من النظرة
الأولي «لقائمة» مسلسلات رمضان الحالي تبدو أعمال السيرة الذاتية مغرية
وقادرة علي جذبنا إلي متابعتها، خاصة مع شخصيات من وزن «جمال عبدالناصر»
و«أسمهان».. ولا يستغرب أحد ذلك، فأهمية أي شخصية في عالم الدراما
التليفزيونة تقاس بما تحتويه سيرتها من عناصر للصراع والتحولات والتأثر
والتأثير بما حولها.. وشخصية «جمال عبدالناصر» كبطل لمسلسل تليفزيوني طويل
هي شخصية رجل أصبح زعيما أسطوريا، ورئيسا تعلقت به آمال ملايين العرب
كنموذج لزعيم شعبي خرج من صفوف الناس العاديين وليس من القصور الملكية أو
المدنية..
وكصاحب
مشروع وطني وقومي طموح للتحرر والنهضة.. أما «أسمهان» بطلة المسلسل الثاني
من مسلسلات السيرة الذاتية، والذي يتقاسم مع المسلسل الأول نسبة مشاهدة
عالية يفتقدها مسلسل ثالث من هذا النوع عن حياة «علي مبارك» أحد رجال
النهضة المرموقين في مصر.. أسمهان مغنية رائعة الصوت انفجر تألقها كالقنبلة
ليؤثر في محيط عريض حولها من مصر إلي كل مكان ناطق بالعربية في دوائر ظلت
تتسع بفضل صوتها وصورتها كامرأة جميلة وممثلة رائعة، وأيضا بفضل حياتها
المثيرة المليئة بكل المفارقات.. لا توجد مقارنة بين عبدالناصر وأسمهان سوي
حياة كل منهما المليئة بما يصلح لدراما تليفزيونية ممتدة، وعلاقة أخري هي
كونهما من الشخصيات العامة المؤثرة علي الآخرين، مع فارق ولون التأثير إن
صعدت أسمهان لقمة مجدها وماتت وعبدالناصر في بداية حياته كضابط، تحولت
حياتها لأسطورة بفعل شائعات الموت والميلاد وما بينهما بينما تحول
عبدالناصر بعد موته إلي بطل شعبي وجزء من ضمير أمته، يطفو أو يتواري وفقا
لترمومتر «يقظة» هذا الضمير.
ناصر
ومن هنا
أتوقف عند مسسل عبدالناصر بعد 12 حلقة، وقبل إعلان ثورة يوليو 1952، لأقدم
مجموعة ملاحظات أولها تلك العناصر الرئيسية الجديدة علي المشاهد المصري في
المسلسل وأولها كونه من إخراج باسل الخطيب في أول أعماله المصرية، وهو مخرج
قدير، درس السينما مع عدد من ألمع المخرجين العرب في معهد السينما بموسكو،
وثاني هذه العناصر بطل المسلسل الفنان الممثل مجدي كامل، المدرس بمعهد
التمثيل بجانب كونه ممثل الأدوار المختلفة، الذي لفت الأنظار بدور «عبدالناصر»
نفسه في مسلسل «العندليب» في العام الماضي عن حياة عبدالحليم حافظ، ومبلغ
علمي أن دور عبدالناصر عرض علي عدد من «فتيان» السينما الأوائل الآن، لكنهم
رفضوا، واستقر الأمر علي مجدي كامل في أول سابقة من نوعها في دراما
التليفزيون أن يؤدي ممثل نفس الدور في عملين، في الأول دور هامشي، وفي
الثاني هو الدور المحوري، ومن حق مجدي كامل أن يأخذ حقه وحجمه كممثل قدير
متفوق ضمن جيل سبقه في الحصول علي البطولات.. ومع مجدي كامل توليفة رائعة
من الممثلين من كل الأجيال، من جيل محمد الدفراوي الفنان الكبير إلي جيل
كريم الحسيني الذي قام بدور عبدالناصر في مراهقته وبسرعة ربما متعسفة، فقد
كانت المرحلة العمرية وما بها تستحق مساحة أكبر، ومن الممثلات يتوقف
