تتميز السينما الايرانية، منذ ظهور أول فيلم ناطق فيها عام 1932 بالمقارنة
مع سينما دول منطقة الشرق الأوسط بأن خطها البياني لم يشهد تراجعا أو
انتكاسات كبرى رغم الظروف السياسية المتقلبة التي مرت بها خاصة منذ قيام
الثورة الاسلامية فيها سنة ،1979 وظلت هذه السينما تقدم مخرجين متميزين
طيلة تاريخها، ومن هنا يمكن الحديث ليس فقط عن سينما إيرانية، بل عن مدرسة
سينمائية حقيقية أثرت بشكل كبير على أسلوب الإخراج السينمائي العميق
والمليء بالرموز. ولا يخلو مهرجان في العالم او في الشرق الوسط من عمل
إيراني، فالمهرجانات الغربية تحتفي بالأفلام الايرانية عندما تفكر بعرض
أفلام من الشرق الأوسط، وبطبيعة الحال لا يمكن لمهرجانات تجري في المنطقة
دون ان يكون هناك حضور لها. وفي هذه الدورة من مهرجان الشرق الأوسط سيعرض
فيلمان إيرانيان، الأول بعنوان “عن ايلي” للمخرج أصغر فرهادي، والثاني
بعنوان “لا أحد يعرف عن القطط الفارسية” للمخرج الكردي الايراني بهمن
غوبادي.
لعل انتشار الفنون الايرانية بما فيها السينما أكبر تعبير عن ان استمرار
المدرسة الايرانية في الإخراج والتصوير وطبيعة المعالجة السينمائية لا تمت
بصلة للوضع السياسي، بل تعتبر أحد أشكال التعبير السياسي والاجتماعي، فهي
سينما ناجحة في الخارج، وتعاني في الداخل. هذه المعادلة لا يمكن لأي مراقب
موضوعي القفز فوقها إذا ما ألقينا نظرة على بعض الأسماء السينمائية اللامعة
التي تنتمي الى السينما الإيرانية، مثل الممثلة الايرانية كلشيفته فرهادي
التي شاركت ليوناردو دي كابريو بطولة فيلم “متن من الأكاذيب” الذي عرض
العام الماضي في ختام المهرجان، بسبب مشاركتها في الفيلم. وتعرض المخرج
جومرد بور أحمد لمضايقات العام الماضي، وكذلك المخرج بهمن غوبادي الذي
يواجه صعوبات لتصوير أفلامه في إيران، والقائمة تطول ولا تنتهي ولا تستثني
أيضاً المخرج الشهير محسن مخملباف وابنته سميرة.
استفادت السينما الايرانية منذ بداياتها من الملاحم الأدبية والشعرية
الكبرى التي يزخر بها تاريخ بلاد فارس، مثل رائعة الشاعر الكبير نظامي
“فرهاد وشيرين” والتي تحولت لفيلم لأول مرة عام ،1934 وعام 1937 ظهر فيلم
“مجنون ليلى”، وباعتبار ان هذه الروايات معروفة على نطاق واسع ليس فقط
للايرانيين بل لعموم شعوب المنطقة، فإن التراث كان الرافعة الأولى للسينما
الايرانية. أما موجة السينما الجديدة والمستمرة حتى اليوم فتعود أسسها إلى
الشاعرة فوروغ فاروخزاد التي أخرجت فيلم “منزل مظلم” عام ،1962 ثم فيلم
“ليل الأحدب” لفاروق غفاري، و”البقرة” عام 1969 لداريوس مهراجوي الذي انتزع
مضمونها من روح الصوفية بتحويل رجل إلى بقرة ميتة.
