لا تطمع في شيء من حضارتنا، فهم لا يسعون إلى
ارتداء الجينز وتناول الكوكا كولا، وهي رموز الحضارة الغربية، وبالتالي فإن
التفاوض معهم لن يحقق شيئا، ولكن هذه الرسالة التي جاءت على لسان البطل لن
تبرئ صانعي الفيلم من النظرة الفوقية، حيث يقود البدائيين أو الأصليين
للدفاع عن حضارتهم أميركي مقعد، ولعل هنا مفارقة متحققة، هي في الحقيقة
ساخرة، فالمقعد الأمريكي الذي يحل في الجسد المبتكر يخوض حرب تحرير ضد
الغزاة، مما يعتبر من وجهة نظر الغزاة على أنه خيانة، في هذا الإطار نقرأ
خطابين متناقضين، الأول يقوم على أن الآخر لديه حضارة ومن الواجب احترامها،
وعدم إفنائها، وهذا ما نراه في تردد بعض قادة الحملة في شن حرب الإبادة على
شعب "النافي"، أو محاولتهم التفاوض معهم، بينما في الجانب الآخر، نرى أن
الإصرار دوما على وضع الآخر في صورة محددة ونمطية، هي ديدن الثقافة
الغربية، فهي ربما تحترم حضارة وثقافة الآخر وربما تدافع عنها، ولكن في
النهاية، فإن الآخر لم ولن يكون يوما محورا ومركزا، فالفيلم في النهاية
يشاهد عبر بؤرة البطل المقعد، الذي يقوم بسرد الحكاية، وهو بؤرة الحدث فنحن
نطلع على ثقافة شعب "النافي" عبر عيونه ومنظوره الخاص، ونتحسس جمالية
عوالمهم ما ينقله لنا، وهو في النهاية البطل القادر على الدفاع، واجتراح
المعجزات، إنه النبي الجديد لشعوب "النافي". فكم يبدو بطل الفيلم قريب
الصلة في التكوين والرؤية بلورنس العرب الذي قاد العرب من عمق الصحراء إلى
الخلاص والحرية، والانعتاق من نير الحكم العثماني، وكم تبدو حملة "أفاتار"
شبيهة بحملة نابليون على الشرق. إنها مركزية مسيطرة على التكوين الثقافي
الغربي في قراءة الأنا والآخر، ويبدو أنها ما زالت تتناسخ وتتكاثر، ولو
سينمائيا.
ومع ذلك يبقى فيلم "أفاتار" تحولا سينمائيا عميقا، ولعله أصبح تأريخا
جديدا في سجل السينما، التي تشهد تحولا حقيقيا على صعيد الإخراج والتقديم،
والاستفادة من التقنية إلى أقصى طاقاتها على يد كاميرون الذي بات أيقونة
سينمائية مميزة، أدهشت العالم بروائعه المتخمة بالإبهار والفن.
العرب أنلاين في
19/01/2010 |