انطلق يوم
أمس الخميس مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الخامسة. إنه آخر
المهرجانات العربية المرصوصة واحداً وراء الآخر في الربع الأخير من العام،
والأفضل تنظيماً والأكثر حرفية بينها والأسرع خطى صوب إنجاز الوعد بتبوّؤ
المركز الكبير على الخارطة السينمائية العالمية. وهو يشمل عدداً كبيراً من
التظاهرات، أقواها وأكثرها جذباً للجمهور هي تظاهرات (ليالي عربية) و(سينما
العالم) و(مسابقة المهر للسينما العربية)، لكنه هذا العام قرر إضافة مسابقة
أخرى هي مسابقة المهر للسينما الإفريقية والآسيوية، وفي حين أن معظم أفلام
المسابقتين العربية والأفرو - آسيوية جديدة، وبقيت طي الكتمان إلى آخر
لحظة، فإن الأفلام الموزّعة بين باقي الأقسام مؤلّفة في العديد منها من
أفلام سبق أن شاهدها هذا الناقد في المهرجانات التي أمّها سابقاً.
فيما يأتي
خمسة من الأفلام التي يعرضها المهرجان في شتّى أقسامه، مع العلم أن
الاختيارات انحازت لتلك التي ستثير - على الغالب - اهتمام المشاهدين بعدما
سمعوا عنها طويلاً.
Che
يخلو فيلم
ستيفن سودربيرغ هذا من وجهة النظر مكتفياً بتقديم الموضوع والشخصية
الرئيسية فيه من دون الرغبة لا في الدفاع عنها ولا في مهاجمتها ولا في
إنجاز فيلم ذي موقف ما. نتيجة ذلك لا تسأل نفسك فقط عن جدوى الفيلم، بل عن
جدوى مدّة عرضه الطويلة. هذا الفيلم صمم وفي البال أن يضخ بعض الأرباح
تبعاً لاسمين أو ثلاثة في الفيلم: أرنستو تشي غيفارا نفسه، والممثل الذي
يقوم بتشخيصه وهو بنيثو دل تورو والمخرج سودربيرغ. هذه ليست مسألة تجارية
فقط، بل فنيّة. صحيح أن المدّة الزمنية الطويلة (نحو أربع ساعات ونصف) تمنح
المخرج قدرة على تقديم بانوراما حياة على النحو العريض وحياة تشي غيفارا
تتطلّب بالتأكيد مثل هذه البانوراما، إلا أن الصحيح أيضاً أن المرء يستطيع
أن يتحدّث أفضل عن تشي غيفارا، أو أي شخص آخر، من خلال توظيف الموضوع
توظيفاً شخصياً، ربما ذاتياً، وبالتأكيد ضمن وجهة نظر هي التي تساعد على
الانتقاء. المسألة هنا تزداد إثارة للضيق حين يبدأ الفيلم بالتنقل سريعاً
بين الأزمنة. من دون أن تكون حضّرت نفسك بورقة وقلم لتسجّل التواريخ ستجد
وضعك أشبه بوضع متابعي البينغ بونغ منتقلاً من العام 1955 في لحظة إلى
العام 1964 في لحظة أخرى أو إلى أي سنة أخرى?
هذا جانب،
فإن الحسنات تكمن في أن المخرج يعرف كيف يصوّر مشاهد صغيرة من دون أن يبدو
التمثيل فيها مسرحياً أو متقطّعاً. لدى البعض فإن وجود هذه المشاهد يفتح
السبيل على قيام الممثل الثانوي بأداء جاهز وغير تلقائي. لكن واحدة من
حسنات المخرج أنه يُدير المشاهد الصغيرة والكبيرة بفاعلية والممثلين (الكُثُر)
تحت إدارته تصيبهم معاملة متساوية. التمثيل الجيّد من بينثيو دل تورو في
دور السياسي الثوري الذي انتهت حياته اغتيالاً لا علاقة له بحقيقة أن دل
تورو قرأ دوراً لا يطلب منه البرهنة على أن المحفوظ التاريخي عن تلك
الشخصية حقيقي أو ذو أهمية هنا؛ لذلك يبدو غيفارا هنا كما لو كان مجرّد
قائد عسكري وليس محرّكاً فعلياً للثورة اللاتينية. قائد يشغل نفسه بعمليات
التنظيم والإشراف على معاقبة المقاتلين الذين يخرجون عن النظام والقوانين
الموضوعة. عن حق طبعاً فلا أحد يوافق أن يحارب الثائر باسم مناهضة
الدكتاتورية ثم يغتصب فتاة قروية تحت اليافطة ذاتها، لكن هذا كله أراه يدخل
تحت هامش من تعبئة الوقت وليس استغلاله لخلق عمل مهم.