ومهما بدت موضوعات الأفلام الإيرانية غارقة في معالجة تفاصيل الحياة
اليومية، فإن إيران “الدولة” تشكل الخلفية الحية التي يرسم عليها المخرج
لوحته السينمائية. فقط في الأفلام الايرانية يمكن ان يكون لتعطل الشارة
المرورية في أحد المشاهد التي تصور نقل مريض إلى المستشفى معنى سياسي يلخص
ضرورة الاعتدال في التغيير لأن المريض يمكن ان يموت في الفوضى. بالتوازي مع
ذلك، فإن تنوع الثقافات في إيران يجعلها منطقة دسمة بالقصص الصالحة لتتحول
لأفلام، حيث ينشط المخرجون الأكراد الايرانيون ضمن نفس الخط السينمائي
وطريقة المعالجة الهادئة والرمزية وعلى رأسهم بهمن غوبادي الذي عالج قضية
الشتات الكردي من خلال عمليات التهريب بين الحدود العراقية الايرانية في
فيلم “زمن الخيول المنتشية”. ولعل أهم ما يميز مضمون هذا النوع من الأفلام
عن الأفلام العربية، أنها لا تهتم بإدخال البهجة والأمل إلى قلب المشاهد،
بل تحفزه لطرح أسئلة على نفسه، فلا تقوم بدور المرشد والأب والبطل الذي
يلخص الكثير من مضامين السينما العربية، وحقائق هذه الأفلام قاسية لدرجة أن
تتحطم جرعة الأنسولين الأخير لامرأة مريضة تحت عجلة كرسي فتاة معاقة، فهذه
المضامين تقول للمشاهد: عليك أن تحزن وتفكر معي في كيفية إنهاء التعاسة في
حياتنا، لكنها رغم ذلك لا تصل بل لا تقترب من تكتيك إحداث الصدمة العنيفة
كما في السينما السريالية، فهي غير مريحة للمشاهد لكنها ممتعة في تفجير
طاقة التساؤل لديه.
ويعتبر محسن مخملباف اهم رواد السينما الايرانية، ومن اهم أفلامه
“المقاطعة” ،1985 ويروي فيه تجربته الشخصية عندما ضرب شرطيا وحكم عليه
بالسجن خمس سنوات، وفي 1998 أخرج “زمن الحب” حول قضية المرأة الايرانية
وصوره في تركيا بعد منعه في ايران، ورغم وقوفه مع ثورة الخميني في نهاية
السبعينات من القرن الماضي ضد الشاه لم يجد حرجا في التعبير عن حنينه لتلك
الفترة التي وقف ضدها، والمعروفة في الأوساط السينمائية بإيران غوغوش نسبة
إلى الممثلة والراقصة الايرانية التي ذاع صيتها في إيران أكثر من مارلين
مونرو في أمريكا.
خرج من عباءة هذه السينما مخرجات كثيرات، لعل أشهرهن ابنته سميرة مخملباف
(مواليد 1980) التي قدمت فيلم “التفاحة” 1998 لتكون أول مخرجة في تاريخ
مهرجان “كان” تنافس في هذا العمر على السعفة الذهبية، وعالجت في الفيلم
قضية مراهقتين سجنتا في بيتهما من قبل أبيهما لإحدى عشرة سنة منذ ولادتهما،
لكونه يعتبرهما كالزهور تذبل ما أن تصيبها الشمس. لم تجز الرقابة الإيرانية
هذا الفيلم، لكن سميرة أطلقته على الفيديو، إلى أن خلط أوراق لجنة التحكيم
في “كان” ومنحته بالإجماع جائزتها.
بعد هذا النجاح الذي حققته، قدمت فيلم السبورة 2001 عارضة فيه مغامرات
معلمين كل يحمل سبورته ويتجول في الطرق الملتوية والترابية على الحدود
العراقية - الإيرانية ليعلم اللاجئين. ولسميرة مخملباف أيضا “حصان بساقين”
حصلت فيه على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان “كان” “في الخامسة عصرا” 2003
ونافس على السعفة الذهبية في المهرجان نفسه. وقدمت روهشان بني اعتماد
فيلمها الوثائقي الأول “ثقافة الاستهلاك” عام ،1984 وحين فاز فيلمها
الروائي “نرجس” بجائزة الاخراج في مهرجان في طهران عام 1991 كانت أول امرأة
تحصل عليها. وتصر روهشان على ضرورة إيجاد المخرج طريقة ما لعرض فيلمه داخل
إيران أولا.
