لكل دورة من دورات مهرجان كان السينمائي فيلمها الصادم أو "فضيحة
المهرجان" حسب التسمية التي تطلقها الصحافة الشعبية عادة. هكذا اعتدنا منذ
نحو عشرين عاما.
كان الفيلم- الفضيحة ذات مرة، هو فيلم "غريزة أساسية" بطولة شارون
ستون صاحبة اللقطة الشهيرة الإباحية المفاجئة في ذلك الوقت، ثم فيلم
"اصطدام"
Crash
للمخرج ديفيد كروننبرج عام 1995 بمشاهده الغريبة التي تجسد العلاقة بين
اللذة الجنسية والألم. ثم جاءت فضيحة أخرى تمثلت في فيلم "غير قابل للعودة"
Irreversible بعد ذلك بخمس سنوات الذي يصور تفاصيل مرعبة في مشهد اغتصاب بطلته
"مونيكا بيلوتشي" داخل نفق للمشاة.
أما هذا العام فربما يستحق لقب الفيلم الفضائحي بجدارة فيلم "ضد
المسيح" (أو المسيح الدجال أو نقيض المسيح أو الشيطان) للمخرج لارس فون
ترايير، وكل هذه التعبيرات صحيحة تماما، وإن لم تكن هناك في الفيلم شخصية
يتجسد فيها هذا المعنى بل إن المعنى عام يشمل "الرؤية" نفسها التي يقدمها
هذا السينمائي المتطرف في خياله في فيلمه هذا، الذي شاء أن يكتم أي معلومات
عنه قبل وأثناء وبعد الانتهاء من تصويره، إلى أن عرض أخيرا ضمن مسابقة
المهرجان في عرضه العالمي الأول.
الإعلان عن موهبة
جاء المخرج الدنماركي لارس فون ترايير إلى مهرجان كان للمرة الأولى
عام 1991 بفيلم "أوروبا"
Europa
وكان وقتها في الخامسة والثلاثين من عمره، وراءه تجربة جماعة "دوغما 95"
Dogma 95
التي تزعمها وأسس لها نظريا وعمليا والتي سرعان ما انتهت إلى الإفلاس،
بالاضافة إلى أنه ترك وراءه أيضا عددا من الأفلام التي قام بتصويرها فهو
أساسا، مصور سينمائي.
أما "أوروبا" فكان مفاجأة مدهشة لعشاق سينما الفن، تجربة جديدة في
استخدام لغة السينما: أبعاد الصورة وأعماقها، حركة الكاميرا الطويلة
المعقدة التي تعبر كل الحواجز وتخترق المحظورات، العين التي تراقب دون أن
نراها، شريط الصوت القادم مما وراء المحيط الأرضي وكأنه صوت القدر، والبطل-
اللابطل الذي يسير كالمنوم إلى مصيره في "ألمانيا العام صفر" أي في الأشهر
الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت موهبة فون ترايير تعلن عن نفسها بوضوح في هذا الفيلم الذي توقع
كثيرون حصوله على السعفة الذهبية في تلك السنة، لكنه خرج من سباق كان
بجائزة لجنة التحكيم الخاصة.
وقد أفصح فون ترايير وقتها عن "أسلوبه الخاص في التعبير" المخالف
للأعراف المستقرة عندما صعد إلى المنصة لاستلام الجائزة فعلق قائلا "إنها
جائزة صغيرة من أصغر رئيس لجنة تحكيم في أي مهرجان" وكانت تلك إشارة واضحة
إلى المخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي التي رأس اللجنة في ذلك العام
والمعروف بقصره.
عاد فون ترايير إلى مهرجان كان عام 1996 بفيلم بديع آخر هو "تحطيم
الأمواج"، وكان يعبر فيه عن فلسفة إنسانية محبة للخير وللدنيا وللحياة،
يسبح في الميتافيزيقي، ويناقش مغزى الحياة والموت وفكرة البحث المعذب عن
الله، من خلال لغة فنية رفيعة يستخدم فيها الموسيقى وتقسيم الفيلم إلى فصول
تحمل عناوين مختلفة للتغريب من أجل التقريب، ويرتكن على الممثلين وفي
مقدمتهم البريطانية إميلي ووطسون التي يمكن القول إنها ولدت فنيا في هذا
الفيلم.
أخرج ترايير بعد ذلك عدة أعمال للتليفزيون منها فيلم عرض في نحو 6
ساعات هو فيلم "المملكة"، وكتب فيلم "البلهاء" في إطار التشبث بفكر "دوغما
95" قبل أن تشهد الحركة نهايتها الطبيعية.
