شكّل بعض النتائج
النهائية للدورة السادسة (9 ـ 16 كانون الأول 2009) لـ«مهرجان دبي
السينمائي
الدولي» صدمة سلبية للمهتمّين بصناعة السينما العربية. أحدث
مفاجأة سيئة للمعنيين
بالبحث الدائم عن مقوّمات تجديد هذه الصناعة وتطوير لغتها وآفاق اشتغالاتها
الإبداعية. كشف مأزق التحكيم في نظرته إلى النتاج السينمائي العربي، وفي
تغليبه
الموضوع على الشكل البصري. أساء إلى إدارة المهرجان نفسها،
التي تعاني أزمتين مالية
ومعنوية، جرّاء تنامي التحدّيات المتفرّقة أمامها، وأمام المهرجان الذي
حوّل هذه
البقعة الجغرافية إلى مساحة للتواصل الثقافي والفكري والجمالي على مدى
أعوامه
السابقة، قبل أن يصطدم بقسوة الأزمة المالية، وبما يشبه حصاراً
بدأ يصنعه «مهرجان
الشرق الأوسط السينمائي الدولي في أبو ظبي» حوله. مهرجان دبي محتاج، بشدّة،
إلى
آليات تجديدية لمواجهة المنافسة الملتبسة الأشكال والأنماط السلوكية،
الناشئة من
إدارة بيتر سكارليت لمهرجان أبو ظبي؛ وللتغلّب على التدهور
المالي؛ وللحصول على نسق
آخر للبنية الأساسية لمهرجان، يُراد له أن يحتلّ مكانة مرموقة في خارطة
المهرجانات
السينمائية العربية والغربية معاً. وهو مؤهّل لخوض معركة كهذه، وللفوز بها
أيضاً،
لأن هيكليته الإدارية تضمّ عدداً من العاملين الجديين في المجالات
السينمائية
المختلفة، من بينهم المدير الفني مسعود أمر الله آل علي، الذي
أثبت جدارة مهنية
لقيادة المهرجان إلى مرتبة رفيعة المستوى، قبل أن يخوض مهرجان أبو ظبي
منافسة شرسة
وملتبسة ضده.
فوضى
في السادس عشر من كانون الأول الجاري، أقيمت حفلة
الختام. لكن الفوضى وسوء التنظيم اللذين سيطرا عليها، كانا أشبه بتوطئة
لفوضى
التحكيم ولسوء اختيار معظم الأفلام العربية الفائزة، أقلّه من وجهة نظر
نقدية
تتمسّك بالمعادلة السينمائية «التقليدية» (أي الشكل والمضمون
معاً) التي تصنع
الإبداع. أتجاوز مسألة اختيار أعضاء لجان التحكيم، مع أن الأفعال
السينمائية لبعضهم
لا تمتلك كلّها مستويات إبداعية سليمة، ما يؤثّر سلباً على مشاهدة الأفلام
المُشاركة في المسابقات الرسمية، وعلى توجّهات لجان التحكيم.
لكن الخطأ الأول الذي
ارتكبته اللجان التحكيمية العربية الثلاثة، الخاصّة بمسابقات المهر العربي
للأفلام
الروائية الطويلة والوثائقية والقصيرة، كامنٌ في التغاضي شبه المطلق عن
الأطر
البصرية لمصلحة المضمون. المضمون وحده لا يصنع فيلماً، مهما
كان إنسانياً وصادقاً
ومؤثّراً. والشكل وحده لا يصنع فيلماً، مهما تألّق الإبداع التقني في
اختراع
المشاهد والتقاط الصوَر. المعادلة واضحة: الصنيع السينمائي محتاجٌ إلى
ثنائية الشكل
والمضمون لاكتماله، وإلى إضافات تمنحه مزيداً من الجماليات
الفنية، كآلية المعالجة
الدرامية مثلاً. الخطأ الثاني الذي ارتكبته اللجان نفسها كامنٌ في التسطيح
المعتمد
في منح بعض الأفلام جوائز لا تستحقها، لأنها لا تمتّ بأدنى صلة إلى الفن
السابع.
