بتوزيع جوائزه الخمس في الحفل الختامي في آخر الأسبوع الفائت يكون
مهرجان مراكش
السينمائي الدولي، قد حقق رهانه... وهو رهان بسيط على أي حال: تقديم مناسبة
سينمائية دولية الاتجاه، عربية الروح، تقوم أساساً على عرض أفلام مميزة
وقوية،
بعضها سبق عرضه في مناسبات قليلة، وبعضه لم يعرض من قبل. وهذا
البعض الأخير، وكما
هي الحال دائماً، من المفترض أن يكون في قلب اللعبة السينمائية، إدهاشاً
وتجديداً،
خلال الشهور المقبلة.
مهرجان مراكش لا يوزع سوى خمس جوائز. بل هي في الحقيقة أربع، أضيفت
إليها واحدة
استثنائية، إذ رأت لجنة التحكيم أن فيلمين، لا فيلماً واحداً، يستحقان
جائزتها
الخاصة. وهذا التقشف غير المعهود في المهرجانات السينمائية الكبرى، يؤدي
عادة الى
ظلم يلحق بمهن سينمائية (ليس ثمة جائزة للإخراج ولا واحدة
للسيناريو على سبيل
المثال)، كما يؤدي الى ظلم لأفلام كثيرة. والحقيقة أن من تابع معظم الأفلام
الخمسة
عشر التي عرضت ضمن إطار المسابقة الرسمية، أحس بهذا الظلم. فما شاهده كان
شرائط
قوية، مدهشة آتية من بلدان يغيب معظمها عن أضواء الاحتفالات
والعروض السينمائية
الصاخبة. أفلام تقول الحال الراهنة للإنسان. للمجتمع، لنظرة الفنان الى ما
يدور من
حوله. ولكن دائماً في لغات أخاذة، في ابتكارات سينمائية. من هنا يشعر المرء
في
الوقت نفسه بكمّ الحيرة والأسى الذي اعترى عباس كياروستامي
ورفاقه في لجنة التحكيم،
حين وجدوا أمامهم أفلاماً يتعين عليهم حرمان ما لا يقل عن عشرة منها من أي
جائزة.
ومع هذا، في عودة الى استعراض الأفلام
الفائزة، يتبين للمرء أن الاختيارات، حتى وإن
كانت شخصية، تمثل إجماع آراء لجنة التحكيم، بدت صائبة. لذا لم
يكن من المستغرب أن
يكون التصفيق قوياً ومرحباً، لدى الإعلان عن كل فوز.
ونقول هذا ونحن نعرف أن
الجمهور في اختتام مهرجان مراكش، جمهور من محبي السينما وأهلها. وهذه
الملاحظة
تقودنا طبعاً الى الحديث عن الجمهور الذي تابع عروض المهرجان المراكشي في
شكل عام.
فهو جمهور متابع، ومتابع بقوة الى درجة أنه كان من الصعب لمن يصل متأخراً
بعض الشيء
في أي عرض من العروض أن يجد مكاناً يجلس فيه، سواء كانت عروض افلام قديمة
(ضمن
التكريمات والاستعادات) أو عروض أفلام المسابقة الجديدة، أو
عروض برنامج «نبضة
قلب»، الذي احتوى على الأفلام ما تفوق بعض الشيء حتى على أفلام المسابقة.
طبعاً هذا
الجمهور أسف لقلة الأفلام العربية في شكل عام (بما فيها الأفلام المغربية)،
وامتعض
في النهاية لعدم فوز «هليوبوليس» للمصري أحمد عبدالله، بأي جائزة، ولغياب
فيلم
الأخوين حكيم «الرجل الذي باع العالم». ومن هنا، مثلاً، حين
أعلن فوز فيلم المخرج
المغربي الأصل نبيل بن يدير «البارونات» (وهو فيلم بلجيكي) بإحدى جائزتي
لجنة
التحكيم، صفق كثيراً. لكنه - طبعاً - صفق أكثر لفوز فيلم المكسيكي ريغوبرتو
بيرزكانو «الشمال الناقص» بجائزة النجم الذهبي. فهو يكاد يكون
فيلماً مغربياً
بموضوعه (هجرة الكادحين الى الشمال المحظور عليهم). والحقيقة ان فوز هذا
الفيلم
بالجائزة الكبرى لم يكن مفاجئاً لأحد، ذلك أنه جمع العنصرين اللذين
يتطلبهما جمهور
من نوعية الجمهور المراكشي، الذي يحب السينما القوية العاطفية
والجميلة، من ناحية،
ويريد لها - من ناحية أخرى - أن تكون سينما ذات رسالة.
