"حياة تنتهي وأخري تبدأ"..
كان
جاك سولي ينظر من علي كرسيه المتحرك متأملا وقال جملته مزدوجة المعني تلك
ليشير في
المعني الاقرب إلى إدراك مشاهد فيلم "أفاتار " إلى مصرع أخيه قتيلا وترشيحه
بدلا
منه لخوض غمار رحلة مجهولة وغامضة إلى كوكب "باندورا " أما
المعنى الذي تجلي في
نهاية الفيلم وأصبح الاقرب فكان يشير إلى
نهاية حياته كإنسان واقتراب موعد بدء
حياته الابدية متوحدا مع الطبيعة ومخلصا
شعب "النافي" من أزمته مع الكائن الاقل
رقيا الذي يدعي الانسان ومن ثم ترتب على هذا المعني نهاية حياة الانسان
كسيد للكون
وبدء عهد الأفاتار باعتباره تجسيدا للاله من حيث كونه كلا متكاملا من حيث
الرقي
والتحضر ولاخلاق والقوة واحترام الطبيعة التي هي جوهر كل شيء ولعل غرام
أفلام
هوليوود بالنهايات الحتمية للعالم لا يقتصر على المخرج والمخترع والمنتج
جيمس
كاميرون بل يتجاوزه إلى نسبة لا بأس بها من الافلام والمخرجين وهو صدى
ثقافي للفكرة
نفسها في الأديان البشرية سماوية كانت أم أرضية حيث تحمل في تعاليمها
سيناريو ما
لنهاية العالم. وفي الغالب لا يخلو السيناريو من أفكار أساسية مشتركة مثل
فساد
الأرض، وانهيارالأخلاق، والكوارث الطبيعية، وظهور المخلِّص، واندلاع الحرب
الكبرى
بين الأخيار والأشرار.
ولم تختلف الأديان التي نشأت بعيداً عن العالم
القديم، وفي معزل تام عن التأثر بالأديان السماوية فهي تحمل أفكاراً
مشابهة. وفي
ديانة (هوبي) التي يعتنقها الهنود الحمر قبل اكتشاف أمريكا تصورات لنهاية
العالم لا
تكاد تختلف عن الإسلام أوالمسيحية أوالهندوسية إلا في الأسماء فقط. الإنسان
بطبيعته
ميّال للإيمان بفكرة (الفساد التدريجي) ثم (الخلاص النهائي) وكل المؤمنين
بدين ما
يشتركون في يقينيّات متشائمة عندما يتعلق الأمر بنهاية العالم، وكلهم ينتظر
مخلصاً
ما يأتي في آخر الزمان، سواءً كان مسيحاً، أو مهدياً، أو ميتريا، أو كالكي
آفاتار،
أو ماسايا، أو باهانا، وقائمة طويلة من المخلِّصين المنتظرين.
المشكلة أن البعض
ليسوا مؤمنين بسيناريوهات النهاية فقط، بل
إنهم مهووسون بها إلى الحد الذي يسعون
معه إلى استخدام نفوذهم السياسي والفكري
والاجتماعي لخلق الظروف التي تعجّل بنهاية
العالم، حتى يشهدوه بأنفسهم، ويسهموا في صناعة الحدث. وأهم أداة من أدوات
تعجيل هذه
النهاية هي تأجيج الصراع بين الأديان، وإقناع الأتباع بحتميّته ومن بين
هؤلاء
المهووسين من امتلك القوة فعلا وشرع بالتعجيل لانهاء الحياة البشرية ولعل
تجمع
اليهود الصهاينة في أرض الميعاد واحدا من الشواهد المعروفة لنهاية العالم
ولعل
تمتعها بحماية تامة من الانظمة الغربية يشير إلى نوع الساسة الذين يسيطرون
على زمام
الأمور في العالم وهوسهم الخاص بنهاية الزمان وهي الفكرة الاولي التي تخطر
علي
البال عند مشاهة فيلم المبدع الكندي الأمريكي جيمس كاميرون والذي صنع حالة
عالمية
من الانبهار بالتقنية مخلفا وراء النقد السينمائي فكرا يستحق بناء نموذج
تفسيري
طبقا لدوائر التماس الكثيرة التي صنعها مع الفلسفة والاديان والتاريخ
والحضارة.