هذا يطرح سؤال المُشاهدة الخاصّة بأعضاء لجان التحكيم: أليسوا جميعهم
معنيين
بالنتاج السينمائي، ابتكاراً وإنتاجاً وتوزيعاً ونشاطاً وتنظيم مهرجانات
شتّى؟
ردود
لكن أسئلة أخرى توجّه إلى لجنة التحكيم الخاصّة بالأفلام الروائية
الطويلة (أحمد راشدي رئيساً، وخالد الصاوي ومصطفى المسناوي
وتيم سميث وإدوارد
وينتروب أعضاء): كيف يُعقل اختيار «زنديق» للفلسطيني ميشال خليفي كـ «أفضل
فيلم
عربي»، ومنح مخرجه خمسين ألف دولار أميركي، مع أن مسابقة «المهر العربي
للأفلام
الطويلة» ضمّت أفلاماً أفضل وأجمل وأهمّ؟ هل يُمكن القول إن
منح «زنديق» خليفي
الجائزة الأولى جاء بسبب مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدّة ومهرجان
دبي في
إنتاجه، أم إنه أشبه بردّ ما على منح «مهرجان الشرق الأوسط السينمائي
الدولي في أبو
ظبي» الفيلم البديع «الزمن الباقي» للفلسطيني إيليا سليمان، في دورته
الثالثة (8 ـ 17
تشرين الأول الفائت) الجائزة الأولى؟ هل
ترتبط المسألة كلّها بعجز إدارة مهرجان
دبي عن الحصول على الأفضل في النتاج السينمائي الفلسطيني، إن
وجد ما هو أفضل من «الزمن
الباقي»، في المرحلة الراهنة على الأقلّ؟ لماذا غُيّبت جوائز أساسية عن
أفلام أهمّ جمالياً وأفضل سينمائياً، كـ «الرجل الذي باع العالم» للأخوين
المغربيين
عماد وسويل نوري (فاز سعيد باي بجائزة أفضل ممثل عن دوره فيه، وقيمتها
المالية
ثمانية آلاف دولار أميركي) و«حرّاقة» للجزائري الفرنسي مرزاق
علواش (جائزة لجنة
التحكيم الخاصّة، وقيمتها المالية أربعين ألف دولار أميركي)، و«وداعاً غاري»
للجزائري الأصل نسيم عمواش (فاز الثلاثي
جبران بجائزة أفضل موسيقى عن عملهم فيه،
وهم ثلاثة إخوة موسيقيين فلسطينيين، وقيمتها المالية ثمانية
آلاف دولار أميركي)
و«كل يوم عيد» للّبنانية ديما الحرّ (المحتاج إلى نقاش نقدي جدّي، لما فيه
من
جماليات متفرّقة والتباسات درامية)، علماً بأن الممثلة هيام عبّاس
(الفلسطينية
أيضاً) قدّمت فيه، كعادتها في أعمال سابقة عدّة، أداءً أفضل وأجمل من
الممثلة
الفلسطينية (أيضاً وأيضاً) نسرين فاعور، الفائزة بجائزة أفضل
ممثلة (ثمانية آلاف
دولار أميركي) عن دورها في «أمريكا»، الروائي الطويل الأول لشيرين دعيبس؟
و«أمريكا»
نفسه يبقى، على الرغم من وقوعه أسير
ارتباكات الصنيع الأول، متماسكاً أكثر من
«زنديق»،
المرتكز على نصّ باهت وسيناريو مرتبك وأداء تمثيلي سيئ (محمد بكري) وخطاب
سياسي/ أخلاقي مثير لنقاش نقدي لاحق. هناك أيضاً «واحد ـ صفر» للمصرية
كاملة أبو
ذكري، الذي يُعتبر خطوة تجديدية مهمّة في مسارها الإخراجي،
والذي ينتمي إلى نتاج
شبابي مصري ساع، بجدّية واضحة، إلى إيجاد لغة سينمائية مختلفة عن السائد،
ومتوغّلة
في الذات والبيئة والتفاصيل التقنية والفنية الجميلة. لا أتغاضى عنه
كلّياً، فهو
نال جائزتي أفضل سيناريو (مريم نعوم) وتصوير (نانسي عبد الفتاح) بجدارة
(القيمة
المالية لكل واحدة منهما تبلغ ثمانية آلاف دولار أميركي). لكنه
ينتمي، بالتأكيد،
إلى لائحة الأفلام الأهمّ بكثير من «زنديق» خليفي. كما أني لا أتغاضى عن
«عصافير
النيل» للمصري مجدي أحمد علي (فاز أحمد داوود بجائزة أفضل مونتاج عن عمله
فيه،
وقيمتها المالية ثمانية آلاف دولار أميركي)، المقتبس عن رواية
إبراهيم أصلان
الحاملة العنوان نفسه. فمع أن جديد أحمد علي لا يمتّ بصلة إلى روائعه
السابقة،
خصوصاً «يا دنيا يا غرامي» (1995) و«البطل» (1997) مثلاً، إلاّ أن «عصافير
النيل»
امتلك حساسية إبداعية جميلة لا يُعثَر على شبيه لها في «زنديق» خليفي.
