يقال إننا لا نكتب التاريخ أبدا، وإنما نتحدث طوال الوقت عن الحاضر،
بمعنى أن استحضار وقائع وأحداث تاريخية يكون بالطريقة التي تعلق على ما
يجري فعلا أمام أعيننا، حيث الحال هو ما يعنينا في كل الأوقات. وإذا كان
التاريخ هو الزمن الذي مضى، فإن المستقبل هو الزمن الذي سوف يأتي وهو بهذا
المعنى تاريخ آخر يتحدث عما نعيشه حاليا بطريقة أخرى مستمدة من القادم بدلا
من الذي راح. وهكذا جاء فيلم «جيمس كاميرون» الأخير «أفاتار» الذي يحمل كل
ملامح المستقبل من تكنولوجيا متقدمة وقدرة على عبور الأزمان الضوئية
واكتشاف كواكب جديدة تعيش عليها مخلوقات عاقلة أخرى، ولكنها تكيفت بطريقة
أخرى مع الطبيعة، والأهم أنها باتت جزءا منها. ولكن القصة مع كل ما احتوته
من إبهار تكنولوجي أخذ ما نعرفه ونشاهده حاليا في علوم الاتصال والحركة إلى
مداه الذي يتصوره العقل الإنساني الآن؛ تبقى القصة الإنسانية التقليدية
ذاتها حول شركات تبحث عن مواد أولية لها صفات خاصة وتولد ثروات طائلة،
وعندما تجدها في كوكب بعيد تكتشف أن عليها إبادة من هم عليه وإحالة الكوكب
إلى صحراء يمكن الاستخراج منها بسهولة ويسر. وبهذا المعنى فإن لدينا تصويرا
لحالة غزو المستوطنين البيض لأميركا واستراليا وإبادة أجناس وحضارات معها،
مختلطة مع حالات استعمارية عاصرناها في أفريقيا وآسيا.
ولكن لو كان «أفاتار» مكتفيا بذلك لما حصل على التقدير الذي حصل عليه
حتى الآن، صحيح أن مخرج «تايتانك» الذي كتب الفيلم وأخرجه معا لديه قدرة
فائقة على جذب الجمهور، إلا أن هناك ما هو أكثر وله علاقة مباشرة مع
العلاقات الدولية في عالم اليوم، وربما تبحث كما بحثنا في السابق عن مخرج
من الحيرة في عالم هذه الأيام. هنا، في الفيلم وفي الواقع، يجري الصراع بين
العلاقة بين الدول أو الأمم والجماعات والحضارات من ناحية، والعلاقة مع
الكوكب الذي يعيش عليه الجميع. الصراع هو قصة التاريخ التقليدية، ومن ينظر
حوله لن يعدم كثيرا من مشاهده، وربما كان مصرع عالم الذرة الإيراني مسعود
علي محمدي داخل طهران سوف يمثل المشهد الأول في حرب جديدة؛ ولكن مبادرة
العلوم والتكنولوجيا التي بدأها أوباما في خطاب القاهرة، وانتهت إلى مشروع
يطوف به صاحب نوبل أحمد زويل على الدول العربية والإسلامية تحمل سمات
المشاركة في عالم واحد. في الفيلم، والفن دائما سباق، كان العلم والعلماء
هم الذين أنقذوا الكوكب ومعه سكانه، وبطريقة أو بأخرى أنقذوا الإنسان هو
الآخر من غلوائه وتشدده وحماقته إذا شئت؛ وهذه رسالة لا نعرف عما إذا كانت
جارية في المستقبل أم أنها حاضرة في الحاضر.
هنا لا يعدو الأمر مجرد إعادة إنتاج لقصة قديمة، ولكنها إعادة مناقشة
لقضية أزلية، وإذا كان «دان براون» قد طرح بإلحاح في «شفرة دافنشي»
و«ملائكة وشياطين» العلاقة بين العلم والدين، فإن «كاميرون» أعاد طرح
العلاقة بين العلم والطبيعة. فالنظرية الليبرالية التقليدية لم تقم على فصل
الدين عن الدولة فقط، ولكنها من ناحية أخرى اعتبرت العلم هو سبيلها للتحكم
في الطبيعة واستغلالها وإخضاعها لاحتياجات البشر. وكانت الثورات الزراعية
والصناعية والتكنولوجية المتعاقبة هي وسائل كلها لترقية أحوال الإنسان
وإطالة عمره وإعطائه الأدوات التي يستطيع بها توسيع دائرة خياله وقدراته
على التواصل والاتصال. ولكن كان لكل ذلك ثمن، وفي السبعينات اكتشف نادي
روما «حدود النمو»، ولم يمض وقت طويل حتى أصبح الاحتباس الحراري مؤكدا
ومهددا بغرق دول، وأصبح «ثقب الأوزون» من الحقائق العلمية.