جوائز لأفلام أولى
الى «البارونات» و «الشمال الناقص»، كان الفوز أيضاً من نصيب فيلم
«ابنتي»
للماليزية شارلوت ليم لاي كوين، بجائزة لجنة التحكيم أيضاً. ولقد كانت
شارلوت، في
الحقيقة، أول المفاجئين بالفوز، ومن هنا لم تجد أمامها إلا أن
تغدق حبها وشكرها على
المخرج جيم جارموش الذي تولى تسليمها الجائزة قائلة له: «إنني مغرمة بك الى
حد
كبير». و «ابنتي» يتحدث عن العلاقة الصعبة بين أم وإبنتها المراهقة وسط
عالم لا
يرحم، عالم يمر به الرفاه الاقتصادي والهدوء الاجتماعي من دون
أن يراه.
ويبقى من الجوائز اثنتان: أفضل ممثل وأفضل ممثلة. وهنا أيضاً لم يفاجأ
أحد، بل
بدت الأمور وكأنها تسير في سياق طبيعي متوقع. فمنذ شاهد الجمهور فيلم «لا
شيء
شخصياً»، شعر أن أداء ممثلته الرئيسة (والوحيدة تقريباً في الفيلم الى جانب
البطل
الآخر، الذي تقيم معه علاقة مدهشة في جزيرة بعيدة من العالم في
الشرق الإرلندي)
أداء استثنائي. فهي (وتدعى لوتي فيربك) حملت الفيلم كله (وهو فيلم هولندي -
إرلندي
حققته مخرجة من أصل بولندي هي أورسولا انطونياك، كفيلم أول لها) من أول
لقطة فيه
الى آخر لقطة، وحيدة مشردة من الشمال الأوروبي الى البحر
الإرلندي باحثة عن لا شيء
حتى تلتقي بالعجوز في بيته المعزول فتقوم بينهما علاقة شديدة الغرابة. منذ
شوهدت
لوتي وهي تنطلق منذ اللقطات الأولى للفيلم، حسم الأمر كما يبدو. وكذلك كانت
الحال
بالنسبة الى صاحب الدور الرئيس في الفيلم الدنماركي «حب وغضب» لمورتن جيسي،
الذي
يقدم هو أيضاً هنا، فيلمه الأول. وهو فيلم قوي ومتماسك عن عازف
بيانو، توقعه حاله
العائلية في تقلبات تقوده الى العنف المطلق، من دون أن نعرف تماماً - في
النهاية -
ما إذا كان سبب عنفه وحاله، تصوراته
انطلاقاً من ذكريات اخفاق أبيه في الحياة الى
حد الانتحار، أو أن ما يعيشه بين أم ماجنة وحبيبة ملائكية،
أول الأمر، ملتبسة المشاعر بعد ذلك. حقيقي ان هذا الدور أتاح للممثل الشاب
سيرون
ملفيل، جائزة أفضل ممثل، أسوة بلوتي فيريك في «لا شيء شخصياً». وكان هذا كل
شيء في
هذا التوزيع المتقشف لجوائز بدت، في شكل عام مستحقة، حتى ولو
أسف كثر من محبي
السينما الكبيرة لغياب الجوائز عن فيلمين على الأقل مما عرض في المهرجان،
وهما
الروسي الرائع «غرفة ونصف» عن رحلة متخيلة للشاعر صاحب جائزة نوبل «جوزف
برودسكي»،
في عودة الى وطنه الذي كان نفي منه عام 1972، والأميركي «راقص
ماو الأخير» عن حكاية
حقيقية عن الراقص الصيني لي كونكسين، الذي انشق هو الآخر عن النظام الصيني،
كما فعل
برودسكي. والحقيقة ان هذين الفيلمين الكبيرين لم يكونا في المسابقة.
وسنعود، طبعاً
الى الحديث عنهما في كتابات لاحقة...
الحياة اللندنية
في
18/12/2009 |