وثائقيات
لن أناقش النتائج المتعلّقة بالأفلام الوثائقية. هناك مشكلة حقيقية كامنةٌ
في
أن الغالبية الساحقة من تلك الأفلام (أربعة عشر عملاً أُنتجت
حديثاً) محتاجة إلى
إعادة نظر سينمائية في أشكالها وآليات اشتغال مخرجيها وأساليب إنتاجها.
فالغلبة
واضحة للتحقيق التلفزيوني، مع أن السمة الإيجابية (الوحيدة) البارزة كشفت،
في الشكل
أيضاً، عن تنامي ظاهرة استخدام «الذات» الخاصّة بالمخرج، المنفتحة على
التجارب
الفردية لأقاربه أيضاً، والمتحوّلة إلى مادة درامية أساسية
للبحث في شؤون الفرد
وحكاياته وآلامه وهواجسه، التي تتقاطع وموقع الجماعة وعوالمها المختلفة.
ربما لهذا
السبب، فضّلت لجنة التحكيم (عمر أميرالاي رئيساً، وعمر القطان وآلان فراني
عضوان)
منح «12 لبناني غاضب، الوثائقي» للّبنانية
زينة دكّاش الجائزة الأولى (40 ألف دولار
أميركي)، لأن الأشكال السينمائية شبه غائبة عن معظم الأفلام.
لكن هذا لا يشفع لـ «الفيلم»
اللبناني، ولا يتيح له قراءة نقدية سينمائية إيجابية، لأنه منتم إلى
الريبورتاج التلفزيوني البحت، المشغول بحرفية جيّدة، أو بالأحرى منتم إلى
ما يُسمى
بالإنكليزية «مايكنغ أوف»
(Making Of)، أي تصوير فيلم عن مسار تصوير فيلم، لا أكثر
ولا أقلّ (هنا، في هذه الحالة، تمّ تصوير فيلم عن مسار تحقيق مشروع مسرحي
داخل سجن
رومية، في إطار برنامج «المعالجة بالدراما»).
من بين الأفلام الوثائقية تلك،
هناك جديد المخرج الفلسطيني نصري حجّاج «كما قال الشاعر». طريقة مختلفة عن
السائد
الوثائقي المُشارك في المسابقة، لاختياره شعراء وأدباء أجانب وعرباً يُلقون
قصائد
مستلّة من دواوين الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. طريقة
موفّقة لإعادة رسم
مسار حياتي ومهني وثقافي عاشه درويش، بعيداً عن التقليد في سرد السيرة
الذاتية، أو
اللقاءات المتضمّنة مديحاً وحكايات عابرة. ودرويش نفسه مادة لفيلم «9 آب»
للّبناني
طلال خوري (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة بـ«مسابقة المهر العربي للأفلام
القصيرة»،
وقيمتها المالية عشرين ألف دولار أميركي)، الذي حوّل قصيدة
«واجب شخصي» إلى رحلة
بصرية في الذات وهواجسها.
السفير اللبنانية
في
24/12/2009
كلاكيت
«آخر
صورة»
نديم
جرجوره
اللحظة مؤثّرة. هناك
زوجة فُقِدَ بعلها منذ سبعة وعشرين عاماً، تكتب رسالة حب إلى أمّ فَقَدت
ولديها
الشابين قبل أربعة وعشرين عاماً. هناك امرأة تخاطب امرأة. هناك
إنسانٌ ناضل طويلاً
من أجل حقّ طبيعي في المعرفة لبلوغ شكل ما من المصالحة مع الذات على
الأقلّ، يودّع
إنساناً اختبر أقسى أنماط العيش في الحدّ الفاصل والواهي بين الحلم القاسي
واليقظة
الملتبسة. المرأة الأولى أمّ هي أيضاً. والمرأة الثانية زوجةٌ غادرها رفيق
عمرها
إثر مرض، قبل أن يشتعل المنزل بالفراغ المضني. المرأة الأولى
مستندة إلى نَفَس آخر
في محيطها. المرأة الثانية عانت وحدة وألماً لا يُحتملان.
كانت الحرب الأهلية
اللبنانية مندلعة. النار تلتهم الأشياء والناس. والخطف وسيلة ضغط ومناورة.
ضاع
كثيرون. ابتلعتهم الحرب اللعينة. أخذهم الغياب إلى المجهول.