ومن أبرز المخرجين أيضا مجيد مجيدي الذي عمل بداية مع محسن مخملباف من دون
أن يقلده، إذ يكون حجم السيناريو كبيرا في أفلامه ويتيح وقتاً للحوار بين
الشخصيات، على خلاف موجة السينما الايرانية التي تركز على الصورة التي
تحاور المشاهد. ومن أشهر أفلامه “باران” 2002 ويدور حول فتاة تتنكر بزي ولد
لتعمل مع الذكور لمساعدة أهلها. وفي العام الماضي أخرج فيلم “اغنية
الطيور”. وبالنظر الى قائمة المخرجين البارزين في إيران لا ننسى جعفر بناهي
وعباس كياروستامي صاحب فيلم “طعم الكرز” الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية
في مهرجان “كان” في ،1997 والذي يتراس لجنة تحكيم الأفلام الروائية في
المهرجان، إضافة إلى محمد شيرواني وغيرهم. المتتبع للسينما الايرانية لا بد
ان يكتب كلمة “وغيرهم” لأنه لا يمكن الوقوف على كل الأسماء اللامعة.
إقبال جماهيري كبير على العروض
شهدت عروض المهرجان إقبالاً كبيراً من الجمهور، الذي استمتع بمشاهدة
الأفلام التي سلطت الضوء على الحياة الاجتماعية والاهتمامات اليومية التي
يمكن أن يمر بها أي فرد في كل أنحاء الكرة الأرضية.
كما تسابق العشرات أمام قاعات عرض الأفلام للفوز بمقعد ومشاهدة العروض
السينمائية المختلفة التي اشتملت على نخبة من الأفلام بخاصة أن بعضها يعرض
للمرة الأولى عالمياً، ومعظمها تعرض للمرة الأولى في الشرق الأوسط في مشهد
لا يتكرر إلا في أكبر المهرجانات وأكثرها شهرة وعالمية على الإطلاق.
وأرجع مصدر في إدارة المهرجان الإقبال الجماهيري اللافت إلى ما يقدمه الحدث
من نوعية وجودة في مستوى الأفلام المعروضة خلاله، وهو أمر يؤكد على الهدف
من وراء إقامة المهرجان والذي تسعى هيئة أبوظبي للثقافة والتراث إلى تجسيده
واقعاً في مهرجانها عاماً بعد عام بأن يصل إلى العالمية ومنافسة كل
المهرجانات السينمائية واستحقاق أن تنال العاصمة أبوظبي شرف أن تكون عاصمة
للثقافة والفن، وأن تكون في لائحة الدول المستضيفة والمقيمة لكل أنواع الفن
السابع.
وأرجع الزوار ومشاهدو الأفلام التدافع على مشاهدة هذه العروض والتهافت على
قاعات السينما في قصر الإمارات والمارينا مول وأبوظبي مول، إلى نوعية
الأفلام التي تم اختيارها هذا العام والتي تعرض عدة مواضيع هادفة وتناسب
جميع أفراد العائلة، والتي تراوحت ما بين بيئية وثقافية واجتماعية
وكوميدية.
وتُجمع آراء الحضور من النقاد والجمهور معاً على أهمية مضامين وموضوعات
الأفلام التي تتناول من وجهة نظر سينمائية جوانب الهم الإنساني المتعددة
والمعاناة التي يتكبد مشقتها مبدعون اختاروا عين الكاميرا، وسيلة تعبير
جادة عن قضايا ذات عمق وحالات جماعية تتحد في الرؤية غير الربحية لصناعة
السينما التي تخدم مجتمعاتها وتنقل أفكار أفرادها ورؤاهم بمصداقية
وموضوعية.