كل ذلك نظر إلى «الكوكب» نظرة مادية خالصة، وبدا أن المحافظة على
الأرض من خلال مشاريع «البيئة» هي الوسيلة لمزيد من غنى الإنسان أو بعض
البشر على أقل تقدير، ولكن الحقيقة لدى «كاميرون» كانت أن الطبيعة تملك في
ذاتها قدرات خارقة على التجدد وإعادة الخلق والتواصل المستمر مع الإنسان
دونما اعتداء من أحدهما على الآخر. وأن المشكلة الأساسية لهذا الأخير هو
أنه لم يفهم الطبيعة قط، ونصب نفسه في حالة عداء معها أوصلته في النهاية
إلى هذه الحالة من قرب الفناء إذا ظل حال الكوكب على ما هو عليه من جهل
وتدمير.
وبالطبع فإن الهدف من المقال ليس الحديث عن فيلم أو فتح قضايا أزلية
ربما يمكن مناقشتها في مجال آخر، ولكن المسألة هنا هي أن العالم العربي لم
يحاول أبدا التصالح مع بيئته. وبينما كان «البدو» يجدون معنى وموردا في
«الصحراء» بحيث يجولون فيها ذهابا وإيابا، فإن عرب الحاضر وجدوا فيها مظهرا
للجدب الذي تعاكسه وتتحداه مدن حديثة. وفي أحيان أخرى كان وجود الأنهار
سببا في خلق واحات كبرى بينما بقي الفضاء الصحراوي على حاله لا يمسه بشر
ولا يأتي إليه إنسان. وبينما تماثل مساحة العالم العربي مساحة كل من
الولايات المتحدة والصين، فإنه لا يوجد وجه للمقارنة معهما من حيث المساحات
المأهولة. وببساطة حل استخراج النفط محل تنمية الصحراء التي أخذت في التوسع
باستمرار، وفي يوم من الأيام سوف ينفد النفط وتبقى الرمال.
«كاميرون» في «أفاتار» يعتبر الإنسان مسؤولا عن تصحر الأرض لأنه عمل
على تدميرها لاستخراج موارد طبيعية، وبشكل ما فشل في الحفاظ على «التوازن
الطبيعي» اللازم للحياة. وسواء كان ذلك صحيحا أو أن الصحراء انتشرت في
العالم العربي نتيجة تغييرات بيئية في أزمنة سحيقة، فإن المسألة هي أن
الدول العربية ربما جاء وقتها، ومن خلال العلم، للبحث عن الموارد التي
تقدمها الطبيعة من أول الشمس التي تسطع على بلادنا كما لا تسطع في مكان
آخر؛ والرمال الصحراوية التي هي طبقا لكل الدراسات العالمية هي الأقل تلوثا
بين كل رمال العالم، بل هي في الحقيقة أكثرها نقاء. وفي ذخيرة العلم الآن
بدايات كثيرة منها تلك المتوافرة في الطاقة الشمسية التي لا يوجد مثيل لها
في تجددها المستمر؛ أما الذي لا يقل أهمية فهي الكيفية التي يمكن بها زراعة
الصحراء من خلال زراعة ضئيلة الاستخدام للمياه، وتقوم على مواد عضوية
يخرجها الإنسان والحيوان.
وفي فيلم «جيمس كاميرون» انقسم العلماء إلى فريقين: واحد منهما خلق
أدوات مرعبة للتدمير، والآخر بحث عن كيفية التصالح مع الطبيعة والبشر الذين
آمنوا بها. وفي بلادنا العربية يوجد الكثير من مؤسسات البحث العلمي، ولا
يدري أحد ما تقوم به على وجه التحديد، وعلى أي الأحوال لا يظهر لها أثر
بالغ في المؤتمرات العالمية أو الدوريات العلمية المرموقة إلا على فترات
متباعدة. والرأي هنا أن التعاون العربي في مجالات العلوم والتكنولوجيا، في
مجالات الشمس والصحراء، واستخدامها في التعاطي مع مبادرة أوباما في العلوم
والتكنولوجيا ربما تكون هي أقرب الطرق لبناء قاعدة علمية صلبة، وفي الوقت
نفسه تحقيق التواصل العالمي الضروري في قضية حماية كوكب الأرض الذي بات
يصرخ طالبا إعادة توازن مختل لطبيعة مجروحة.
هل في ذلك قدر من المثالية التي تفترض من ناحية إمكانية للتعاون
العربي، وسعيا لحماية الكوكب، أو هو مجرد خيال جاءت به رواية أو فيلم، أو
هو تجاوز لمقتضى الحال الذي نعرفه من صراعات ومواجهات وفتاوى دينية وحملات
إعلامية ودول منهارة وأخرى فاشلة؟ والإجابة هي بالتأكيد نعم لكل ذلك، ولكن
الأمر في كل الأحوال كان دائما فكرة، وغيابها في السابق لم يجعل الحال
حسنا، بل على العكس تراكمت فيه قضايا حيوية لم يحدث أبدا حولها نقاش جاد في
المنطقة العربية. وخلال الأسبوع الماضي كانت الضجة مستحقة حول اكتمال برج
دبي الجديد الذي طال على السحاب، ولكن هل كان سيكون الأمر مختلفا لو أن ما
أنفق على البرج أنفق على التصالح مع الصحراء؟ أظن أن الحال كان سيكون كذلك،
وطرح الأسئلة هو وظيفة الفكر والفن أيضا!.
الشرق الأوسط في
20/01/2010 |