ويكشف النقد السينمائي الذي أخذ على عاتقه استقراء فيلم "أفاتار " عن
أزمة
عميقة في الوعي النقدي العربي فالدال
السهل يقود إلى المدلول الأسهل في عملية
شديدة السطحية تقول" طالما أنه كان معدنا غاليا جدا يصبح القصد منه هو
البترول
وطالما كان الشعب مقاوما ومنزعجا من الاحتلال يصبح العراق او افغانستان او
فلسطين
وبما ان الشعب البدائي يعيش على شجرة يصبح جيمس كاميرون متعاطفا مع البيئة
ويتلخص
موضوع الفيلم في رسالة شبه ثورية من مخرجه ضد سياسات الامبريالية الأمريكية
في نهب
ثروات شعوب العالم الثالث " بجانب – طبعا – التقنية المرعبة التي تبشر بعهد
جديد
للسينما الامريكية العظيمة
"
وقد فتح فيلم "أفاتار " شهية هذا النقد وعقد
صلحا طال انتظاره بين كاميرون وبين النقاد العرب بعد فيلمه " أكاذيب حقيقية
" والذي
صور فيه المقاومة الفلسطينية باعتبارها إرهابا حاقدا يهدف ب
إلى إبادة الشعب
الأمريكي بنسائه وأطفاله .. والحقيقة أنه
اذا كان الفيلم السابق يحمل وجهة نظر
ورسالة ضد الفلسطينيين بشكل خاص فانه من
التلفيق أن نعتبر "أفاتار" بمثابة اعلان
توبة من قبل مبدعه بصناعة فيلم يقر حق العالم الثالث في الدفاع عن وجوده
وثرواته
وحمايتها من الامبريالي الأمريكي.
حكاية
خيالية جدا..
وقصة الفيلم تدور في المستقبل، عام 2154
بالتحديد، حول شركة "إدارة تنمية الموارد" التي أقامت قاعدة عسكرية على
كوكب "باندورا"، الذي يبعد 4،3 سنة ضوئية عن الأرض، لاستخراج خامات معدن
سيحل مشكلة
الطاقة، بعد أن تم استنزاف الشركات لموارد
الطاقة الأرضية حتى النهاية.
وباندورا هو الاسم الذي يطلقه جيمس كاميرون في الفيلم على كوكب غني
جداً
بالحياة النباتية والحيوانية يعيش فيه شعب "النافي" الذي يتآلف
مع الكوكب في حالة
انسجام تام، وهو الشعب الذي يصبح مهدداً
بالدمار الجسدي والبيئي بسبب أطماع الشركات
الأرضية بثرواته واحتقارها لثقافته وهولاء النافي ليسوا بشراً مئة بالمئة،
بل عرق
أخر ذو صفات جسدية مختلفة نوعاً ما، فهم أكثر طولاً بكثير من البشر ويميل
لون
بشرتهم للأزرق ولكنه عرق عاقل ذو حس وإدراك متطور.
وكوكب باندورا لا يستطيع
البشر أن يتنفسوا فيه بشكل طبيعي، ولذلك
قامت شركة إدارة الموارد البشرية بتطوير
بعض أجساد النافي من خلال الهندسة الوراثية ليحل فيها بشرٌ محددون عن طريق
برنامج
اسمه "أفاتار"
Avatar،
وهو اسم الفيلم. وهو بالأساس مصطلح من الديانة الهندوسية
ينم عن الحلول الإلهي، حسب معتقداتهم، في
جسد إنسان أو حيوان وكان كاميرون قد
استعان بأستاذ لغويات ليطور لغة خاصة لشعب
النافي وهي في الواقع مزيج من اللغة
الأمهرية المستخدمة في الحبشة، ولغة
الماوري للسكان الأصليين في نيوزيلندا وكذلك تم
استخدام علماء نبات وأحياء، و خبراء البرمجة، لتطوير الأنظمة البيولوجية
لكوكب
باندورا وقد صدر كتاب من 224 صفحة في 24/11/ 2009 عن التاريخ الاجتماعي
والحياة
البيولوجية لكوكب باندورا الخيإلى، أي قبل إطلاق الفيلم رسمياً في
18/12/2009 في
الولايات المتحدة!