الغياب المثقل بيقين
تائه. هذا أقسى من الموت. أنت لا تعرف مصير الغائب عنك. تشمّ رائحته. تراه
بعيني
روحك وقلبك. تلتقط نَفَسه. لكنك عاجزٌ عن الإمساك به. عن ضمّه إلى صدرك. عن
منحه
أجمل قبلة ممكنة. عن الاختلاف معه حتّى الغضب، فأنت مدرك أن صفاء يحكم
بينكما. هذا
أقسى من الموت. كانت الحرب الأهلية اللبنانية مندلعة. أمراؤها منتشون بالدم
والعنف
والحرائق. متربّعون، الآن، على عرش سلم أهلي منقوص وهشّ، ومنتشون، مرّة
جديدة،
بالدم والعنف والحريق. لا يريدون قولاً فصلاً في مسائل معلّقة.
يُخفون الحقائق،
لأنهم خائفون مما فعلته أيديهم.
قبل يومين، قدّمت وداد حلواني «آخر صورة: هيي
وقاطعة..» تحية إلى أوديت سالم. انفتح الجرح للمرّة المليون. أطلّ الجرح
للمرّة
المليون، لأنه لم يلتئم يوماً. بشاعة الحرب لا توصف. لكن السلم الكاذب
والبشع
مذلاًّ لمن رفض الحرب وسعى إلى سلام حقيقي. حلواني عانت
الأمرّين جرّاء فقدانها
زوجاً غاب في لجّة الجحيم اللبناني. سالم سقطت في دائرة العتمة، عندما خرج
ولديها
الشابين الصغيرين من المنزل ولم يعودا. التقت المرأتان. عاشتا معاً أياماً
مليئة
بالتوتر والدمع والألم والخوف. عرفتا معاً أن الكفاح قدرٌ. ان
مواجهة آلات القتل
مصيرٌ. ان الصمت قاتلٌ. ان التقوقع في زواريب الطوائف ومتاهات المذاهب
لعنةٌ.
أرادتا معرفة المآل الذي بلغه المفقودون.
كبر عدد المخطوفين. سبعة عشر ألف مخطوف
ومفقود ابتلعتهم أرض مجنونة اغتصبها رجال مجانين. والتحية، إذ
نبعت من قلب رقيق
مُصقل بالاختبارات الحادّة والتحدّيات الصارمة، موجّهة إلى امرأة عاندت
كثيراً، قبل
أن تدهسها سيارة مجنونة كالأرض، يقودها مجنون كالرجال الذين اغتصبوا الأرض
بأقدامهم
السوداء وما شبعوا. والتحية، إذ تفرد مكاناً شفّافاً لصُوَر
وحكايات ومحطّات، جعلت
الكلمة ينبوعاً من العاطفة المحصّنة بالعقل والجمال الإنساني، وإن طلع من
ذكريات
بشعة، وذاكرة مخضّبة بالقهر والوجع.
كانت اللحظة مؤثّرة. الذاكرة حيّة. الراهن
مؤلم. الأفق أسود. المقبل من الأيام قذرٌ. فهل المعاندة قدرٌ؟
السفير اللبنانية
في
24/12/2009
كتاب
مارك ساليسبيري: «حوارات
مع تيم بورتون»
لعلّها من المرّات
النادرة التي يفتح فيها المخرج الأميركي تيم بورتون قلبه وذاته وروحه
علناً. ففي
اللقاءات الطويلة التي أجراها مارك ساليسبوري معه، صدرت
مؤخّراً في كتاب باللغة
الفرنسية عن منشورات «سوناتين» (مع مقدمة لبورتون نفسه، بالإضافة إلى
رسومات وضعها
خصيصاً بالكتاب)، باح مخرج «إدوارد ذو الأصابع الحديدية» و«سويني تود»
و«سمكة
كبيرة» بمكنونات
النفس والعقل والخفايا المبطّنة في طيات عمليات التصوير
والحياة
اليومية. ذلك أن علاقته المميّزة بساليسبوري أتاحت للقارئ المهتم بالدخول
إلى
حميمية المبدهع السينمائي، وباكتشاف «حديقته الخلفية» المسكونة بالأحلام
والكوابيس
معاً.
بجدّية نادرة، عاد تيم بورتون إلى طفولته وبداياته الأولى مع «ديزني»،
ورسم صورة وافية للأفلام التي صنعها، ولتلك التي «لم يصنعها»
أيضاً. وروى تفاصيل
مشوّقة عن علاقاته الصعبة بالاستوديوهات. وسرد تأثراته وتأثيراته وعمله
كرسّام،
ورفع القناع عن هواجسه وكتاباته، وعن «المناطق المظلمة» في سيرته ونتاجه
ويومياته.
لم يكتف تيم بورتون بسرد الحكايات والإجابة عن الأسئلة وكتابة مقدّمة هذا
الكتاب، لأنه وضع بعض أجمل رسوماته فيه أيضاً.
السفير اللبنانية
في
24/12/2009 |