منذ ليلة
الافتتاح بدا واضحاً ان السياسة تهجم بقوة على فعاليات مهرجان دبي
السينمائي الدولي في دورته الخامسة.
ولا عجب
في الأمر، خصوصاً ان فيلم الافتتاح هو «دبليو» لأوليفر ستون الذي يعتبر
أشبه بنشيد وداع للرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي أثار من السجالات في
تاريخ أميركا وتاريخ العالم ما لم يثره أي رئيس اميركي آخر. طبعاً الفيلم
يدخل في عمق هذا السجال، ليس فقط بسبب موضوعه المتمحور من حول بوش (دبليو)،
بل بسبب شخصية مخرجه، أوليفر ستون، الذي لا يقل عن بوش إثارة للسجال. من
هنا، في حضور الفيلم وفي حضور صاحبه وفي حضور فكرة ان أسابيع قليلة تفصل
العالم عن اللحظة التي يبدأ فيها نجم بوش بالانحسار، كان من الواضح ان
مهرجان دبي خبط عالياً، محدداً لنفسه وللعروض السينمائية وظيفة سياسية
عالية. بعد هذا، هل يهم كثيراً ان يكون الافتتاح بفيلم سبق ان عرض وأشبع
عرضاً؟ في الحقيقة ان مهرجان دبي، إذ يأتي في نهاية العام، وكخاتمة لسلسلة
طويلة عريضة من المهرجانات، كان عليه ان يكتفي بعرض ما سبق مشاهدته، في شكل
عام، طوال الموسم الفائت، بدءاً من مهرجاني «برلين» و «كان» وفي شتى مواسم
العروض التجارية، على ان يعرف بعد كل شيء كيف يقدم عروضه معاً، نافخاً فيها
روحاً جماعية لعل فيها إمكاناً حقيقي لإعطاء هذا المهرجان هوية، كان كثر
يعتبرون غيابها مأخذاً عليه. هذه الهوية غير معلنة حتى الآن... ولكن يمكن
استخلاصها من عروض مزدوجة البعد: إحداها تقدم خلاصة لما سبق ان عرض وفاز او
اخفق في كبريات المهرجانات السابقة، والثانية يغلب عليها طابع الاهتمام
بالقضايا التي تشغل العالم.
منذ
البداية إذاً، تظهر على شاشة «دبي» القضايا الكبرى، من الإرهاب والحروب
الناتجة منه عبر «دبليو»، الى القضية الفلسطينية، الى قضايا البيئة، الى
العولمة، الى الدويلات التي تحل محل الدولة، الى الهجرة، الى الحروب
المتنقلة، الى البحث المضني عن السعادة (غالباً من طريق الرقص والحب)، الى
تفكك العائلة والتناحرات الحضارية.
طبعاً لا
يمكن هنا إحصاء كل القضايا الجدية والمعاصرة التي يعكسها مجموع الأفلام
المعروضة في دبي، خلال ثمانية أيام (بدءاً من أمس وحتى الخميس المقبل). من
هنا سيكون الأفضل رسم خريطة إجمالية لفاعليات مهرجان يزداد حجم طموحه وبعده
الواقعي بمقدار ما تتقدم السن به (خمس سنوات حتى الآن وضعته على خريطة
المهرجانات العالمية وإن قللت من طابعه الاحتفالي في شكل ملحوظ هذا العام
لمصلحة طابع سينمائي حقيقي).
تحف من
«كان»
واللافت
ان عدد الأفلام المشاركة هذا العام يزيد بمقدار الضعف عما كان الأمر عليه
في العام الفائت. وكذلك حال التظاهرات، لا سيما منها تظاهرة العروض
الأساسية التي تضم افلاماً، كانت غالبيتها فازت بجوائز في مهرجانات أساسية
سابقة، مثل «3 قرود» للتركي نوري بيلج سيلان و «غومورا» المتحدث عن المافيا
في نابولي، و «ال ديفو» الإيطالي عن حياة وسقوط جوليو اندريوتي، و «الجوع»
للانكليزي ستيف ماكوين، و «العمى» للبرازيلي ميرييّس، عن رواية ساراماغو
(كان فيلم الافتتاح في دورة «كان» الأخيرة)، ناهيك بتحفة ستيفن سودربرغ
الأخيرة «تشي» عن حياة ارنستو غيفارا... وهذه الأفلام كلها كانت ابرز ما
عرض خلال عام 2008، ومن الواضح ان عرضها خلال هذا المهرجان يعطيها نكهة
جديدة، خصوصاً انها في غالبيتها تنضوي تحت خانة افلام القضية، من دون ان
تفتقر الى البعد السينمائي.
