وجه
المخرج الفرنسي اليوناني الأصل، كوستا غافراس انتقاداته إلى السياسة
الأوروبية في مجال الهجرة، في آخر ندوة صحفية تعقد ضمن فعاليات مهرجان
برلين السينمائي، في دورته ال 59. وتأتي هذه الانتقادات بعد عرض فيلم
المخرج الجديد “غرب عدن” ، و الذي يتناول فيه معاناة المهاجرين السريين،
وأحلامهم بأسلوب سينمائي يمزج التراجيديا بالكوميديا و الخيال. وكان غافراس
ترأس لجنة تحكيم دورة المهرجان العام الماضي، لكن هذا العام ارتأت إدارة
“البرليناله” أن يعرض “غرب عدن” خارج المسابقة الرسمية.
كوستا
غافراس، مخرج من عيار خاص
ولد
قسطنطين كوستا غافراس عام 1933 في اليونان، من أب روسي وأم يونانية، وهو
مستقر في فرنسا، و يحمل جنسيتها منذ نحو خمسين سنة. وأخرج غافراس أفلاما
مثل “آمين” الذي فاز بجائزة الدب الذهبي في برلين العام 2002 ، كما فاز
قبلها بالجائزة نفسها عن شريطه “علبة الموسيقى” في برلين أيضا العام 1990.
غادر وطنه اليونان إلى باريس، لدراسة الأدب في جامعة السوربون، وبعد أن
أنهى دراسته في الجامعة الفرنسية، تحول إلى دراسة السينما. واحتفل كوستا
غافراس بعيد ميلاده السادس والسبعين، خلال مهرجان برلين لهذا العام.
ويعد
كوستا غافراس من أشهر المخرجين في العالم، و هو معروف بثلاثية أفلامه
السياسية: “Z”
الذي أخرجه عام 1969 ، و”الاعتراف” عام 1970 ، و”حالة حصار” عام 1973.
وتحتوي سينما غافراس على قدرة هائلة على المزاوجة بين ما هو سياسي، بما هو
أسلوب سينمائي بسيط يقوم على أسلوب تقريري واضح. أفلام هذا المخرج الأولى،
تعرّضت لردود فعل متباينة. فالبعض أعجب بطبيعتها، والبعض الآخر يهاجمها
بسبب لونها السياسي، في حين يوجد فريق ينفي أنها سياسية.
ويعد
غافراس واحدا من أهم المجددين في الفن السابع، ومن رواد الموجة الحديثة، إذ
بدأ حياته الفنية كمساعد مخرج مع رائد السينما الفرنسية، المخرج كودار.
ولعبت أحداث سياسية هامة، طبعت مرحلة نهاية الستينات دورا في أفلام غافراس،
ومن بينها، تصاعد المد الثوري، واشتداد المقاومة الفيتنامية ضد الغزو
الأمريكي، وتحرك شي جيفارا لنشر الثورة في أمريكا اللاتينية ، وتعاظم حركات
التحرر في أفريقيا وآسيا . كل هذه الأحداث، أثرت آنذاك في الأدب والفن
والموسيقى والفلسفة، كما شهدت فترة نهاية الستينات، تغييرات جذريه في
المسارات الفنية والثقافية.
ويتفق
العديد من النقاد، على أن كوستا غارفاس أسس مدرسته في السينما، وسلك دروبا
إبداعية جديدة، وكسر طوق جدار السينما في هوليود، كما سلط الضوء على
القضايا الإنسانية العادلة، من فلسطين وحتى الأوروكواي، و ترك بصمات واضحة
في تاريخ السينما العالمية . غارفاس فنان مبدع ، وإنسان له رؤية مثيرة
للجدل، ومخرج جدير بالتقدير .
“غرب عدن
” أو الحلم في زمن الهجرة السرية
من يشاهد
فيلم “غرب عدن” يقترب من معاناة اسمها المهاجر السري. وكما يقول غافراس في
مختصر فيلمه بلغة بلاغية متميزة ، لكل واحد منا قصته . من ينام في محطة
المترو، و الشرطي وغيره، كلهم يحتفظون بحكاياتهم الخاصة. في الملحمة
الشعرية الأوديسة والتي وضعها هوميروس في القرن 8 قبل الميلاد، نجد
المغامرة هي بطلتنا، تحت نفس الشمس والسماء التي كانت منذ فجر الحضارة
الإنسانية. وعندما يتم الوصول بعد رحلة شاقة إلى باريس، يبدو لكل مهاجر
تائه، وكأنه قد حقق أحلامه.
