توطنة
جيمس كاميرون
اسم خلاق ومبتكر من طراز خاص، في صناعة
السينما، قدم اكثر من لوحة رائعة في تلك
الصناعة الجمالية ومنذ تحفته السينمائية (تيتانيك) والذي قدم مأساة غرق
السفينة
ذائعة الصيت تيتانيك بأسلوب جمالي بصري مدهش، اطاح بالكثير من
طروحات السينما
التقليدية ، حيث قام برسم المعالم الكاملة
للكارثة بطريقة تبدو انها ابنة اليوم.
ليعود مجددا وهو
يحمل كأس التجدد، والابداع ، والدهشة،
واضافة كاملة علاقة بتفجير مستحدثات اكثر
حداثة وتقنية وابهار في فيلمه الجديد (افاتار) المنتج عام 2009 وبمدة عرض
قاربت
الثلاث ساعات 166 دقيقة عن كوكب غريب وبعيد يدعى (باندورا) pandora
له صفات قريبة
من كوكب الارض ، حيث الكائنات الزرقاء ذات الثلاثة امتار طولا
وقريبة للبشر في
تحركاتها ونطقها وانزعاجها، وهم من فصيلة
النافي
navi
ليقوم كوكب الارض من خلال
فرقة عسكرية مدججة بالسلاح والتكنولوجيا بغزوهم ومحاولة سحقهم للاستيلاء
على كنوزهم
والقابعة تحت شجرة عملاقة تمثل وجودهم السياسي والوطني، وتجمعهم وعيشهم
فيها
وتحتها.
المكان
عمد
المخرج جيمس كامير ون، الى اختيار الامكنة
الشبيهة بفكرة الكوكب المقترح من حيث
الغرابة والتفرد وللاقتراب من المناخ العام
بروح ذلك الكوكب المدعو الباندورا ليذهب
الى جزر الهاواي حيث امكنة التصوير، ووضع بعض الاستديوهات هناك لاختصار
المسافات
اثناء التصوير، ولازالة العوائق امام كادر العمل الفني والممثلين، وقام
ايضا
بأختيار غابات نيوزلندا لكثافتها، وخصوصيتها وتمتعها بالاشجار والاغصان
والجذوع
والاوراق المتفردة وانفتاحها الواسع على مناطق جبلية مغطاة بغابات الاشجار
الوحشية.
المناخ العام
للفيلم
كتب المخرج جيمس كاميرون فكرة الفيلم، ووضع السيناريو له، وقام
بأنتاجه،
حيث بدأت فكرة كتابة الفيلم عام 1999 وتم تأجيل العمل على
مستوى السيناريو لعام
2002،
ومن ثم انجز كامل السيناريو عام 2005، لكنه اعتمد رأي احد اصدقائه المختصين
في الكمبيوتر بتأجيل فكرة البدء بالعمل
لحين انتاج اجهزة وتقنية جديدة للحاسبات
المخصصة في وضع خرائط واشكال وحيوات وابتكارات صورية اكثر قبولا لانتاج
الفكرة
العامة، خاصة وانها تحوي في مضامينهاكائنات ذات لون وشكل ونطق غريب وغير
مطروح
سابقا حتى على مستوى الحضارات السابقة.
اختيارات
صعبة
نجح كاميرون كثيرا في اختياره فريق العمل، خاصة الكادر المخصص في
ادخال
برامج تقنوية جديدة على اصل الكائنات المقترحة، وهي تتحرك
منفردة، وحين تكون بشكل
جماعي ، اذ يتطلب الامر اكثر من رؤية
لتنفيذ عمل الكادر الفني الكبير من مخرجين لهم
علاقة بتصميم رسوم الكارتون الى اختصاصيي الحيل السينمائية، الى خبراء
الكمبيوتر
المسؤولين عن استحداث خرائط وتطبيقات فنية عالية المستوى من الحركات
والايماءات
والصوت الى وضع اشكال لحيوانات اسطورية يصاحبها صوت مخيف وهي تتحرك شمالا
ويمينا
تحت اجنحتها العملاقة وهي تضرب الريح محدثة صوتا مؤثرا وكأنها تتحرك وتطير
بالفعل.وقد نجح الكادر الفني نجاحا مدهشا وهو يستنسخ الاشجار والاوراق
والجذوع
الموجودة اصلا في تلك الامكنة من جزر هاواي وغابات نيوزلندا وتنفيذها في
اصل
المشاهد والتي تحتوي على تحركات تلك الكائنات الزرقاء مع الحيوانات
الاسطورية
المرعبة في طيرانها، وفي تصادمها وفي ملاحقاتها للبطل الرئيسي في
الفيلم.