لكن هذه
الأفلام الأساسية ليست كل شيء. فهناك أيضاً احتفال ضخم بالسينما الهندية
(من علاماته الأساسية احدث أفلام ديبا مهتا، المخرجة المشاكسة التي سبق ان
أقامت الدنيا ولم تقعدها بثلاثية صارت اليوم من كلاسيكيات السينما
العالمية). ومن الاحتفالات ايضاً، احتفال بسينما الأطفال يضم، كما تقول
ميرنا معكرون، منسقة التظاهرة خمسة افلام «انتقيناها من بين 120 فيلماً أتت
من كل أنحاء العالم». وهذه التظاهرة هي غير تظاهرة سينما التحريك التي تشغل
مكانة أساسية في هذه الدورة، وتضم بعض اجمل واقوى ما حقق هذا العام، في
سياق هذا الفن الصاعد بقوة، من الكوري «حكاية مستر صوري» الى الأميركي
«سيتا تغني البلوز» مروراً بالياباني «الزاحفون من السماء»...
وكما هي
الحال بالنسبة الى الهند، تحظى إيطاليا بتكريم خاص خلال هذه الدورة، إذ
تقدم تظاهرة «تحت الضوء» مجموعة من أحدث الإنتاجات الآتية من البلد الذي
كان ضوء سينماه قد خبا بعض الشيء، بعدما كان واحداً من اكبر منتجي الأفلام
السينمائية المهمة طوال اكثر من نصف قرن. وهذه التظاهرة تضم، إضافة الى
«غومورا» لماتيو غاروني (عن كتاب وضع مؤلفه منذ شهور في دائرة الخطر بفعل
تهديدات عصابات المافيا النابوليتانية التي يفضح سيطرتها على المدينة)
أفلاماً لجيانيي دي جورجيو وفرانشيسكو مونزي، إضافة الى فيلم «بارادا» وهو
الأول للمخرج الشاب ماركو بونتيكورفو، وبه ستفتتح هذه التظاهرة...
كل هذه
الأفلام وسواها تقدم هنا في دبي تحت شعار السعي لبناء جسور ثقافية، وهو على
أي حال اسم تظاهرة خاصة، تأتي بأفلام من إسبانيا وإيطاليا والأرجنتين
ونيوزيلندا وفلسطين وسواها، لتتقاطع مع تظاهرة اخرى لا تقل عنها احتفالاً
بالتواصل بين الشعوب والقارات، هي تظاهرة «سينما آسيا - أفريقيا» التي تقدم
صورة ما عن أوضاع هاتين القارتين ونظرة بعض أبنائهما الى العالم وأحواله،
من نظرة التركي سيلان الى نظرة المخرجة الألمانية دوروتي وينير الى صناعة
أفلام الفيديو المزدهرة في نيجيريا من خلال فيلم «مهمة سلام»، مروراً بفيلم
«المطارد» الذي يتحدث عن مشكلة الرقيق الأبيض المتفاقمة حالياً في أنحاء من
العالم، وصولاً الى «طوكيو سوناتا» وتحفة مجيد مجيدي الجديدة «أغنية
الطيور». هذا الفيلم الإنساني والشاعري الآتي من إيران، سيقارن بنظيره
الآتي من افغانستان «طفل كابولي» لبارماك أكرم، وكذلك بأفلام من بنغلادش
وإيران ايضاً (عن «ثلاث نساء» صورتهن كاميرا المخرجة منيجة حكمت منتميات
الى ثلاثة أجيال...).
فأين
العرب من هذا كله؟
عرب لليال
ولجائزة المهر
الأفلام
العربية حاضرة ايضاً، وبوفرة. خصوصاً في برنامجين متقاطعين، أولهما «ليال
عربية»، وثانيهما «جائزة المهر للسينما العربية» (التي أضيفت اليها هذا
العام مهر آخر للسينمات الآسيوية والأفريقية القصيرة).
ويهدف
برنامج «ليال عربية» الذي تشرف عليه انطونيا كارفر «الى عرض أحلام وتصورات
وأفكار وإبداعات مخرجين من الوطن العربي أو مخرجين عرب يعيشون في العالم».
وتفتتح هذه التظاهرة بالفيلم الفلسطيني «المرّ والرمان» لنجوى نجار في عرض
عالمي أول. وفي التظاهرة ذاتها «قنديشا» المغربي الذي سبق ان شوهد في
الدورة الأخيرة لمهرجان «مراكش»، إذ أثار عرضه سجالات حادة. ومن لبنان يأتي
فيلم «نيلوفر» لسابين الجميل، عن ابنة الثانية عشرة التي تحلم بالدراسة في
قرية بعيدة، وهذه الطفلة ستجد معادلتها في طفلة مصرية من عمرها تقريباً، هي
بدورها شخصية محورية في فيلم «عين شمس» لابراهيم بطوط. ومن لبنان يأتي
أيضاً العمل الطويل الأول لهاني طمبا «ميلودراما حبيبي». ومن السينما
العربية ايضاً فيلم «خمسة» لكريم الدريدي و «طفولة محرمة» عن المقاومة
والمصائر الفلسطينية، و «الطريق الى مكة» عن الكتاب الأشهر لمحمد أسد،
اليهودي النمسوي الذي اعتنق الإسلام في ثلاثينات القرن العشرين وصار من
اكبر المدافعين عنه.