فيلم
غافراس يعكس كل هذه الأحلام، و يحكي قصة عن الذي يشبهنا أو عن آبائنا و
أمهاتنا، الذين جابوا العالم، وواجهوا المحيطات، بحثا عن سقف يؤويهم .
حكاية الشاب إلياس بدون عنوان، و لا تحمل جنسية. فالمخرج أرادها أن تكون
قصة إنسانية عامة، كما عبر عن ذلك أمام الصحافيين. غافراس يقول، “إنه وجد
نفسه في الغريب إلياس الذي لا يعد غريبا”. المخرج يجد نفسه كذلك، في كل
النظرات التي تسلط على البطل في الفيلم من طرف الآخرين. إلياس قرر الهجرة
على متن مركب كبير، حالما بوطن بديل . الحلم قاده إلى المجهول، فرأى ما لا
يراه الغرباء من أمثاله. استغله الآخرون في كل شيء، حتى في مشاعره، بعد ما
قادته أقدار الهجرة إلى حضن السيدة الألمانية، فنام معها تحت إكراه الزمن
الغادر. أفصح عن حبه لهذه المرأة التي تعيش وتعمل في هامبورغ، لكنها رفضت
حب الغريب، و اكتفت بتركه يختلس بعض الأوراق النقدية، وكأنه توصل بمقابل
نومه في العسل، فإعلان الحب مرفوض في زمن الهجرة غير الشرعية. يدخل إلياس
إلى “غرب عدن” ، فيجد الزوار يستحمون عراة في البحر الذي لفظه ، ويعيشون
حياة الترف و البذخ، واللامبالاة التي وصفها غافراس بلغته الجميلة، بكونها
أفظع من القسوة.
البطل
إلياس الذي تابع طريقه الشائك، سيصطدم بعالم المفارقات، و بالرفض الذي
اتضحت ملامحه، و هو يعثر على الساحر الذي التقى به في “غرب عدن”، وطلب منه
زيارته في باريس. لكن أثناء لحظة الوصول إلى العاصمة الفرنسية، وملاقاة
الساحر، تمزقت الكثير من الأمور، وتبخرت أحلام عدة، كانت لابدة في ذاكرة
إلياس، الذي يكتفي بعصا سحرية، سلمها له من سخره للعب أدوار بهلوانية
مهينة، كذلك المشهد الذي رمى فيه الساحر بإلياس أمام الجمهور في صحن
المرحاض.
لغة
السخرية المهينة لكل مهاجر بلا أوراق، أرادها المخرج أن تكون مرادفا لوجوده
في عالم أوروبا العجيب. فالمهاجر السري يظل حسب غافراس، ضعيفا و خاضعا لكل
أنواع الاستغلال المحرمة. وقد عبر عن ذلك صاحب فيلم ” حالة حصار” في صرخته
ضد الغرب الأوروبي، الذي يقوم حاليا بطرد المهاجرين، و تفقير بلدان الجنوب،
من أجل إغناءه. غافراس وظف خلال الندوة الصحافية ضمير المتكلم في الكثير من
عباراته، حين وصف مأساة اسمها “المهاجر بلا أوراق” في أوروبا، التي صوت
برلمانها لصالح اعتقال كل مهاجر سري، لمدة تصل إلى 18 شهرا، قبل طرده إلى
بلده الأصلي. بلد الأصول لم يعلن عنه المخرج في فيلمه، إذ شاهدنا كيف رما
المهاجرون السريون بأوراق هويتهم، قبل امتطاء المركب الذي سيقلهم في رحلتهم
المجهولة. “غرب عدن” فضاء حي، يحاول رسم صورة عن الغرب الأوروبي وإلى أي
مدى، يحترم المهاجر، في عالم مليء بمشاكل لا تنتهي، على حد قول المخرج .
* محمد
نبيل صحافي و كاتب مقيم بألمانيا
موقع
"دروب" في 15
فبراير 2009
|