مشاهد
متكاملة
تفوق كاميرون على نفسه في اكثر المشاهد على طول زمن الفيلم، وكانت
المشاهد المقترحة لايصال مستوى الاشتغال السينمائي على مستوى الصورة وادارة
حركة
الكاميرا لتطويق حالة الخلل التي قد تنتج عن تداخل الرؤى البصرية بين
المخرج للعمل
بشكل كامل وبين الفريق الفني الذي ادخل شيفرات النماذج الكارتونية في
تحركاتها
والقريبة جدا من حركات الكائن البشري..
وكان مشهد مطاردة التنين العملاق والمرعب
للبطل، وسط الغابة واختيار زوايا التصوير وتطابقها مع الاصل، اي اصل الحركة
المشتركة بين التنين والبطل كانت اكثر من ناجحة، حيث وفق المخرج كثيرا في
اختيار
الزوايا منطلقا من وعي في تداخل الصور المرسومة وزجها في حركة تقليدية
اثناء ما يمر
على الانسان في حالة مطاردته وخوفه..وكانت الزاوية الجميلة والرائعة حيث
يسقط البطل
من اعلى الغابة الى اسفل الشلال وهو يتملص من اطباق فكي الوحش عليه وقفزته
الى
اعماق المياه، لتكون الكاميرا اسفل الشلال، وهي تظهر من اعلى الغابة حركات
الوحش
الهستيرية لعدم تمكنه من قضم البطل وتسريح الكاميرا بهدوء مع البطل وهو يهم
للخلاص
من مياه الشلال المتلاطمة.وهذا النوع من المشاهد والذي تتداخل فيه الصورة
الكارتونية مع قربها الى المشاهد التقليدية للافلام يحتاج الى مخرج متمرس
بحجم
كاميرون، لتنفيذ هكذا صورة فنية متكاملة.وكان مشهد سقوط الشجرة العملاقة
والتي تشكل
الوجود المادي والمعنوي لشعب النافي، قد اخذ الكثير من اهتمام المخرج في
ادارته
لذلك السقوط المدوي ، ومن عدة زوايا ، خاصة وان تداخل التصوير لدى القائمين
على
بناء الشجرة كهيكل يحتوي تحته وجوداً مفترضاً ، كون الشجرة هي ايضاً حالة
مفترضة من
الناحية التصويرية ، ومن هذا الافتراض ، كان الامر يحتاج الى حنكة لاظهاره
بشكل
مزدوج ، لتلافي جانب التأكيد الحقيقي للشجرة على اساس انها واقع وهمي لكن
حضورها في
مسار الفيلم كان واقعياً بهذا المشهد رائعاً ومرعباً في اختيار زوايا
التصوير لاكثر
من مكان لتمرير حالة السقوط وتأثيرها الكامل على شعب النافي الذي يدفعه امر
سقوط
الشجرة الى منطقة العدم. حفل الفيلم بالكثير من المشاهد المدروسة من ناحية
تطابق
الحركة مع المكان وفي حركة الكادر اثناء السير على اغصان الاشجار او فوق
الصخور وهو
يتسلق اوراق الاشجار الضخمة بأنسيابية قد لاتجدها حتى في افلام الكارتون
التي
انتجتها شركة والت ديزني العملاقة.وكانت الرقصة الجنائزية التي رافقت موت
العالمة
جريس بعد ان تم نقلها الى كوكب الباندورا، وقيام ملكة شعب النافي بتقديم
الادعية
والقراءات الخاصة باعادة الروح لصاحبها وهو يحتضر، قد نفذت بطريقة بصرية
جديدة،
وذلك لوجود حشد كثير اصطف بشكل متناسق وضمن طوابير متعددة داخل الكهف
الكبير للشجرة
العملاقة، ومرور الكاميرا من مكان عال فوقهم وهم يقومون بالانحناءات
والحركات التي
توحي بتطابق الحركة مع حركة الكاميرا وهي تاخذ كل زواياهم بتدرج مذهل.
