بحرارة صفق جمهور كان للفيلم الفانتازي
The Imaginarium of Doctor Parnassus الذي قدمه المخرج تييري جيليام، حرارة
تعود إلى الطزاجة المنعشة والمدهشة لهذا الفيلم الغريب الجميل الذي ينتقل
بالمتفرج إلى عالم خيالي ساحر. عالم ينطلق من خشبة مسرح يديره الدكتور
بارناسوس وفرقته وفي هذا المسرح مرآة سحرية يعبرها الجمهور إلى العالم
الخيالي البديع، لكن الدكتور بارناسوس يحتفظ بسر رهيب، فقبل ألف عام دفعه
ولعة بالقمار إلى مراهنة الشيطان ليحصل على الحياة الأبدية، ثم عاد
للمراهنة لاحقا عندما صادف الحب فبادل الحياة الأبدية بالشباب شريطة أن
يقدم ابنته لتصبح ملكا للشيطان عندما تبلغ ابنته السادسة عشرة من عمرها وقد
آن وقت دفع الثمن، لكن الدكتور يقرر إنقاذ ابنته وتصحيح أخطائه السابقة.
فيلم عن الأحلام والصراع الأزلي بين الشر والخير الممثل بالخيال الحر
السحري لمسرح الدكتور بارناسوس بما فيه من أحلام وسحر.
الفيلم كوميدي إذا صح التعبير، لكن من نوع كوميديا "مونتي بايتون"
التي سبق لجيليام أن قدمها وهو فيلم مشوق على درجة كبيرة من المباغتة
المدهشة أثارت إعجاب المشاهدين، كما تميز أداء الممثلين الرائع، خصوصا
النجم هيث ليجر الذي توفي في أثناء تصوير هذا الفيلم، الأمر الذي دفع
المخرج إلى إجراء تغييرات في السيناريو وإضافة ممثلين جدد ليحلوا محله لكن
بشكل مختلف عندما يكون في الجانب الآخر من المرآة، بشكل يتيح له الحفاظ
ويندرج بشكل موفق في سياق الأحداث.
وإلى جانب هيث ليجر الذي رأيناه متألقا في عدد من الأفلام الهوليوودية
الناجحة تجاريا مثل "الرجل الوطواط" و"بروكباك ماونتين" شارك في الفيلم
نجوم كبار تقاسموا البطولة مثل جوني ديب وجود لو وكولين فاريل وتوم ويدج
وكريستوفر بلومر وليلي كول. نشير أخيرا إلى أن هذا الفيلم عرض ضمن فعاليات
المسابقة الرسمية لكن خارج إطار التنافس.
الزمان المتبقي
أما الفيلم الثاني المهم الذي عرض يوم أمس فكان الفيلم الفلسطيني
"الزمان المتبقي" لإيليا سليمان والذي حظي بتصفيق الجمهور وإعجاب النقاد
وكتبت عنه الصحف الفرنسية مقالات مطولة. "الزمان المتبقي" هو بمثابة
استمرار أو بالأحرى مقدمة لفيلم إيليا سليمان السابق "يد إلهية" الذي نال
جائزة التحكيم الخاصة عندما عرض في مهرجان كان عام 2002. الفيلم الذي يغلب
عليه طابع السيرة الذاتية ويتمحور حول أربع مراحل أثرت في حياة عائلته من
1948 وحتى يومنا هذا وهو يستمد مادته الأساسية من المذكرات الشخصية لوالد
المخرج حين كان مقاوما ومن الرسائل التي تبادلتها أمه مع أقاربها ممن
أرغموا على النزوح خارج فلسطين.
أحداث الفيلم تبدأ في الناصرة مسقط رأس ايليا سيلمان عام 1948 مع
والده المحارب المهزوم بعد النكبة وتمتد إلى الوقت الحاضر حين يزور إيليا
والدته المسنة التي أصبحت أرملة ويتابع معها ألبوم صور نتعرف من خلاله على
صيرورة من بقي في تلك الأرض التي أصبحت إسرائيل تحولوا إلى أقلية أغراب
فيها. وينتقل حبل ذكريات الصور والمأساة الفلسطينية من حرب 1948 إلى رحيل
جمال عبد الناصر ثم الانتفاضة الفلسطينية ليصل إلى الجدار الفاصل، فنتعرف
على أهل المخرج وجيرانهم وحياتهم اليومية بتفاصيلها ذات الدلالة. نسيج
يمتزج بذكريات إيليا الشخصية الحميمة منذ كان طفلا ليرسم صورة الحياة
اليومية لهؤلاء الفلسطينيين المصرّين على الحياة كما على الاحتفاظ بهويتهم.