بدي شوف
يختلف
فيلم الثنائي المتزوّج جوانا وخليل عن فيلميهما السابقين (البيت الزهر)
و(يوم كامل) في أكثر من نحو. في حين أن الفيلمين السابقين روائيان بالكامل،
فإن هذا الفيلم هو تسجيلي النبرة والشكل ولو أن بعض التأليف خلال التصوير
قائم أيضاً. وفي حين أن المسائل المطروحة في الفيلمين السابقين، والجيّدين،
تعاملت مباشرة مع الشخصيات اللبنانية، فإن التعامل هنا مع شخصية غير عربية
يتم تصويرها وهي تقوم بجولة على ظهر الواقع المستحدث. لكن الجامع مهم
أيضاً: كل من هذه الأفلام وطني بمعنى أنه يبحث في الهوية اللبنانية. الأول
خلال الحرب الأهلية، الثاني بعد الحرب الأهلية وتبع لها، والثالث إثر
الاعتداء الإسرائيلي على لبنان قبل أكثر من عام. هنا نرى الممثلة الفرنسية
كاثرين دينوف في زيارة للبنان لحضور حفلة تبدو خيرية لصالح المتضررين من
الاعتداء الإسرائيلي خلال حرب 2006 وهي تقرر أنها تريد أن ترى بأم عينيها
ما جاءت تدعو إليه. بناءاً على ذلك تركب سيّارة الممثل اللبناني ربيع مروّة
بينما يركب حارسها الشخصي (ومن دون أي سبب سوى رغبة الفيلم حصر الممثلين
ربيع وكاثرين في صورة واحدة من دون الاضطرار للتعامل مع حضور ثالث) سيارة
المخرجين جوانا وخليل، وينطلق الجميع في رحلة من بيروت جنوباً إلى الحدود
مع الدولة الجنوبية المحاذية. إنها رحلة تمر على أنقاض أحياء ما زالت
مهدّمة منذ زمن الحرب الأهلية إلى الضاحية التي تهدّمت في الحرب الأخيرة
إلى الطرق التي لا تزال مزروعة بالألغام إلى دور الأمم المتحدة وجنودها
وإلى اختراق الطائرات الإسرائيلية الأجواء اللبنانية وفي كل ذلك الكاميرا
على وجه كاثرين القلقة أحياناً (ولأسباب مفهومة) على نفسها وسلامتها لكنها
تستقبل ما تراه في هضم للحقيقة. المشكلة هي أننا لا نعرف ما تفكّر به. ليس
هناك ضرورة لمشهد مقابلة معها تتحدّث فيه عن رأيها، لكن هناك ضرورة لأن
يخرج المشاهد وقد اكتسب معرفة بموقفها. الحوار بينها وبين ربيع هامشي جدّاً
بالمقارنة مع المهمّة العسيرة التي ستقوم بها. ربيع يشرح لها بعض الحيثيات
لكن هذا لا يتطلّب وجود كاثرين دينوف، ولا الرحلة بحد ذاتها، بل يستطيع أي
منا فعل ذلك على مقهى في شارع الحمرا في بيروت أو الشانزليزيه في باريس؛
لذا، وعلى الرغم من الإعجاب بما حاول المخرجان إنجازه، إلا أن ما تم إنجازه
فعلاً هو أقل مما كان بالإمكان تحقيقه والوصول إليه.
Hunger
يستيقظ كل
صباح يوم حالك المدعو جيري كامبل (ليام مكماهون) ويخرج من بيته وأوّل ما
يفعله هو النظر إلى الشارع الذي يمتد ميّتاً أمامه. يعود إلى سيارته
المتوقّفة في مرآب البيت ويفحصها قبل الصعود إليها فلربما كانت ملغومة.
