اختارت
إدارة مهرجان «كان» فيلم تحريك ثلاثي الأبعاد بعنوان «فوق» لدوكتر وبيترسون،
في
خطوة أولى منذ تأسيسه قبل اثنين وستين عاماً؛ كأنها تعبّر عن موقفها إزاء
المستوى
الجمالي الذي بلغه هذا الفن البصري أساساً، أو ربما لأنها وجدت
في هذا الفيلم ما
يستحقّ أن يُشكّل افتتاحاً فنياً لائقاً بمهرجان ارتكزت دوراته السابقة على
تقديم
الأفضل والأجمل؛ علماً أن دوكتر نفسه قال، عشية انطلاق الدورة الجديدة هذه،
إن
الاختيار «اعترافٌ جميلٌ بعملنا»، مشيراً إلى أن الفيلم «يروي
قصّة لا تُنسى،
بالاعتماد على التحريك». لكن المهرجان لم يتغاض كلّياً عن هذا الفن البصري
الممتدّ
تاريخه إلى سنين بعيدة جداً، لأنه أتاح الفرص، مراراً، أمام مخرجين ومديري
شركات
إنتاجية معنية بالأمر لتقديم آخر ابتكاراتهم في هذا المجال،
تماماً كما حصل
مؤخّراً، في دورة العام الفائت، عندما اختير فيلم التحريك «فالس مع بشير»
للمخرج
الإسرائيلي آري فولمان في المسابقة الرسمية، الذي أثار جدلاً عقيماً في
لبنان قبل
أن يُتاح عرضه في إطار سينمائي بحت.
لم يُشارك «فوق» في المسابقة الرسمية، على
نقيض عشرين فيلماً آخر تمّ اختيارها للتنافس على «السعفة
الذهبية» و«جائزة لجنة
التحكيم الخاصّة» و«الجائزة الكبرى» وجوائز أخرى في فئات أفضل مخرج وأفضل
ممثل
وأفضل ممثلة وأفضل سيناريو، و«السعفة الذهبية» الخاصّة بالفيلم القصير، في
حين أن
هناك جائزة «الكاميرا الذهبية» التي تُمنح لأفضل أول فيلم في المسابقات
كلّها:
الرسمية و«نصف شهر المخرجين» و«أسبوع النقّاد» و«نظرة ما». أما الأفلام
العشرون
هذه، التي أنجزها كبار في الفن السابع أمثال بدرو ألمودوفار (العناقات
الكسيرة) وكن
لوتش (البحث عن إيريك) ولارس فون ترير (المسيح الدجّال)
وكوانتين تارانتينو (السفلة
المجهولون) وآنغ لي (أن نأخذ وودستوك) وجاك أوديار (نبيّ) وغاسبار نويه
(فجأة
الفراغ) وجاين كامبيون (النجمة الساطعة) وميكايل هانيكي (الشريط الأبيض)
وغيرهم،
فتُشاهدها لجنة تحكيم مؤلّفة من الممثلة الفرنسية إيزابيل
هوبير رئيسةً، والممثلات
الإيطالية آسيا أرجينتو والتايوانية شو كي والأميركية روبن رايت بن،
والمخرجين
التركي نوري بيلجي سيلان والكوري لي تشانغ ـ دونغ والأميركي جيمس غراي،
والكاتب
الإنكليزي حنيف قريشي أعضاء. في حين أن لجنة التحكيم الخاصّة
بالأفلام القصيرة
تتألّف من المخرج الإنكليزي جون بورمان رئيساً، والمخرجَين الفرنسي برتران
بونيلّو
والتونسي فريد بوغدير، والممثلتين البرتغالية ليونور سيلفيريا والصينية
زهانغ زييي
أعضاءً. بهذه اللجنتين الأساسيتين، يكتمل جزءٌ أساسي من المشهد
السينمائي في «كان»،
علماً أن الأجزاء المتبقية مرتبطة ببرامج ونشاطات أخرى، أبرزها
«السوق السينمائية»،
التي لا تلقى اهتماماً نقدياً أو إعلامياً كذاك المنصبّ على
الأفلام وصنّاعها،
والمسابقات الرسمية ونتائجها، والحضور الفاعل للنجوم في حفلات استعراضية
إعلامية
فاقعة.
