خلافاً لتوقعات الصحافة لم يكن فيلم كوينتين تارانتينو الجديد
Inglourious Basterds الحدث الدرامي الأكبر الجدير بالسعفة الذهبية في
المهرجان، الفيلم بدا قريباً من أفلام رعاة البقر الإيطالية رغم أنه يتناول
الحرب العالمية الثانية ويعرض بطولات فرقة كوماندو مكونة من اليهود
الأمريكيين بقيادة الملازم الدو راين الذي جسد شخصيته النجم براد بيت، هذه
الفرقة تسللت إلى خلف الصفوف الألمانية بهدف بث الرعب وقطع خطوط جبهة
القتال. صحيح أن موهبة تارانتينو تفرض نفسها على مستوى تصوير الأحداث وما
فيها من عنف وأيضا ما فيها من فكاهة. فالمخرج الأمريكي وطبقا لوصف أحد
الممثلين في الفيلم هو رجل حالم رغم صور العنف التي شاهدناها في أفلامه
السابقة مثل
Pulp Fiction أو "جاكي براون" أو "اقتل بيل" أو فيلم "شارع
الموت" الذي عرض في كان قبل عامين، تارانتينو طفل حالم يصور العنف كي يدينه
ويستمتع في تصوير الانتقام وكأنه يريد في أفلامه تحقيق العدالة كما يتمناها
الطفل بعفويته.
فيلم
Inglourious Basterds
الذي يمكن ترجمته "أولاد حرام غير عظماء" لا يستند إلى وقائع التاريخ على
الإطلاق وإنما على سيناريو ألفه المخرج بنفسه مستلهما أحداث الحرب وجرائم
النازية فيها. وفكرة الفيلم تعود إلى أكثر من عشر سنوات مضت، بدأ به ثم
توقف عدة مرات وكأنه أراد التأمل لاستكمال الصورة النهاية للسيناريو ليصل
إلى هذه الصيغة التي كانت مفاجئة من حيث الشكل الكوميدي في تصوير عملية
الانتقام. كما فاجأ تارانتينو باختياره للممثلين الذين جاؤوا من فرنسا
وألمانيا والنمسا والولايات المتحدة وكل تحدث لغته الأم أي لغة الشخصية
التي يجسدها في الفيلم، ويشكل هذا الخليط التمثيلي عنصرا غير معتاد في
السينما الهوليوودية، لكن بدا المخرج ومنتجو الفيلم وممثلوه مرتاحين لهذه
الخلطة الفنية التي تناغمت في فيلم ناجح على مستوى الأداء والإيقاع
والتصوير.
أحداث الفيلم تبدأ في فرنسا إبان الفترة الأخيرة من الاحتلال النازي
وفي منطقة الللورين الحدودية مع ألمانيا حيث نتابع مزارعا يعيش في كوخ
خشبي مع بناته الثلاث تقتحم فرقة عسكرية نازية كوخه ويستدرجه الضابط لاندا
للاعتراف بأنه يأوي في بينه عائلة يهودية، فينهار الرجل خوفا على بناته
ويشير إلى القبو الذي تختبئ فيه العائلة اليهودية التي تجري تصفيتها في
مذبحة، لكن إحدى الفتيات تنجو في اللحظة الأخيرة ونراها تعدو بعيدا في
الحقول المزروعة ويصوب الضابط النازي سلاحه ليطلق النار عليها لكنه يتوقف
في اللحظة الأخيرة، تلك الفتاة سيكون لها دور هام على امتداد الفيلم.
على محور آخر نتابع ممثلة ألمانية معروفة تبدو على علاقة وثيقة مع
الضباط الألمان وتدعى بريجيت لكنها في الحقيقة عميلة سرية لصالح
الاستخبارات الأمريكية وهي التي ستصبح همزة الوصل مع فريق الكوماندو
الأمريكيين اليهود كي تساعدهم على اصطياد النازيين وقتلهم، وعلى الأخص
اصطياد هتلر ومساعديه خلال العرض الأول لفيلم يمجد الفوهرر سيعرض في صالة
باريسية تديرها الصبية التي كانت شاهدة على تصفية عائلتها في بداية الفيلم
واسمها شوزانا. وكانت مجموعة الكوماندو قد عرفت بأن هتلر سيحضر العرض بفضل
اعترافات ضابط أسروه وأعطى المعلومة لقاء وعد بأن يستطيع الهجرة والعيش في
أمريكا، لكن زعيم الكوماندو يصر على تعذيبه كما يفعل النازيون مع أسراهم.