تنظر إليه زوجته من وراء النافذة المغلقة. يصعد السيّارة ويقودها إلى حيث
يعمل. إنه شرطي يعمل في سجن يحتوي في أحد أقسامه على سجناء من (جيش أيرلندا
الجمهورية) ونتعرّف على اثنين منهم، أحدهما اسمه دايفي (برايان ميليغَن)
وصل للتو، وتم وضعه في زنزانة ينزل فيها سجين آخر? نحو ثلاثة أرباع الساعة
من الفيلم تدور حول تعذيب المسجونين وما يعانونه من ضرب وعنف يماثل لكنه لا
يبلغ المدى الذي وصل إليه التعذيب في أبو غريب? مهمّة جيري ضرب السجناء
والسجناء لا يرتعدون خوفاً بل يضربون إذا ما استطاعوا. يرفسون ويقاومون وفي
أقل الاحتمالات يبصقون؛ ما يزيد من غضب جيري فيضرب بشدّة حتى تحمر عظام
أصابعه وتتورّم! تستطيع رغم ذلك أن تدرك أن جيري لا يحب عمله هذا. ذات يوم
يتوجّه إلى زيارة أمّه في مأوى للعجزة يحمل لها زهوراً تحبّها، لكنها غائبة
عن الإدراك، تنظر أمامها من دون أن يبدو على محياها أنها تسمعه أو تراه أو
تعلم بوجوده. يجلس قريباً منها منحنياً عليها. في الوقت ذاته يدخل رجل يسحب
مسدّسه ويطلق النار على جيري. لقد نفّذت المقاومة الأيرلندية وعدها بقتله
وما كان جيري يخشاه حدث. يسقط قتيلاً. بالتدريج ثم على نحو ثابت ننتقل إلى
السجين بوبي ساندس. إنه شخصية حقيقية (يقوم بتمثيله مايكل فاسبندر) قرر
الإضراب عن الطعام؛ لأن بريطانيا لا تريد الموافقة على اعتبار سجيني الجيش
الجمهوري سجينين سياسيين، ونسمع رفض مسز تاتشر القاطع وهي تقول (بينما
الكاميرا تسبح فوق مشهد لغسل الماء الآسن) إن الجيش الأيرلندي يحاول
استخدام أبسط وسائل المشاعر الإنسانية وهي الشفقة وذلك عن طريق إضرابه!
أمامنا يضعف الممثل ويصبح جلدة على عظمة في تفانٍ يؤكد إيمان صانعي الفيلم
أو على الأقل رغبتهم في إجادة التعبير عن بذلهم في تلك المرحلة من تاريخ
أيرلندا (تقع الأحداث سنة 1981) في تقديم عمل واقعي وسياسي. ستيف مكوين،
طبعاً ليس الممثل الأمريكي الراحل، فنان تشكيلي في الحقيقة يعمد إلى فيلمه
الأول وما يصب عليه اهتمامه الأول هو أن يكون في الوقت ذاته تفصيلياً،
واقعياً، حقيقياً وصادماً. وهناك الكثير مما يصدم في الفيلم الذي يختار له
المخرج إيقاعاً بطيئاً لكنه ليس مضجراً على الإطلاق. بعض الفوضى في ترتيب
الأحداث والسرد الذي يتّجه في النصف الآخر وجهة تهمل الشخصيات السابقة يشي
بأن المخرج ليس من يسرد، يستطيع بناء دراما حكواتية. الفيلم يضعف في دقائقه
الأخيرة وينتهي حاصراً نفسه بمشاهد طويلة لا تحتوي ذات ما حوته المشاهد
السابقة من قدرات تعبيرية.
ملح هذا البحر
في فيلمها
الطويل الأول ترصد المخرجة الفلسطينية ماري آن جاسر حكاية فتاة فلسطينية
وُلدت في بروكلين في نيويورك من أب وأم فلسطينيين وُلدا في فلسطين ونزحا في
نكبة العام 1948 إلى لبنان صغيرين مع والديهما اللذين ولدا في فلسطين.
التاريخ الشاسع لفلسطين يتم تلخيصه في بضعة مشاهد حواراً وصوراً. موقف
الفيلم من السُلطة الإسرائيلية يبرز من المشاهد الأولى وهو مستمد من الموقف
الذي تبنيه المخرجة بنجاح من تلك السُلطة ومن مفهوم الوطن ومعنى افتقاده
وكيف أحيلت أملاك عربية إلى غزاة قدموا من وراء البحر أو تم تدميرها كما لو
أنها لم تكن. ثريا جاءت إلى فلسطين لمهمّة معرفة جذورها ولاسترداد ما يقارب
الـ360 جنيهاً إسترلينياً كانت في ودعة البنك الفلسطيني- البريطاني حين
غادر والدها فلسطين قبل ستين سنة! المصرف، يقول لها مديره البريطاني، لا
يستطيع صرف المبلغ لطول المدّة التي مضت عليه، أوّلاً، ولتوقّفه عن العمل
خلال سنة النكبة حيث خسر كل سجلاته مصوّراً الوضع على أنه وضع جديد لا يحق
لها مطالبته بأموال أودعت فيه حين كانت هناك دولة فلسطينية. في خلال تلك
الأيام الأولى من زيارتها لرام الله تتعرّف على الشاب عماد (صالح بكري)
الذي يعمل جرسوناً في مطعم من ذلك الذي يستقبل زبائن فلسطينيين فوق العادة:
مديرين ورجال أعمال و - نسبياً - رجالاً أثرياء. وتلتقي بعماد مرّة أخرى
خلال بحثها عن عمل وهو يعرّفها على والدته التي تخرج من البيت، في مشهد ليس
فقط قابلاً للتصديق بل يتكلّم أطناناً عن العادات العربية وعن التصرّف
السلوكي للأم حين يخبرها ابنها بأن معه فتاة في السيارة. تخرج لتستقبلها
كما لو كانت ابنتها الغائبة أو كما لو أن ابنها سيعقد قرانه عليها من دون
ريب. عماد ممنوع عليه مغادرة رام الله (خلص، هذه هي الحدود بالنسبة لي)
يقول وهو يخرج من سيارته الكالحة إلى ثريا عند حدود البلدة. يقفان عند تلّة
تشرف على المستعمرات والمدن الإسرائيلية الممتدة من ذلك المكان عبر الأفق
إلى حيث البحر (هناك)، يشير بأصبعه كما لو كان يرى ما يتحدّث عنه (البحر،
لم أزره منذ سبع عشرة سنة). هناك حدود لقدرات المخرجة على صعيد تشكيل
الفيلم فنيّاً. إنه بحاجة إلى صياغة سينمائية حقيقية وكاملة عوض صياغته
الحالية التي هي أقرب إلى المقال النثري، لكنه لا يحوي ضعفاً ظاهراً أو
ركاكة في التنفيذ. يتقصّد ما يقول ويجد الشكل الفني المناسب له.