الثيمة والاشتغال
الفكري
هناك مؤشرات وترميزات فكرية وسينمائية تلوح بأكثر من تأويل في
الحيثيات
والضمنيات التي جرت وفق الاحداث المطروحة وهذه العناصر كانت
تشكل وحدة موضوعية قام
كاميرون بتسويقها بشكل يبدو ان الاكاديمية
قد انتبهت لابعادها! وذلك للفكرة التي
بنى عليها موضوع الفيلم وهي الاحتلال
والغزو، حيث تبدو هذه القيمة اكثر استفزازا
للقائمين على منح الجائزة، او الاعلام الذي حاول ان يصور الفيلم بزاوية
واحدة، هي
انه فيلم رسوم متحركة وان الكائنات المقترحة انما هي من ضرب الخيال.والملفت
في
الامر هو محاولة المخرج اختيار لغة ونطق للكائنات الزرقاء، اقرب الى اللغة
بلسان
الهنود الحمر..وهذه اشارة اولى تحيل الذاكرة المجتمعة الامريكية المحلية
لتاريخ سحق
وطرد وتهجير الهنود الحمر السكان الاصليين من اراضيهم وزجهم في محميات
ومعسكرات
خاصة، وهناك اشارة اخرى مهمة وهي فكرة الاحتلالات التي قامت بها القوات
العسكرية
الامريكية اثناء حروبها من فيتنام حتى العراق وافغانستان وهذه الناحية قد
تبدو اكثر
تأويلية لكنها الاقرب، خاصة وان اغلب القوات التي قامت بغزو كوكب الباندورا
تلبس
الزي العسكري نفسه الموجود حاليا لدى القوات العسكرية الامريكية مع تشابه
قريب
للطائرات والسلاح المستخدم في الفيلم مع القوات الموجودة في العراق
وافغانستان، رغم
ان زمن الفيلم هو 150 عاما في المستقبل!
تداخل في
الطروحات..
قد تكون فكرة الفيلم، وثيمته الرئيسية اقرب الى موضوعات تناولتها
افلام سابقة، في الفكرة العامة، وقد يكون فيلم الرقص مع الذئاب احد تلك
الافلام
التي تناولت موضوعة تجفيف الوجود الهندي الاحمر من اراضيه في معارك متبادلة
استخدم
فيها الطرف الاضعف اسلحة بدائية لا قوة لها لدحر ما يملكه الطرف الاخر
المدجج
بالاسلحة الحديثة ، لكن الاخر الاضعف كان يتمتع بالحكمة والروية، عكس الاول
المتغطرس والمنفعل في طروحاته، خاصة وان الرقص مع الذئاب، كان موضوع قد
اسر الجنود
من احد المعسكرات ومن ثم بدء عملية تهجينه لينصهر مع المجتمع الجديد، ليكون
المدافع
الاول عن وجودهم وحياتهم.والواضح ان هذا التقارب بين الفكرتين الاساسيتين
اللتين
تم طرحهما في فيلم افاشار والرقص مع الذئاب قد تكونان قريبتين لبعضهما
والفرق
الوحيد هو ان الجندي الموجود في افاشار قد تم زرعه بعلم قواته العسكرية
وتحريكه من
نموذج قريب له من الناحية الفيزيولوجية، وكان ذاك هو اخوه التوأم حيث يتحرك
بأيعاز
منه وبأشراف العالمة جريس على متابعته رغم عوقه، ويكون الجندي البديل قد
انغمس في
المجتمع الجديد بعد ان ارتبط في علاقة عاطفية مصيرية مع ابنه كبير القبيلة
والذي
يقوم بأنقاذه في احد المشاهد اثناء اسره، رغم ان الجندي الذي تسلل الى كوكب
الباندورا يشبه الكائنات التي تم استنساخه منها، ليكون شبيها لها، وهو
ظهوره بلباس
الجنود الامريكيين حين كان مرتديا الفانيلا المخصصة لقوات المارينز
الامريكية!