ويبين في الكراس الإعلامي للفيلم كيف تحول الفلسطينيون إلى ثلاث
مجموعات، يحمل أولها تسمية فلسطينيي إسرائيل وهم الذين بقوا في بيوتهم إبان
النكبة، فيما حملت المجموعة الثانية تسمية سكان الأراضي المحتلة، والمجموعة
الثالثة تتكون ممن نزحوا من فلسطينيي الشتات. صحيح أن هذه التقسيمات لا
تحمل جديدا على المستوى الوثائقي، لكن المخرج نجح في تقديم فيلمه بأسلوب
مؤثر خافت صامت، وكأن صوت الصمت أصبح أعلى وأكثر تأثيرا على الرأي العام من
صخب الخطب والشعارات. بهذا الصمت وبهذا الذكاء وبموهبة تواصل إثبات نفسها
وبخفة دمه قدم إيليا سليمان فيلما بسيطا مؤثرا وجميلا جدا. بعض النقاد ذهب
إلى القول بان صمت الفيلم يترجم نوعا من الهرب، لكن هذا الرأي ينطوي على
خطأ وكاريكاتيرية، فلغة الصمت قد تجد صدى أقوى لدى الجمهور العربي
والأجنبي، خاصة وأنه ليس صمتا إزاء الشعارات السياسية فحسب، بل هو صمت
يتحدث عن الوجود والغياب، فعبر شخصية المخرج الذي لعب دوره في الفيلم يتجلى
هذا الحضور الغيابي للإنسان الفلسطيني. منذ مشهد البداية حيث نتابع إيليا
بشكل غير واضح في المقعد الخلفي لسيارة تاكسي يقودها سائق إسرائيلي، ثم
نراه واقفا أمام أمه المريضة الصامتة وكأنه غائب وموجود في آن معا وهو ينظر
إلى الدبابة أمام منزله تلاحقه بمدفعها يمينا ويسارا وكأنه هدف سهل المنال
في أية لحظة، وحين يجد نفسه غائبا بهذا الحضور أمام جدار الفصل الإسرائيلي
نراه في موقف هزلي ساخر يحمل عصا طويلة ومثل لاعب قوى يقفز بعصا الزانة
مجتازا الجدار الذي يحاصر الأراضي المحتلة. وحين يضطر التلاميذ الفلسطينيون
لأداء تحية العلم ينشدون النشيد الإسرائيلي بلغة عربية حماسية في موقف تحد
بطولي ضد سياسية التجاهل والإلغاء، هذا الإلغاء الذي رأيناه في اعتقال
الفلسطينيين وسجنهم أو في إرغامهم على الهروب خارج أرضهم.
الزمان المتبقي فيلم جميل مؤثر مليء بالصمت، لكنه الصمت الذي يحمل
الغضب ويدين عبث الاحتلال والظلم الذي يقتل كل إحساس بالحياة، صمت مستسلم
يترجم مقاومة سلبية أحيانا مقاومة من أجل حياة أفضل وسلام ما تزال إسرائيل
ترفضه حتى الآن.
في الفيلم سخرية مريرة تتجلى في مواقف هزلية تثير الضحك على طريقة شر
البلية ما يضحك. وفي أحد المشاهد نرى والد إيليا سليمان يقول لبائع الصحف
أعطني "الوطن" فيجيب البائع لم يبق سوى "كل العرب". سخرية تدفع نحو جائزة
مستحقة للفيلم في مهرجان كان، ولم لا تكون جائزة السعفة الذهبية؟ حتى لو
اعتقد البعض بأن فيلم إيليا سليمان الجديد لا يخلو من تكرار لما شاهدناه في
أفلامه السابقة، لكن كيف يمكن لأفلامه أن تتغير طالما أن قضيته مازالت
نازفة وأنه ما زال ينتظر التغيير المنشود.
موقع
"إيلاف" في 23
مايو 2009
|