ومنذ فيلمه المفتعل الغريب "راقصة في الظلام" الذي اعتبر عملا لا فكر
وراءه ولا فنا عظيما، بل محاولة لتسخيف الدراما الموسيقية بالاعتداء على
تقاليدها باستخدام المغنية بورك التي لم تكن تصلح للوقوف أمام الكاميرا
أساسا.
غير أن هذا الفيلم وجد بعض الذين أحبوه ومنحوه تعاطفهم، بل ونجح في
الحصول على السعفة الذهبية في كان، ثم مضى لكي يرشح أيضا للأوسكار.
منذ ذلك الفيلم لم يعد من الممكن التعامل مع فون ترايير على محمل الجد
طيلة الوقت، فها هو يعود إلى كان في 2003 بفيلم "دوجفيل"
Dogville وهو فيلم مصطنع يمارس فيه هوايته في الاعتداء على سينما "النوع"
genre
الذي هو هنا الفيلم- نوار الأمريكي، من خلال قصة رمزية عن أمريكا "السيئة"
التي لا يحبها فون ترايير، ويجد أنها مليئة بالقسوة والتوحش واللا إنسانية،
هكذا من الخارج وبدون أي تعمق أو إحساس بالسخرية التي تولد الشعور بالمرح،
بل من خلال تجسيد متجهم يريد أن يعتقل المشاهدين ويرغمهم على الجلوس في
مقاعدهم لنحو ثلاث ساعات.
لم يكن هذا على أي حال سبب عدم توفيق الفيلم، بل كان الأسلوب
السينمائي المصطنع الذي يمتليء بالحوار الذي لا ينقطع، ويدور في ديكور واحد
كأنه منصة مسرح، وعليك أن تتخيل أن هنا دكان الحلاق، وهناك البنك، وهنا
مركز الشرطة .. إلخ.
تجربة جديدة
اليوم نحن أمام تجربة متطرفة جديدة لفون ترايير، أتى بها إلى كان وفي
ذهنه أن يصفع الجمهور، ويثير جنون القطاع المتيم بأفلامه حتى قبل أن يراها.
هنا، في هذا الفيلم، لا يحدث شيء على الإطلاق. هناك فقط شخصيتان: رجل
(وليم دافو)، وامرأة (شارلوت جينسبرج). الإثنان منعزلان في بيئة برية
متوحشة نائية، داخل كوخ خشبي محاط بالأدغال التي تختبيء فيها ذئاب متوحشة.
المرأة تبدو مدمرة نفسيا بسبب عجزها عن قبول فكرة الموت، والرجل يحاول
مساعدتها عن طريق التحليل النفسي، على الخروج من أزمتها.
لقد فقد الاثنان ابنهما بعد أن سقط من شرفة المسكن بينما هما مشغولان
بممارسة الجنس.
وهما يتركان المدينة ويرحلان إلى الريف حيث ينعزلان في ذلك الكوخ
الخشبي بحثا عن علاج نفسي للزوجة من قبل زوجها الطبيب النفساني كما نعرف
لاحقا.
غير أن الوسيلة العلاجية الأساسية التي تستخدم هنا هي الجنس، أي
ممارسة الجنس في كل مكان وفي أوضاع مختلفة، وبصورة وحشية خاصة من جانب
المرأة الشابة التي لا يبدو أنها تشبع، فالجنس هنا ليس وسيلة للتشبث
بالحياة بل ربما وسيلة للتعجيل بالنهاية.
وعندما تشك في لحظة في أن زوجها، يوشك أن يتخلى عنها ويهرب، تلجأ إلى
استخدام أقسى درجات الوحشية معه.
إنها تقوم أولا بالقاء حجر كبير يشبه ما نعرفه بـ"حجر الرحاية" على
عضوه الجنسي بعد الانتهاء من ممارسة الجنس مباشرة، وبالتالي تصيبه بالإغماء
من شدة الصدمة.
الفوضى تسود
وعندما يستفيق ويبدأ في التحرك، تأتي بحفار عتيق كبير وتغرس سنه
المدبب في ساقه ثم تدير الحفار فيخترق السن ساق الرجل ويخرج من الجهة
الأخرى مع ألم شديد لا يطاق.
لكنها لا تكتفي بذلك بل تأتي بعجلة ضخمة من الحديد مصممة لكي تغلق
تماما على المسمار الكبير المنغرز في ساق الرجل بقطعة حديدية تتحرك على
زنبرك، وذلك لمنعه من الحركة تماما.
وفي مشهد يثير القشعريرة تتناول عضوه الذكري في يدها وتبدأ في تدليكه
فيندفع الدم منه يغرق ملابسها.
وينتهز هو فرصة انشغالها ويزحف متسللا إلى الأحراش، ويختبيء في حفرة،
تتطلع ذئبة تضع مولودها إليه وتقول له بصوت بشري أجش: الفوضى تسود.