بين شوزانا التي تنتظر في صالة العرض التي تديرها كي تنتقم لعائلتها
ومجموعة الكوماندو والممثلة الذين يريدون تنفيذ عملية خلال نفس العرض،
تتحول صالة السينما إلى ساحة تجمع قيادات الجيش النازي وزوجاتهم يتقدمهم
هتلر بينما يحاول الفدائيون اليهود إقفال بوابات الدخول لقنصهم داخل الصالة
بينما تقرر شوزانا حرقها بمن فيها، لينتهي الأمر بمذبحة يقتل فيها عدد كبير
من النازيين كما تقتل الممثلة الألمانية وشوزانا في معركة عنيفة تنتهي بقتل
هتلر ومساعديه.
في الفيلم تفاصيل جميلة ومواقف كوميدية موفقة وموظفة بما يخدم الرسالة
المراد توصيلها، لكنه لا يرقى إلى مستوى الأفلام الرائعة التي أخرجها
تارانتينو في السابق والتي جعلت منه أحد أهم المخرجين في السينما
المعاصرة.
نشير في النهاية إلى تألق ممثلي الفيلم على اختلاف جنسياتهم، كذلك في
البطولة المشتركة وضعت النجم براد بيت على نفس مستوى زملائه خاصة الممثل
النمساوي كريستوف والت وبالتالي لم يتميز رغم أدائه الجيد وكذلك الحال
بالنسبة للممثلة الفرنسية ميلاني لوران التي لعبت دور شوزانا أو ديان كروجر
الألمانية والتي لعبت دور الممثلة بريجيت.
الشريط الأبيض
الفيلم الثاني الذي أثار اهتمام النقاد اسمه "الشريط الأبيض" للمخرج
النمساوي ميكائيل هانيكي الذي يشارك للمرة الخامسة في المهرجان والذي حصل
عام 2001 على جائزة التحكيم الكبرى عن فيلم "عازف البيانو" وجائزة الإخراج
عن فيلم "مختبئ" عام 2005 كما وكانت بدايته في كان عام 1997 مع فيلم
funny games
الجزء الأول ثم الجزء الثاني قبل عامين. وإذا كان "الشريط الأبيض" مختلفا
عن أعمال المخرج السابقة من حيث الإيقاع والتصوير والصيرورة المخيفة
والألوان، إلا أنه يشترك معها من حيث تصوير الرعب والقسوة العبثية المدمرة.
هاينكي اختار قرية بروتسانتية في شمال ألمانيا لتكون مسرح أحداث
الفيلم التي تعود إلى بدايات الحرب العالمية الأولى. حياة القرية تتمحور
حول البارون والقس والطبيب والقابلة القانونية ومعلم المدرسة الذي يحاول بث
شيء من الحيوية فيها عبر تشكيل جوقة كورال من أطفال ومراهقي القرية، أطفال
يعيش بعضهم حياة صارمة قاسية على غرار أولاد القس الذين يتعرضون لضرب قاس
لا مبرر مفهوم له لكنهم ورغم استياءهم من معاملة أبينهم يخضعون له منكسرين.
حياة القرية بتقشفها وصرامتها تبدأ بالتحول عندما يتعرض بعض سكانها
لحوادث غريبة غامضة، مثل سقوط الطبيب عن الحصان أو مقتل مزارعة أو تعرض ابن
البارون لضرب أدى إلى تشويهه، وتدريجيا تتلاحق الحوادث الغامضة المجهولة
الأسباب لتبدو وكأنها جرائم متعمدة عقابية، ليسود جو من التوجس والشائعات
والشكوك التي تطال الجميع دون أن تخفف من وطأة الجو المشحون ولادة قصة حب
خفيفة بين المعلم وصبية أحبته والقبلة التي تبادلاها.
سيناريو الفيلم كتبه المخرج كما هو الحال في أغلب أفلامه السابقة، وهو
أيضا يتسم بنفس العنف الذي ونفس الصرامة، لكن المخرج ذهب هذه المرة في
صرامته المتقشفة إلى حد تصوير هذا الفيلم بالأسود والأبيض، وهو يظل على
جماله فيلما تقليديا يصعب معه توقع أن يفوز بالسعفة الذهبية المنشودة، إلا
إذا وجدت هذه الصرامة التقليدية المضبوطة صدى إيجابيا لدى رئيسة لجنة
التحكيم إيزابيل هوبير التي سبق لها أن لعبت دور البطولة في فيلم "عازف
البيانو" الذي استحق عليه هانيكي جائزة التحكيم الكبرى.
موقع
"إيلاف" في 22
مايو 2009
|