التمثيل
المشترك
كان لحضور الفنانة المعروفة سيجورني ويفر بدور العالمة جريس والممثل
زوي
سالدانا نايتيري وسام ورثينجتون في دور جاك سالي والممثل ميشيل
روديوجوس في دور
شاركون وستيفن لانج في دور الكولونيل
لوارتش واخرين، اقل شأنا من الشخصيات المقترحة
لشعب الباندورا حيث قوة تأثيرها على المتلقي، وكأن الممثلين الاصليين هم
ادوات
ثانوية لاظهار قوة شعب النافي في نماذجه الرائعة والمندفعة والغيورة على
ارضها
وشعبها وهي تواجه قوة ضاربة تهدد وجودها، وفعلا هناك مستويات واضحة وذات
تأثير عال
لكل من يشاهد الفيلم لينسجم مع النماذج المقترحة بشكل دمى متحركة لكنها
اكثر حياة
من الكائن البشري في تعاطفها وبطشها وانفعالها وفي حالة عشقها.
تقييم عام
فيلم
مبتكر وصناعة فنية مدهشة ، فيلم يعيد
المتعة والابهار الى الواجهة الاساسية في
صناعة وانتاج الافلام السينمائية ، وهذا الابتكار والادهاش اسس له مخرج فخم
ومتمكن
مثل جيمس كاميرون صاحب رائعة تيتانيك..ان اعادة هيبة السينما عبر التراكم
المعرفي
والحرفي لايتم الا من خلال المهرة في مضمار الجماليات والعناصر البصرية من
خلال
الصناع الكبار في تاريخ انتاج الافلام الملحمية والتي تأخذ من الجانب
الابداعي في
كل مفرداته ما هو اثير وجديد ومؤثر لتضع صناعة السينما في طليعة الفنون ان
لم تكن
المختصر الكبير الذي تنضوي تحت لوائه باقي الفنون.جيمس كاميرون وفريق العمل
المرافق
له، حققوا تحفة سينمائية في ابتكاراتها ورؤاها الجمالية والفكرية والبصرية
والمحتوية على عناصر التكامل الفني والفكري، وتلك الاحالات المبهرة والتي
تدفع
بالمتلقي لاستبصار ما يمور به الفيلم وثيمته الاساسية.وستبقى صيحات وضحكات
وتأوهات
نماذج شعب النافي تتسلل الى المشاهدين في نومهم، لاستحداثها مفترقات صوتية
ولحنية
تبدو جديدة ومتفردة على مسامع المتلقي.
نهاية
مفتوحة..
بعد نهاية المواجهة المحتومة بين الجندي المتماهي مع شعب النافي
وحبيبته الكوكبية، وانتصارهم على الكولونيل والته الحربية المدمرة تبدأ
عملية اعادة
الافاقة لاخوه التوأم على يد حبيبته من شعب النافي واثناء غيبوبته تضع جهاز
الاوكسجين على وجهه لمساعدته في تنفس الهواء الطبيعي باعتباره كائناً
بشرياً حتى
عودته الى الحياة.كان هناك فاصل مهم لايخلو من لمسة للمخرج لاعطاء زخم وشحن
عاطفي
وترقب لما يؤول اليه مصير البطل، وهذه اللحظات كانت وراء فكرة تصريح المخرج
جيمس
كاميرون بالقيام بأخراج الجزء الثاني من العمل نفسه، وذلك بعد ان تقترب
الكاميرا
وبطريقة الكلوز على وجه الجندي والذي اصبح شكلا ومضمونا من شعب النافي، وهو
يفتح
عينيه الصفراوتين بأتساع على حجم الشاشة ايذانا بعودته وايضا هي نهاية
الفيلم
بالضربة الواحدة والمفاجئة، ليتحرك المتلقي في لهفة لما ستؤول اليه علاقته
بالحبيبة
المفترضة وشعبها النبيل.حاز الفيلم على ثلاث جوائز اوسكار في التأثيرات
البصرية
والاخراج الفني وافضل سيناريو، ولو كان هناك انصاف لما خرج الفيلم بأقل من
تسع
جوائز.
المدى العراقية في
24/03/2010 |