هي فترة
حساسة من التاريخ العربي، والسوري والمصري بخاصة، تلك التي يعالجها فيلم
أيام الضجر، من تأليف وإخراج عبد اللطيف عبد الحميد. وبعيداً عن
الأيديولوجيا الفجة، وعن الشعارات الجوفاء، وعميقًا في الروح الإنسانية،
تلك الروح التي شظتها السياسات، وأكلتها الجراح، هي أيام ضجر، تحاول
الطفولة أن تمزق معالمها، تلك الطفولة المسروقة، ربما من لغم، أو من موت
قبل أن ترى الحياة، تلك الطفولة التي يعسكر فيها الخوف والملل في آن، حفر
عبد اللطيف عبد الحميد مقولاته.
يمتد
الفضاء السينمائي من الجولان، إلى الساحل. فنحن أمام عائلة تعيش على الجبهة
السورية، لأن الأب مساعد في الجيش إبان الوحدة المصرية السورية عام 1958 ،
ومن خلال هذه العائلة نطل على تفاصيل الحياة في أبعادها الإنسانية،
والاقتصادية، والسياسية.
الأم التي
تحلم بولادة ابنة، بعد أن رزقت من زوجها المساعد على الجبهة بأبناء أربعة.
هذا المساعد الذي يضطر لترك عائلته، نتيجة الاستنفار في الجيش، إبان نزول
الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط، خلال احتفالات سورية ومصر
بالوحدة. فرحة الأم لا تكتمل بحملها، والأولاد الذين كانوا يقتلون مللهم،
بتقليد الجيش، وحفر الخنادق، يضطرون للرحيل عن الجبهة إلى اللاذقية، بأمر
من والدهم الذي خشي عليهم من خطر حرب قادمة مع الأسطول.
في قرية
نائية في اللاذقية، سرعان ما يسكن الأبناء الأربعة الملل، وتحتار الأم
والخال بأمر قتل الملل، وربما صاحب الملل شوق لأب غائب لا يعرفون مصيره، أو
هو الشوق لملاعب طفولة رغم فقرها، إلا أنها شكلت لهم عوالم يستطيعون من
خلالها أن يملؤوا فراغهم.
ولعل عبد
اللطيف عبد الحميد، حين قرأ هذه الفترة، أراد أن يمد الجسور إلى الراهن
الذي يعد كركتر مسخ عن الزمن الغابر، فمن خلال نشرة أخبار يذيعها المذياع
الذي ربحه ابنه الأكبر في سباق الجري، نعيش أخبار الراهن، فالمانشيتات هي
المانشيتات، والخلافات هي الخلافات، طبعاً أقصد العربية.
وعبد
اللطيف ومن خلال رصد حياة هذه الأسرة، يرفع المعاناة من أسس الفرد إلى أسس
العام، الإنسان العربي بالمطلق. حيث الألغام في كل خطوة تهدد بانفجار ما.
طبعاً لا
تكتمل فرحة الأم بحملها، بل تجهض ابنتها، التي ربما هي رمز العطاء والحياة،
وكأن بالمخرج يقول لنا: ما دمنا رهائن الضجر، وخارج دائرة الفعل، سيكون
مصيرنا مصير مضغة قبل اكتمالها، مآلها التراب.
هي جراح
عميقة فتقها عبد اللطيف واحداً تلو الآخر، تركها تنزف مثل دماء الأم التي
سالت على ساقيها.
ولعل
ملعب طفولة هو دبابة خربة جوار الدار، خير دليل على قتل روح الطفولة الحقة،
وسرقتها غفلة من أيدي الأطفال. فهل من وجع يفوق وجع سرقة الأعمار على غفلة
منا؟
ليست
الحكاية وحدها هي وحدها ما جعل من الفيلم حالة ترتقي بإحساسنا ما بين وجع
وحلم، بل هناك عين دقيقة، قادرة على التقاط تفاصيل زادت من جماليات الفيلم،
عبر نقلها إلى عين الكاميرا، فقد احتفى عبد اللطيف بالمكان، وأثثه بجماليات
ما كنا سنتوقف عندها في حياتنا اليومية لو مررنا بجانبها، ودون تكلف، دون
تزويق نقلنا عبد اللطيف إلى عوالم المكان، بكل فقره على الجبهة، وبكل خضرته
على الساحل، وبكل رهبته على أرض احتلها عدو.
هذه العين
جعلتنا أمام لغة سينمائية عالية سواء على صعيد الصورة، أو على صعيد الأداء.
فعبد اللطيف الذي اعتدنا على البساطة في أفلامه: نسيم الروح، ما يطلبه
المستمعون، رسائل شفهية. نقل بساطته إلى أداء ممثليه في الفيلم، فلم نكن
أمام أطفال يمثلون، بل أمام أطفال يعيشون شخصياتهم، كذلك هو الحال بالنسبة
لأحمد الأحمد الذي أدى دور الأب مصطفى، والذي تألق في أدائه، وربما العين
الدربة لمخرج متمرس، هي ما جعل من شخصيات الفيلم، نحسهم في ظهرانينا.
أما نشيد
الله وأكبر فوق كيد المعتدي، الذي كان أول غنائه إبان حرب السويس عام 1956
، فقد تحول في الفيلم إلى حالة جوفاء، فرغت من مضمونها، وشكلت لازمة في
الفيلم، مؤسسة لخط كوميدي أسود، تضافر مع أداء الشخصيات والصورة.
وربما
نهاية الفيلم التي اختصرت زمننا الأعمى، عبر انفجار لغم في وجه مصطفى،
أفقده بصره ويده، ربما هذه النهاية، مع الرقص على الجرح صحبة موسيقا أغنية
" بردا برداني بردا" قد كثفت راهننا، حيث الصقيع يمتد من أقصى أرواحنا التي
لم تنتقل بعد إلى برزخها إلى أقصى ماضيا المزدحم بأرواح تائهة بين دبابة
ولغم ومضغة، وخندق خلفناه هناك، تحت غبار الزمن، ربما هي صرخة من عبد
اللطيف، لعنقاء تظهر من ركام الزمن، ومن ركام الضجر.
موقع "إيلاف" في 11
نوفمبر 2008
|