مفاجأة سارة تماما داخل المسابقة الرسمية من السينما الإيطالية
العريقة لم نشهدها منذ سنوات، لأحد أبناء جيل المخرجين المخضرمين الذين
عملوا في فترة الازدهار الكبير لهذه السينما في الستينيات والسبعينيات، أي
المخرج الكبير ماركو بيللوكيو (70 عاما) صاحب "الأيدي في الجيوب" (1965)،
و"الصين قريبة" (1967)، و"باسم الأب" (1972).
فيلم "الانتصار" فيلم سياسي أيضا من زاوية اهتمامه الكبير بإعادة
تسليط الأضواء على الحقبة الفاشية في إيطاليا من خلال التركيز على شخصية
موسوليني منذ بداياته الأولى وقت أن كان ينتمي في 1907 إلى الحزب
الاشتراكي، ويقود مظاهرات العمال ثم تحوله مع إعلان قيام الحرب العالمية
الأولى، من موقف المناويء للحرب ولدخول إيطاليا فيها، إلى تأييد الحرب تحت
دعوى أنها ستخلق واقعا جديدا في أوروبا يمكن إيطاليا أن تلعب دورا بارزا في
رسم سياسياتها.
ويصور الفيلم تحول موسوليني إلى الفاشية كحل "مناسب" لمواجهة حركة
اليسار عموما، وتحت دعوى أنها كفيلة باستعادة دور روما التاريخي، والأمجاد
الزائلة للامبراطورية الرومانية.
ويبدأ الفيلم بمشهد ينكر خلاله موسوليني وجود الله علانية، ويضطر
للفرر من غضب المتدينين. ولكننا سنرى فيما بعد كيف يقيم موسوليني تحالفا
قويا مع الفاتيكان ويستخدم الكاثوليكية لخدمة مآربه السياسية.
غير أن موسوليني رغم أهمية وبروز دوره في الفيلم، ليس هو الشخصية
الرئيسية هنا، بل شخصية سيدة شابة حسناء تدعى إيدا داسلر، تعجب بالنجم
الجديد الصاعد، وتقيم معه علاقة جنسية ملتهبة، ثم تبيع كل ممتلكاتها من أجل
أن تساعده بالمال على افتتاح صحيفة "شعب إيطاليا" الناطق بلسان حزبه
الجديد.
وتستمر علاقة إيدا بموسوليني حتى بعد أن يتزوج، ثم تنجب منه ولدا تطلق
عليه بنيتو ألبينو موسوليني، يعترف بأبوته له رسميا عام 1915 إلا أنه يرفض
أي اعتراف بزواجه منها بينما ستظل هي طوال حياتها تصر على أنه تزوجها بعقد
سرقه أعوانه منها، ولكن دون ي دليل على صحة ذلك.
وعندما تبد في مطالبته بالاعتراف بها كزوجة والاعتراف بابنه يختفي
موسوليني الإنسان من الفيلم ويبقى موسوليني الرمز السياسي والزعم، الذي لا
نراه سوى من خلال لقطات الأرشيف القديمة، في خطاباته الصارخة التي يثير
حماس الشعب الإيطالي من خلالها، وبتفاصيل قريبة لم يسبق استخدامها في
السينما الروائية، حتى أن موسوليني يبدو في تلك اللقطات الحقيقية أقر إلى
مهرج، يستخدم حركات وجهه، وطريقته الخاصة في مط شفتيه، ويهز يديه بطريقة
مبالغ فيها تثير الضحك أكثر مما تثير الغضب. تستمر محنة إيد داسلر، التي
توضع في بيت شقيقتها تحت الرقابة المشددة في البداية، ثم تتنقل إلى مصحة
عقلية بينما يبعد ابنها إلى مدرسة كاثوليكية دخلية ويحرم من رؤية أمه.
وفي أسرها تكتب إيدا خطابات إلى البابا والملك ورئيس الحكومة والنائب
العام والوزراء، تطالبهم بتحري الحقيقة اطلاق سراحها واسماح لها برؤية
ولدها.