الفتاة تصرخ في البرية باهنياج شديد: أين أنت؟ وتتصاعد هستيريا صراخها
أكثر فأكثر كلما صمت صاحبنا في مكمنه فزعا مما يمكن أن يحدث له.
لكنها تعثر عليه وتجذبه إلى الداخل، حيث تستأنف الملحمة الدموية
السادية المتوحشة: إنها ترغب في ممارسة الجنس مجددا. وعندما تعجز تمارس
العادة السرية أمام الكاميرا مباشرة، ومع شعورها بالإحباط تتناول مقصا ضخما
وتقطع أعضاءها الجنسية الخارجية، فيتفجر الدم.
بعيدا عن الإيحاء
هذه المشاهد نراها بشكل مباشر وبدون أي نوع من التمويه أوالإيحاء
أوالإحالة إلى الخيال، أو استخدام زوايا تصوير جانبية، بل من خلال كاميرا
مواجهة للممثل والممثل تتوقف وترصد تفاصيل الحدث بكل وضوح لتحقيق أكبر قدر
من الصدمة. ما المقصود من هذا العمل، ولماذا، وهل هذه الرؤية صادقة أم
مفتعلة، ولماذا؟
في تاريخ السينما هناك الكثير من الأفلام المغرقة في الغرائبية
والمشاهد الصادمة. لقد كان فيلم "اصطدام" مثلا، عملا يتمتع بالأصالة الفنية
والفكرية، في تعبيره المشوب بنزعة بحث فلسفي معذب، في العلاقة بين الألم
واللذة، بشكل يحمل أيضا تعليقا ساخرا من الحضارة الأمريكية الحديثة، حضارة
السيارات والسباق المجنون نحو الموت يوميا.
وكان ما نشاهده رغم كل غرابته، يظل في إطار المقبول والمفهوم والممكن
تخيله أيضا لأنه كان يقدم أيضا في اطار رؤية مستقبلية للعالم.
ولعل العبقري السيريالي لويس بونويل بلغ الذروة في التعبير بالعنف
والجنس ولكن بأسلوب أقرب إلى الشعر. إنه صاحب فيلم "الكلب الأندلسي" الصامت
(1928) الذي يظهر فيه البطل وهو يشق عين امرأة بسكين فيتدفق منها النمل.
وهو أيضا مخرج "حسناء النهار" و"سحر البورجوازية الخفي"، و"شبح
الحرية" وغيرها من الأفلام المغرقة في الخيال الجامح.
وهناك أيضا أفلام السيريالي الآخر المتطرف في تعبيره الفني، اليخاندرو
خودوروفسكي. كما أن فيلم "امبراطورية الحواس" للياباني ناجيزا أوشيما يصل
في تعبيره عن العلاقة الحسية بين الرجل والمرأة إلى أقصى درجاتها المتخيلة.
أما فيلم لارس فون ترايير الجديد "نقيض المسيح" فإنه، بعيدا عن
المفاهيم الأخلاقية المباشرة، التي ترفض تصوير العنف على الشاشة أو استخدام
العري والجنس في التعبير في الفن عموما، وفي السينما خصوصا، فإنه اعتبر من
قبل الكثير من النقاد الذين شاهدوه في "كان" اعتداء فظا على الذائقة
البصرية.
لم يجد هؤلاء في فيلم فون ترايير أي عمق فني أو لمسات فنية خاصة
وجديدة، يستخدم في إطارها الجنس والعنف للتعبير عن رؤية فلسفية حقيقية
تشغله، بل هناك شعور بالاعتداء على الذوق ومحاولة فرض رؤية معينة بكل أشكال
القسوة والقسر وتكرارها عشرات المرات والاستمراء في هذا دون أي قدر من
الجمال، فللعنف أيضا جمالياته.
ما الهدف؟
ما الذي يريده إذن من وراء كل هذه المشاهد المرعبة التي قد تدفع
الكثيرين إلى كراهية السينما؟ إنه يريد تحقيق الصدمة أولا، والصدمة ثانيا،
والصدمة أخيرا.
أما من حيث الأسلوب فهو يكرر استخدامه للكاميرا المتحركة الحرة
المهتزة التي تنتقل كثيرا في حركات بان (pan)
افقية بين الشخصيتين كما اعتاد أن يفعل، ويستخدم العدسة سكوب أي الشاشة
العريضة كما فعل في كل أفلامه الشهيرة دون أن تضيف شيئا هنا، وينتقل من
الأبيض والأسود إلى الألوان، كما يحلو له وبدون منعطف درامي واضح، ويستخدم
طريقة كتابة العناوين على الشاشة كما سبق أن فعل في أعلامه السابقة: هناك
أربعة فصول وخاتمة.