“هواتشو”
حكاية من ريف تشيلي
وسط إقبال جماهيري كبير شمل حضوراً لافتاً للأطفال والصغار من أفراد
الأسرة، عرض أمس الأول فيلم “هواتشو” للمخرج أليخاندرو الميندراس في قاعة
سيني ستار 1 في المارينا مول، والفيلم الذي أنتجه كل من برونو بيتاتي وأليس
جالادو وكريستوف فريديل وميتشيل ريلهاك وسيباستيان دوسنت كروا، وصوره
للسينما أنتي بريون، ومثل فيه كليميرا أغوايو، مانويل هيرنانديز، اليخاندرا
يانيز، كورنيليو فيلاغران، وويلسون فالدينيتو، يروي حكاية أسرة ريفية في
تشيلي حيث يصور الواقع اليومي لعيش أفراد هذه الأسرة ويعكس الطبيعة الخلابة
في الريف مظهراً جمال الأرض الزراعية والحقول الممتدة على طول الطريق
وباحات المدارس والأماكن السياحية الجذابة عبر سرد سينمائي يجمع بين الواقع
والمتخيل إذ يحكي جماليات الحلم لبطله، وقصيدة الواقع اليومي لأفراد الأسرة
وإيقاع عمل هؤلاء في الزراعة عند سفوح جبال الأنديز في ريف التشيلي.
والفيلم الذي يعد من أهم الأعمال الحديثة لسينما تشيلي يعتبر من أفلام
المدرسة الطبيعية التي تنادي بإبراز تفاصيل الجمال الطبيعي على الشاشة، كما
هو في
الحكاية الدافئة للحياة الزراعية على أرض الواقع ويفسح المجال للمشاهد
العربي للتعرف إلى مجتمعات أمريكا اللاتينية.
الصغار والكبار في ضيافة
الخيمة
أقيم في خيمة المهرجان أمس الأول “يوم الأسرة” الذي تضمن عروض ألعاب الخفة
السحرية والرسم على الوجه، واستعراضات للفنون وحكواتي للأطفال، وفعاليات
مختلفة جذبت الحضور الذين تجاوز عددهم 600 طفل بصحبة أسرهم وبدت عليهم
علامات الفرح. وسارت العائلات مصطحبة أطفالها على السجادة الحمراء التي
وضعت خصيصاً لهذه الاحتفالية الكبيرة التي تؤكد أن لكل مهرجان سينمائي
معالمه الخاصة وأهدافه التي يسعى إلى تحقيقها.
وعبر الأطفال عن فرحهم بالمشاركة مع ذويهم في هذه المناسبة التي أبرزت
أهمية الدمج بين الترفيه والتوجيه الهادف والجاد في سبيل بناء جيل متفهم
لضرورات الثقافة المجتمعية التي تكتمل بالتثقيف الفني والسينمائي
والموسيقي.
كما شكر الأهالي إدارة المهرجان وهيئة أبوظبي للثقافة والتراث على جمع
أفراد العائلة الظبيانية من مواطنين ومقيمين وزوار تحت سقف خيمة مهرجان
الشرق الأوسط السينمائي الدولي للاستمتاع بأجواء أسرية وترفيهية هادفة سلطت
الضوء على أهمية العلاقات الأسرية المتوازنة والوطيدة بين أفراد الأسرة
الواحدة وبخاصة الأطفال من أبناء هذه الأسر.
وبعد الاحتفالية بيوم الأسرة توجه الجميع إلى عرض فيلم “قصيرون” وهو آخر
أفلام روبرت رودريغيز مخرج فيلم “أطفال جواسيس” و”المرياتشي” و”كوكب
الرعب”، والذي عرض في القاعة الكبرى في قصر الإمارات عصر أمس الأول، ويروي
الفيلم قصة طفل غريب الأطوار تتغير حياته عندما تسقط صخرة ملونة بألوان قوس
قزح من السماء تمنح من يلامسها كل ما يتمناه.
الفيلم من تمثيل وليام ميسي، وجيمس سبيدر، جيك شورت، كات دينيغيز، تريفور
غاغنون، ديفون غيرهارت، جولي فانيير وريبيل رودريغيز.
الخليج الإماراتية
في
12/10/2009 |