أحداث الفيلم تتصاعد في إيقاع هاديء لكنه متدفق بالحيوية، يسير في
خطوط أقرب إلى حركات الأوبرا، خاصة مع الاستخدام المذهل لشريط الصوت
والموسيقى التصويرية المصاحبة التي كتبها كارلو كريفيللي، والتصوير الذي
يمزج جيدا النغمات البنية الداكنة مع الأبيض والأسود، ويستخدم المناطق
المضيئة، والظلال، والضوء الخافت غير المباشر، لإضفاء جو خاص على الصورة
يتناسب أولا مع أجواء الفترة، وثانيا يؤكد على تدهور الحالة العقلية
للشخصية الرئيسية.
"إيدا داسلر" تضطرب نفسيا بالتدريج، لكنها تظل مصرة على روايتها، غير
مستعدة لتراجع تحت أي ضغوط أو حرمان أو حتى تعذيب.
وفي الفيلم مشاهد لا تنسى مثل مشهد المشاجرة التي تنشب داخل إحدى دور
العرض السينمائي بين مجموعة يشارية وجماعة فاشية بقياة موسوليني، بينما
تعرض على الشاشة جريدة سينمائية تحتوي لقطات من المعارك، على نغمات البيانو
المصاحبة للفيلم الصامت، ويظل عازف البيانو حتى اللحظة الأخيرة، مصرا على
مواصلة العزف رغم شيوع الفوضى داخل السينما.
وهناك المشهد الذي يحمل دلالة خاصة داخل مصح الأمراض العقلية حيث نرى
عددا من النساء اللاتي أدخلن المصحة لأسباب لها علاقة بنشاطهن السياسي
المعارض، وإحداهن راقصة باليه تسر لإيدا أنها كانت صديقة مقربة من راقصة
شهيرة في باليه البولشوي الروسي (وقت الحكم الشيوعي).
وهناك المشهد الذي تقوم لجنة قضائية باختبار قدرة إيدا على التعامل مع
المجتمع والحياة والناس، وينتهي الاختبار بالتأكد من سلامتها العقلية، إلا
أن القاضي المكلف باستجوابها ينصحها بنسيان قصة علاقتها بموسوليني. وينتحي
بها طبيب في المصحة يقول أنه يريد أن يجعلها تغادر المسيتشفى وينصحها بأن
تغير من سلوكها، وتتظاهر بأنها مثل كل النساء الفاشيات الطيبات، ربات
البيوت اللاتي يدعمن قضية الفاشية.
ويقول لها إنه يتعين عليها أن تنحني للتيار، وإن الفاشية مرحلة لن
تستمر في إيطاليا، وإنها يمكن أن ترى ولدها وتعيش معه في حالة قبولها
بالاندماج في الواقع ونسيان ما مضى.
على صعيد آخر يعيش ابن موسوليني حياته ويكبر تحت الرقابة، ويكبر ويصبح
طالبا لكنه يسخر من والده ويتخصص في محاكاته بسخرية أمام زملائه.
ويشير الفيلم من خلال لقطاته الموجزة البليغة إلى نهاية الحر ونهاية
موسوليني (من خلال لقطة لتمثال ضخم للديكتاتور الإيطالي يتم سحقه بين فكي
آلة عملاقة).
ونعرف أن إيدا توفيت قبل أن ينتهي موسوليني، كما فقد ابنها عقله ثم
توفي أيضا قبل نهاية الحرب الثانية. لاشك في سيطرة بللوكيو المثيرة للإعجاب
على كل فيلمه، وقدرته على التحكم في إيقاعه، وتوظيف كل صورة، وكل تفصيلة من
تفاصيل الصورة لخدمة الموضوع: الفاشية التي تقود الأمة إلى الدمار، المرأة
المعذبة المعتقلة الخاضعة، التي يمكن اعتبارها "معادلا" سينمائيا ودراميا
لاعتقال الأمة.
وهناك أيضا استخدام رائع ومميز لإيقاعات الأوبرا سواء في توظيف
الأصوات الطبيعية على شريط الصوت، أو في التحكم في الحركة والأداء في إطار
المحيط بطريقة قد تشوبها بعض المبالغة المسرحية كما في مشهد محاكاة الإبن
لوالده في طريقته في الخطابة.
أخيرا "الانتصار" كلمة مستمدة من أحد خطب موسوليني في إطار الشحن
المعنوي للشعب الايطالي. الفيلم في النهاية أحد أفضل الأفلام في مسابقة كان
2009 ومن الممكن جدا أن يحصل على إحدى الجوائز الكبيرة.
موقع
"الـ BBC العربية" في 22
مايو 2009
|