هو بالطبع يحاول أن يوحي لنا بأنه يتفلسف عن الحياة، وعما بعد الحياة
ربما، ويذكر في سياق أحاديثه الطويلة "نيتشه" وكتابه عن "المسيخ الدجال" أو
"نقيض المسيح" وكيف أنه كان دائما إلى جوار فراشه، كما يتحدث عن تأثير فيلم
"يوميات الحياة الزوجية" لبرجمان عليه، ولكن كل هذه الأشياء لا أثر لها في
الفيلم فما الجدوى إذن؟
الواضح للكثيرين أن فون ترايير لم تعد تشغله أي أفكار عن الحياة وما
يحدث فيها، بل أصبح أساسا، مشغول بنفسه، ومنهمك بالدوران حولها، يريد أن
يصعد فوق آهات الدهشة والرعب، ويحقق مزيدا من الشهرة والمجد من خلال
الصدمة، طالما أن هناك في أوساط "المعجبين بالصرعات الفنية" من يعجبون بهذا
الاعتداء الفظ على الذائقة البصرية، بل وعلى الذوق الفني والخيال.
رفض الجمهور
فون ترايير لا يهمه الجمهور كما قال خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب
عرض فيلمه في مهرجان كان حين أكد أنه يصنع الأفلام لشخص واحد فقط، هو لارس
فون ترايير نفسه.
وهو أيضا سعيد بوجود "محيط" خاص من المعجبين بأفلامه الصادمة، أي سعيد
بانتماء فنه هذا إلى صنف الفن الفئوي القاصر على "قبيلة" معينة، وليس فنا
للإنسانية كلها، كما يعترف بنفسه في حوار منشور في مجلة "فيلم" الدنماركية
(العدد 66).
ما معنى ما تقوله الذئبة في الفيلم لبطلنا السادي الذي ينتهي بقتل
المرأة خنقا، للخلاص منها والنجاة بنفسه، وهو ما يعكس رؤية ترايير للعلاقة
بين الرجل والمرأة، كما يعكس الفيلم، على نحو ما، رؤيته لإحساس المرأة
بالجنس، ولشكل احتياجها "الأساسي" من الرجل، ورغبتها المرضية في التملك
والاستيلاء، وعدم الوصول أبدا إلى الإشباع.. فهل هذه تصلح بعد ذلك أن تكون،
بأي مقياس، رؤية "إنسانية"؟
من الغريب بل والمستهجن، أن يجد البعض ما يضحكه في مشاهد قطع الأعضاء
الجنسية أو إزالتها بالمقص في واحد من أفظع مشاهد السينما، ولعل التساؤل
التالي هنا يصبح مشروعا: ما معنى هذا، ما هذه الثقافة "الأخرى" التي أصبحت
تتلذذ بهذا النوع من المشاهد وتجد فيها أيضا نوعا من "الفكاهة" أو الـ (fun)؟
الفوضى والعالم
إن فيلم "نقيض المسيح" الذي يقول لنا شيئا ربما نعرفه جميعا على لسان
الذئبة المتوحشة، أي أن الفوضى تسود العالم، لا يقدم جديدا على صعيد الفكر
بل ولا على صعيد الفن، سوى الإغراق في تجريب أقصى درجات الصدمة.
طبعا فون ترايير يستخدم المجاز فهو يريد أن يقول لنا إنه يتحدث عن
نهاية العالم الشبيهة ببدايته مع فارق أن الرومانسية قد انتهت.
وهو يختم الفيلم على بطله الذي نراه وسط مئات من جثث النساء العاريات
تحديدا ملقاة فوق ربوة في الأدغال.
الغريب جدا أن فون ترايير كان قد واجه عام 1991 برفض فيلمه البديع
"أوروبا" من قبل الكثيرين. ووبلغ الأمر أن كتب ناقد يصف الفيلم بأنه مجرد
"استمناء ذهني"، أما الفيلم الجديد فهناك الكثيرون أيضا الذين يعجبون به
ويجدونه عملا فلسفيا يلخص نهاية العالم.
لكن هناك ذلك الناقد الذي قال إن فون ترايير لا يوظف العنف في هذا
الفيلم فنيا، بل يستخدمه ضد الجمهور".
ولاشك أن فون ترايير عندما يفاجئنا في النهاية بإهداء فيلمه هذا إلى
السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي، فإنه يسخر من عشاق سينما
تاركوفسكي، بل ومن سينما العقل، بعد أن قدم نموذجا فذا ومذهلا، على سينما
ما بعد العقل.
موقع
"الـ BBC العربية" في 20
مايو 2009
|