سبعون دولة
منذ تأسيسه، اهتمّ مهرجان «كانّ» بالعمل على جعل السينما «فناً دولياً وعالمياً»، كما قال تييري
فريمو، المدير الفني للمهرجان، الذي أضاف أن
الأمر لم يتغيّر لغاية الآن. ذلك أن هذا الاحتفال السنوي
بالسينما استقبل دائماً
منتجين كانوا يوقّعون عقود العمل في غرف الفنادق الفخمة، أو في مقاهيها
المطلّة على
البحر، أو في ملاهيها الليلية أثناء السهرات المتفرّقة التي تُقام يومياً،
والتي لا
يُمكن أن تتحرّر كلّياً من المناخ التجاري/ الاقتصادي للمهنة، لأن هذا
الجانب
التجاري للصناعة السينمائية موجودٌ في المهرجان منذ البداية،
علماً أنه منذ انتقال
إدارة المهرجان إلى القصر الجديد (قصر المهرجانات والمؤتمرات) بدءاً من
مطلع
الثمانينيات المنصرمة، بدأت السوق السينمائية، التي تأسّست رسمياً في العام
1959،
بالتطوّر: «كان الخيار استراتيجياً بشكل أساسي ونهائي، استفاد
المهرجان منه
كثيراً»، كما قال فريمو في تصريح صحافي عشية بدء الدورة الجديدة هذه.
والسوق،
المعقودة رئاستها لجيروم بايّار، باتت اليوم الركيزة الرابعة للمهرجان، بعد
النجوم
والأفلام والوسائل الإعلامية، بحسب تعليق صحافي، أضاف أن السوق
تستقبل، هذا العام،
«أكثر
من عشرة آلاف منتج من سبع وتسعين دولة مختلفة، يأتون إليها للتفاوض على
أكثر
من خمسة آلاف فيلم في طور الإنتاج أو انتهى تنفيذها، علماً أن بضع مئات
منها ستُعرض
في صالات صغيرة خاصة بها».
«السينما فن تجاري» يقول فريمو، مضيفاً أنه إلى جانب
المؤلّفين الكبار والأفلام الكبيرة المشاركة في «الاختيار الرسمي»، يُمكن
للمرء أن
ينتبه إلى مسألة أساسية: «المهنة كلّها موجودة هنا»، إذ رأى أنه «إذا كنتَ
بائعاً،
فإنك تستطيع لقاء عشرات الشارين المقبلين من عشرات الدول
يومياً»؛ علماً أن السوق
لا تخضع لقرارات لجنة اختيار ما، كما هي حال «الاختيار الرسمي» والمسابقات
المتنوّعة، باستثناء أن إدارتها ترفض «الأفلام النازية وتلك المدافعة عن
التحرّش
الجنسي بالأطفال»، كما قال أحد مسؤولي السوق عشية افتتاح
الدورة الجديدة هذه.
فالسوق اشتهرت طويلاً بفضل تخصيصها منصّات عدّة بأفلام فئة «زد» وأفلام رعب
وكوميديات سوبر تجارية، إلى جانب التنويعات الأخرى في صناعة الصورة، التي
عرفت، بعد
النجاح النقدي والاهتمام الشعبي، رواجاً تجارياً بفضل «مرورها»
في تلك السوق.
والسوق تساعد صنّاع الأفلام المشاركة في البرامج الرسمية للمهرجان على
تسويق
أعمالهم؛ ففي العام الفائت، انتظر منتجو «تشي» لستيفن سودربيرغ الأصداء
الناتجة من
عرضه في أحد البرامج الرسمية، كي يُقرّروا الدخول في السوق: «كانوا
محقّين»، كما
قال زميل اعتاد حضور المهرجان منذ أعوام طويلة، «لأن مشترين
عديدين «انقضّوا» عليه
لتوزيعه في أنحاء متفرّقة من العالم»، بعد نجاحه في عروضه الأولى في «كان».
هناك
أيضاً «فالس مع بشير» و«غومورا» لماتيو غارّوني و«جوع» لستيف ماكوين: بيعت
هذه
الأفلام بكثرة في الدورة الفائتة للمهرجان، عن طريق السوق
أيضاً: «الأفلام التي
تثير نقاشاً حولها عند مشاركتها في المسابقة، تعثر فوراً على صدى إيجابي
للغاية.
حتى الفيلم الذي أنجزه مخرج مجهول مثلاً،
إذا شارك في المسابقة، يُباع من دول عدّة،
وتُقدَّم له منحاً مختلفة بشكل سريع إذا كان ذا ميزانية صغيرة».