وتدير أستاذة علم النبات غريس أوغسطين (الممثلة
سغورني ويفر) برنامج أفاتار في شركة إدارة الموارد البشرية التي تسعى
لاستعمار كوكب
باندورا ولكنها تسعى للتفاهم مع النافي، حتى أنها أسست لهم مدرسة لتعليم
اللغة
الإنكليزية، كما أنها مسحورة بالبيئة الطبيعية لباندورا التي يبدو أنها
تهمها أكثر
بكثير من تعدين موارد الطاقة فيه. وهنا تنشأ أجندات مختلفة ما بين
المشاركين
ببرنامج "أفاتار"، الذين يحلون على كوكب باندورا وشعب النافي بأجساد
نافيين، وعلى
رأسهم بطل الفيلم جيك سلي (الممثل سام ويزينغتون)، وما بين
القائمين على شركة إدارة
الموارد البشرية بشقيها العسكري والاقتصادي.
صندوق
باندورا..
الرموز في الفيلم تنتمي إلى عوالم متنوعة مابين
الاغريقية من جهة والاستلهام الثقافي (فكرة المخلص ) من جهة أخري مرورا
بالترجمة
الحرفية والاصطلاحية لمعني الاسم (افاتار) وهي الكلمة ذات الأصل السنسكريتي
وتعني
حلول الاله او تجسيده في العقيدة الهندوسية.. كل هذا يسوقنا إلى بناء نموذج
تفسيري
لرسالة العمل و"صندوق باندورا "في الميثولوجيا الإغريقية، يحوي كل شرور
البشرية من
جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ورجاء كان قد أودع لدى
امرأة تدعي باندورا
وأمرت الا تفتحه غير أنها فعلت وخرجت كل
شرور البشر منه، فأسرعت باغلاقه، ولم يبق
فيه إلا قيمة واحدة لم تخرج هي الرجاء أو الامل وكان خلق بندورا المرأة جزء
من
عقوبة (زيوس) كبير الآلهة إلى ونانيين لبرومثيوس الجبار الذي سرق النار
وأعطاها
للبشر.
"وباندورا" طبقا للأسطورة الإغريقية يحمل الأمل في الخلاص من
باقي الشرور
التي تسببت فيها المرأة بعد خروجها منه
وانتشارها بين البشر بينما ظلت خطيئة
برومثيوس في سرقة النار وإعطائها للبشر بلا
علاج محتمل بل ويستطيع هؤلاء
(الامريكيين- البشر) في الفيلم تطويرها لتكون سلاحا يمنحهم
الكثير من القوة والغرور
والجبروت وبالتالي فان اختيار المخرج
الامريكي جيمس كاميرون لاسم الكوكب الذي يطمع
في نهب ثرواته الجيش الامريكي لم يقع تحت بند المصادفة أو الاختيار
العشوائي بل
يحمل معني مزدوجا للأمل في عالم مختلف يشبه "باندورا " ان لم يكن هو نفسه
كما يحمل
الامل الامريكي في معدن ثمين جدا يمنحهم المزيد من القوة وبهذا
المعني أيضا فان
"باندورا" الصندوق أو العقوبة الالهية لبرومثيوس
بعد سرقة النار هو استدراك من زيوس (كبير
الالهة) انقلب على البشرية في بدايته وبقي الامل فيه وفي التراث الاغريقي
الميثولوجي والفلسفي الذي أسس لفكرة الحكمة والبحث عن المعني وراء كل شيء و
يكاد
يجمع مؤرخو الفلسفة على أنها قد نشأت في بلاد اليونان منذ القرن السادس قبل
الميلاد
وتعتبر الفلسفة الإغريقية من أعظم ما تركه الإغريق للفكر الإنساني فقد
أعملوا
عقولهم في تحليل المشكلات الهامة في الحياة وفي التعرف على أسرار الكون
وحاولوا
الإجابة عن أسئلة صعبة مثل : ما هو الحق؟ وما هو الجمال؟ وما معنى الحياة
الفاضلة ...
إلخ، ويكفي ذكر اسم سقراط أكبر فلاسفتهم والذي أثر تاثيرا كبيرا على فلسفة
الشرق والغرب وقد توصل الإغريق إلى معرفة أن المخ هو مركز الحس والتذوق وهو
المتحكم
في الأعضاء الأخرى.
أفاتارات...