ولا تقف
العروض العربية عند هذا الحدّ، إنما ستتكفل تظاهرة «جائزة المهر العربي»
طوال ايام المهرجان بإثارة السجال والمناقشات، خصوصاً انها تقدم تحت إشراف
مستشار البرنامج العربي عرفان رشيد، 12 من أبرز النتاجات العربية للعام
الذي ينقضي من «جنينة الأسماك» ليسري نصرالله الى «فرانسيز» للمغربية سعاد
البوحاتي و «المعقل الأخير» للجزائري رباح زعميش، و «هل تتذكر عادل؟»
للمغربي محمد زين الدين و «مسخرة» للجزائري لياس سالم، وصولاً الى «ايام
الضجر» للسوري عبداللطيف عبدالحميد، و «ملح هذا البحر» للفلسطينية آن ماري
جاسر و «بدي شوف» للبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج، و «فجر العالم»
للعراقي عباس فاضل... اما الفيلم الذي يبدو انه منتظر اكثر من غيره فهو
«مصطفى بن بولعيد» للمخرج المخضرم احمد راشدي الذي لا ينافسه في مكانته إلا
«ثلاثون» للتونسي فاضل الجزيري. ولعل القاسم المشترك بين هذين الفيلمين، هو
ملحميتهما وغوصهما في تاريخ بلديهما، بكاميرا مخرجين يعتبر أولهما (راشدي)
من مؤسسي السينما الجزائرية، وثانيهما (جزايري) احد ابرز مسرحيي تونس،
وواحداً من الساعين الى ربط الفنون بعضها ببعض، مع ربط التاريخ وحركته
الملحمية.
كل هذا
إذاً، خلال ثمانية أيام. فما الذي سيمكن المهتم ان يشاهد خلال هذا الوقت
المضغوط؟ وهل سيتاح له ان يخرج الى الهواء الطلق في استراحة ما، من دون ان
تتلقفه، هناك في الخارج عروض تقدم على مسرح مدينة دبي للإعلام يومي 16 و17
من هذا الشهر؟ عروض أثبتت بحسب المدير الفني للمهرجان الناقد مسعود امرالله
«شعبيتها في العام الماضي، لذلك كان لا بد لنا من تكرارها هذا العام». وهي
تتعلق بفيلمين فقط، هما الهولندي المغربي المشترك «حرارة» والياباني
التحريكي «الزاحفون من السماء» الذي يستخدم تقنية الثلاثة أبعاد ليروي
حكاية حب متمردة.
«أصوات
خليجية» تعلو
بعد
«أفلام من الإمارات» و «أفلام من الخليج»، التظاهرتين المتعاقبتين اللتين
لم يعد لهما مكان في مهرجان دبي، لا يبتعد المهرجان هذه الدورة عن
اهتماماته الخليجية، إذ يخصص تظاهرة جديدة تراهن على مستقبل السينما في
بلدان الخليج بعنوان «أصوات خليجية».
ويأتي هذا
البرنامج، بحسب بيان المهرجان، «ليضيف بُعداً جديداً على الأفلام
الإماراتية ومجالاً للأفلام الخليجية التي بدأت تحذو التجربة الإماراتية
السابقة في إنتاج الأفلام القصيرة، والتي لطالما حرص ضيوف المهرجان على
متابعتها».
وتضم هذه
الأعمال أفلاماً وثائقية وقصيرة لمواهب سينمائية من الإمارات والعراق وقطر
والكويت وسلطنة عُمان والسعودية.
وحول هذا
البرنامج قال المدير الفني لمهرجان دبي السينمائي الدولي مسعود أمرالله:
«تأتي مبادرة «أصوات خليجية» لتجسد استراتيجية مهرجان دبي السينمائي الدولي
الهادفة إلى جعل الحدث منصة عالمية تتيح للمجتمع الدولي التعرف الى حضارتنا
الغنية، من خلال مشاهدة أعمال خليجية متميزة. ويشكّل البرنامج أيضاً فرصة
لمخرجينا الخليجيين لعرض أعمالهم أمام نخبة من المتخصصين الذين يقدرون الفن
ويشجعون إنتاج الأفلام في المنطقة. لذا رأينا أهمية توسيع البرنامج ليشمل
الأعمال السينمائية من المنطقة، بهدف توفير إطلالة أكثر شمولاً على السينما
الخليجية».
وتتصدر
الإمارات قائمة الدول المشاركة بخمسة أفلام، منها «مطرقة ومسامير» لحمد
العور، و «بنت النوخذة» لخالد المحمود و «الفزعة» لسعيد الظاهري.
ومن
المشاركات الخليجية الأخرى في البرنامج فيلم «الواقعية أفضل» لداوود وياسر
الكيومي من عُمان، و «تناقضات» للمخرج الكويتي مقداد الكوت، و «مطر» للمخرج
السعودي عبدالله آل عيّاف و «إرهاب - سياحة» للقطري خالد المحمود، و «تقويم
شخصي» للمخرج العراقي بشير الماجد.
ويكرّم
المهرجان ثلاث مواهب إماراتية سينمائية تقديراً لما يقدمونه من إسهامات في
السينما الإماراتية. ويقدم ثلاث جوائز، هي جائزة أفضل موهبة إماراتية،
وجائزة أفضل مخرج إماراتي وجائزة أفضل مخرجة إماراتية.
الحياة اللندنية في 12
ديسمبر 2008
|