Blindness
أفضل ما
في فيلم المخرج البرازيلي فرناندو مايريليس مقدّمة الفيلم: الضوءان الأحمر
والأخضر يتناوبان عند شارة طريق مزدحمة بالسيارات. في مطلع الأمر لا تعرف
حقيقة هذه الأضواء المتكررة، لكن سريعاً ما تلحظ تقاطعها مع حركة السير.
أخضر. سيارات. أحمر. سيارات. أخضر. سيارات وهكذا في مونتاج لا تعرف ما
تستوحي منه? هنا أمسك المخرج مايريليس بنجاح لا على قلب إيقاع المشاهد
الأولى فقط، بل أساساً على وضع مداهم لا تعرف ماذا تستخلص منه، وهذه اللا
معرفة تستمر لما بعد الانتقال إلى سيارة عند الإشارة، لم تعد تستطيع
التقدّم. السيارات التي وراءها تطلق أبواقها والسائقون يشتمون، لكن قائد
السيارة المتوقّفة لديه عذر مهم. هذا السائق ذو الأصل الياباني في هذه
المدينة الغربية التي لا يتم تحديد اسمها، ولو أنها تشبه تورنتو من حيث
تعدد العناصر البشرية فيها، فَقَد فجأة قدرته على المشاهدة. لم يعد يرى
شيئاً سوى لون أبيض. يصرخ ولا أحد يسمعه إلى أن يتقدّم رجل ليساعده.
ينطلقان، لكن هذا الشخص لص. يترك السائق على ناصية الطريق وينطلق بالسيارة.
السائق يصرخ خائفاً وبطريقة ما يصل لبيته. زوجته تأخذه عند طبيب عيون (مارك
روفالو) الذي يفحصه، لكنه لا يجد ما هو خطأ. في صباح اليوم التالي الطبيب
نفسه أصبح أعمى، كذلك لص السيارة. إنه فيروس ينتشر والحكومة تقرر نقل
المصابين إلى مستشفى وعزلهم (وربما لأكثر من مستشفى لكننا نبقى مع الشخصيات
المذكورة وفوقها عشرات أخرى). بين الداخلين إلى هذا المستشفى زوجة الطبيب (جوليان
مور) التي تطوّعت للدخول فهي الوحيدة التي لم تخسر بصرها. كل هذا في 20
دقيقة، وهي أفضل دقائق الفيلم؛ إذ تضعنا أمام حالة تنطلق من فكرة (ماذا لو
خسر أبناء المدينة بصرهم باستثناء امرأة؟)، ما بعدها هو أمر آخر. الفيلم
مقتبس عن رواية الكاتب جوزي ساراماغو الحائر جائزة نوبل، وفي مطلعها طرح
لعبارة ترد في رواية الكاتب: (لا أعتقد أننا فقدنا البصر. أعتقد أننا
دائماً كنّاً عمياً. عمياً يبصرون. ناس يرون، لكنهم لا يشاهدون)? كلام موحٍ
لكنه يرد هنا كتحصيل حاصل بعدما أخفق الفيلم مباشرة بعد إرساء وضع قصّته
وشخصياته، في إقناع المشاهدين لا بإمكانية حدوث ذلك، لأن الفكرة على أي حال
خيالية، بل بإمكانية حدوثها على النحو الذي نراها تحدث - وهذا أمر مختلف.
الجزيرة السعودية في 12
ديسمبر 2008
|