ينتظر الهندوس
طبقا لعقيدتهم "كالكي أفاتار " والذي يمكن
اعتباره بالنسبة للمسلمين خاتم الانبياء
أو المهدي المنتظر وللمسيحيين هو (المخلص) ومن الشخصيات الدينيه المهمة فى
الهندوسيه ال(أفاتارات) وهي جمع أفاتار ومعناها القادمون من السماء ويعتقد
الهندوس
أن الالهة تنزل من السماء لتجدد الدين وتأتي معها بالخير للبشروحين ينزلون
إلى
الأرض يتجسدون في صورة بشرية أو حيوانية او حتى نباتية و يقال عنهم
الافاتارات
وآلهة "فيشنو" هي من أكثر الآلهة التي حظيت بافاتارات وعددها عشرة و ويؤمن
الهندوس
بعدد كبير من الافاتارات مثل راما و كريشنا و بوذا .
ويطرح كاميرون مرة أخري
باختياره للأفاتار الذي عبر عنه بشكل يمزج
بين طول الاشجار وأذن الحيوان وهيئة
الانسان نوعا من التوحد بين الكائنات الحية
كنموذج لتجسد الاله باعتباره والطبيعة
كلا واحدا بل ويجعل من شجرة النفوس التي تحمل تاريخ وأرواح شعب النافي رمزا
للاله
الذي لا يتخذ موقفا مع احد ضد الاخر ولكنه صاحب القانون الطبيعي الذي تعيد
من خلاله
المعادلة ضبط نفسها فهو ببساطة اله يصنع التوازن للحفاظ علي الكل ويدعم
الفيلم
الفكرة ذاتها بالتواصل بين البشر والطيور الاسطورية وشجرة النفوس نفسها عبر
اتصال
مادي روحي مزدوج يصل فرد النافي خلاله أطراف شعره باطراف ما يشبه الشعر من
الطائر
أو الشجرة أو حتي ما يشبه (كابل الداتا) في الكمبيوتر وفي هذه الحالة لا
حاجة
للكلام فالبطل جاك سولي يتلقي نصيحته الاهم في كيفية السيطرة علي طائره في
اختبار
الرجولة الاخير تبعا لاعراف النافي وهو ان يختار طائره الاسطوري ويسيطر
عليه وليطير
به. أما النصيحة فهي أن يفكر فقط فيما يريد والطائر عليه التنفيذ.
والمعلومة
الفارقة والدالة هنا هي أن الطائر الاسطوري
سوف يختار صاحبه كما يختاره صاحبه وكان
الرشد وفكرة امتلاك الخيارات لا يتعلقان بالبشر وحدهما و(جاك سولي ) أو
البطل
المخلص لشعب النافي أو كالكي أفاتار حمل معه علامات كونه مخلصا منذ ولهه
الأول
بالبطلة أو ابنة زعيم النافي اذ اقتربت منه كائنات الاضواء او الارواح
النقية
وحاصرته فيما يشبه العناق ثم انسحبت بهدوء وهنا يسير كاميرون علي نهج
النبوءات
المعروف في الاديان حيث تحمل الكتب المقدسة نبوءات باشخاص ومخلصين تظهر لهم
كرامات
او علامات تدل عليهم قبل الرسالة أما جاك سولي الانسان فكان عبارة عن جندي
بحرية
مقعد (محبوس في كرسي متحرك) ومحدود الحركة تماما وهي فكرة تبرر نشاطه
المبالغ فيه
حين اكتسب الشكل الجديد والجسد الجديد ذي القدمين العاديتين ولكنها في
البنية
الاعمق لرؤية الفيلم تؤكد علي أن (الانسان – الكائن الجديد – الافاتار )روح
وعقل
أما الجسد فحالة نسبية تماما يمكن تغييرها حتي انه في نهاية الفيلم يبدأ في
هجرة
جسده العاجز إلى الجسد الجديد (التجسيد)
ان "أفاتار" في مستواه الاعمق يحمل
يقينا ميتافيزيقيا ويحلم بعالم تتوحد فيه الكائنات الحية مع الاله بشكل
ومضمون
جديدين في طفرة كونية تتجاوز المادي إلى الروحي وتعتمد الفيلسوف الهولندي
سبينوزا
ملهما لها ومنظرا وحكيما وترث الله والانسان معا بعد فناء الحدود بين
الكائنات
وتوحدها جميعا ففي نظر سبينوزا أن الله والكون، أي مجموع الأشياء كلها شيء
واحد غير
منفصل.
الجزيرة الوثائقية في
17/01/2010 |