السفير
اللبنانية في 13
مايو 2009
عشـيـة مـهـرجـان
كــان
شـــاطــئ
الـنـجــوم
نديم جرجورة/
«كانّ»
قبل إطلاق
الدورة الثانية والستين لمهرجان «كانّ» السينمائي الدولي، مساء اليوم
الأربعاء،
بعرض فيلم التحريك الثلاثي الأبعاد «فوق» لبيت دوكتر وبوب بيترسون، بدت
حركة شاطئ
الـ«كروازيت» شبه عادية، إلى درجة أنها كادت تتغرّب عن المناخ الخاص
بالاحتفال
السينمائي السنوي الأهمّ في العالم، لولا بعض الأعمال
المتفرّقة، هنا وهناك. لكن
المشهد اختلف تماماً منذ يوم
الاثنين الفائت، على الرغم من أن الأيام السابقة له
شهدت نشاطاً خفراً، كأن العاملين على تحقيق الدورة الجديدة منه
مدركون أن الطقوس
الكاملة ستكون جاهزة في الوقت المحدّد، أي بدءاً من مساء اليوم. فالتحضيرات
استمرّت
حتى هذه اللحظة، والهدوء الخارجي اختلف تماماً عمّا يجري في الكواليس من
متابعة
دقيقة لشتّى الأمور، وفريق العمل منشغلٌ بترتيب الأوضاع كلّها،
من دون ضجّة شكلية
لا تفيد المهرجان بشيء. وإذا بدا الشاطئ الأشهر منسحباً على الرمل والأفق
الأبعد
للصورة والواقع والحياة، فإن «قصر المهرجانات والمؤتمرات» نابضٌ بحيوية
جميلة تشي
بأن احتفاءً بديعاً بواحد من أجمل ما ابتكره العقل البشري، أي
السينما، سينطلق
قريباً جداً. في حين أن شركات الإنتاج والمحطّات التلفزيونية والمؤسّسات
الإعلامية
والصحافية المختلفة لم تتوقّف، منذ أيام، عن الإعلان عن حضورها في المدينة
الفرنسية
الجنوبية، من خلال الدعايات والمنصّات واللافتات المعلّقة على
واجهات الأبنية
المطلّة على هذا الشاطئ، بينما انصرفت الفنادق الفخمة (مارتينيز، ميرامار،
ماجستيك،
كارلتون) إلى وضع اللمسات الأخيرة، بانتظار وصول الشخصيات المدعوّة، مخرجين
وممثلين
ومنتجين ونقّاداً وإعلاميين، يلتقون بعضهم مع البعض الآخر، في مناسبات
متنوّعة،
لأحد عشر يوماً، في لحظة نادرة (وإن باتت عادة سنوية لا يُمكن، للعاملين في
الشأن
السينمائي، التغاضي عنها إطلاقاً) متمثّلة بلقاءات ومشاهدات
واجتماعات وحفلات
ليلية، لا تخلو غالبيتها الساحقة من مناخ العمل، إذ تُطرح مشاريع متفرّقة،
ويتمّ
تبادل أفكار جديدة، وتُوَقَّع عقود عمل، بالإضافة إلى التمتّع بالمساحة
المفتوحة
على السهر.
لم يعد الهدوء سيّداً على الشاطئ المذكور، منذ مطلع الأسبوع الجاري
على الأقلّ. فالحركة السياحية العادية بدأت تنحسر تدريجاً أمام سطوة النجوم
المقبلين من كل حدب وصوب إلى المدينة التي عرفت شهرتها
الأساسية في القرن العشرين،
بفضل المهرجان السينمائي السنوي، الذي بلغ الثانية والستين في هذا العام.
وعلى
الرغم من أن مؤتمراً ضخماً يُقام فيها سنوياً أيضاً، خاصّاً بالعقارات،
ويستقطب
عدداً لا بأس به من العاملين في هذا الحقل؛ إلاّ أن الميزة
الجوهرية للمدينة كامنةٌ
في الأحد عشر يوماً هذه، المعقودة على إبداع الصورة وجمالها في مقاربة
العالم
والمجتمعات والحالات والتفاصيل، أو في تقديم وجه آخر للحياة.
إذاً، يُفترض
بالمدعوين جميعهم أن يصلوا إلى «كانّ» قبل مساء اليوم، للمشاركة في حفلة
الافتتاح.
يُفترض بالمهتمّين بالفن السابع، أفلاماً
وإنتاجاً ومعاينة نقدية ونقاشات متفرّقة،
أن يُكملوا استعداداتهم للبدء برحلة البحث عن الجميل والمختلف،
من خلال عروض يومية
في برامج المهرجان، كالمسابقة الرسمية التي يتنافس فيها عشرون فيلماً
جديداً على «السعفة الذهبية» وعدد من الجوائز الأخرى،
و«نصف شهر المخرجين» و«أسبوع النقّاد»
و«نظرة ما»، بالإضافة إلى «السوق السينمائية» التي تُعتَبر إحدى أهم
الواجهات
الضرورية والأساسية في حركة الإنتاج السينمائي العالمي. يُفترض بالجميع أن
يدخل
عالماً سحرياً أوجدته الصورة، وتناقلته أجيالٌ من المعنيين
بتطوير تلك اللغة
المعنية بالتعبير عن هواجس وأساليب وأفكار وحكايات وحالات.
إنها اللحظات
الأصعب، تلك التي تفصل المرء عن الموعد الرسمي لإطلاق الرحلة السحرية في
عوالم الفن
السابع ومنعطفاته وتفاصيله.
السفير
اللبنانية في 13
مايو 2009
|