المشاهد حتي الثلث الأول من العمل أمام أربع ممثلات الأولي هي وفاء عامر في
دور أم عبدالناصر فهيمة والذي لم يطل علي الشاشة إلا لحلقة واحدة وجزء من
حلقة أدت فيها وفاء الدور بروعة تليق بالعمل وبموهبتها التي تفجرت بعد
سنوات من الأدوار الباهتة، والثانية هي سوسن بدر في دور «توحيدة» الأم
الثانية له، زوجة عمه التي لم تنجب لكنها اعتبرته ابنها بكل عطاء الأم
واهتمامها، الثالثة هي «شيرين» في دور عنايات زوجة أبيه بعد رحيل أمه،
والتي أعطت للدور مذاقا خاصا معبرا عن حدود الشخصية بكل ما فيها من تقليدية
وضيق أفق، الرابعة لقاء الخميسي في دور «تحية» زوجته التي قدمت له عمرها
علي طبق من الجمال الروحي والإنساني.. ومهما حمل المسلسل من تفاصيل معبرة
عن رغبة كاتب المؤلف القدير يسري الجندي في تقديم «الصورة كاملة» لحياة
عبدالناصر، فإن هذا الجهد والتدقيق يستحق التقدير حتي لو كانت بعض التفاصيل
لا يضير المسلسل تجاوزها، لأننا إزاء عمل درامي يحمل بداخله قيمة تسجيلية
وتوثيقية في أجزاء تخص حياة عبدالناصر منذ مولده وطفولته وحتي شبابه وبروزه
علي السطح بين الضباط وسعيه إلي التعبير عن غضب ملأ الكثير من المصريين من
تردي الأوضاع في ظل الاحتلال والملكية والحكومات المتتالية وفقدان الهدف
لدرجة سعي البعض إلي الاستعانة بالألمان لطرد الإنجليز، أي استبدال احتلال
بآخر.. وتفاصيل حياة عبدالناصر الطفل وعيشه لفترة في بيت عمه خليل «صلاح
عبدالله» وزوجته توحيدة فكشف عن أهمية هذه الفترة في تكوينه المبكر، وحيث
يكتشف «جمال» أن ابن عمه محمود ليس ابنا للعم، وإنما هو، مثله، قريب احتضنه
العم وزوجته بعد تيتمه، ودور هذا العم في حياته، وتوجيهه له بعدما رأي فيه
جدية ووعيا مبكرا أرضي غليله كسياسي قديم.. وفيما بعد، كان العم هو الرجل
الذي لاحق ابن أخيه في المظاهرات وفي خطوات عديدة كان يهلل لها بقلبه
ويرفضها ظاهرا، خاصة مع ضغوط الأب «قام بدوره محمد وفيق» علي شقيقه ليلاحق
ابنه ويمنعه من الانخراط في أي نشاط معارض للحكم.. هل كان علي يسري الجندي
أن يبدأ مسلسله من منطقة أخري ويتجاوز هذه المرحلة كما رأي البعض؟.
عالم آخر
وما هي
معايير التعامل مع الشخصية هنا؟ إن المسلسل يظهر بوضوح أن طفولة ومراهقة
عبدالناصر هي منطقة مفاجآت حقيقية لنا كمشاهدين عرفوه زعيما للثورة ولم
يدركوا ما قبل هذا.. بل إنني أتذكر جيدا تلك الصورة الذهنية التي روجت عنه
بواسطة الشائعات الكثيفة في عز إنجازاته حول عائلته وكون والده بوسطجيا
للتدليل علي تواضع المستوي الاجتماعي للزعيم الكبير وبما يعنيه معني «أولاد
الرعاع» في لغة الأتراك والإقطاعيين.. لهذا أعتقد أن ما قدمه الجندي في
المسلسل شديد الأهمية في إضاءة عالم بأكمله في أقاصي مصر، بني مر التي ولد
بها، والخطاطبة التي نقل إليها مع والده، ثم الإسكندرية مع استعادة هذه
الأماكن مرارا، وعالم الأسرة الكبيرة والجد حسين، العجوز القوي «قام بدوره
محمد الدفراوي بروعة» ودوره في حياة أبنائه، ثم أحفاده، وسعادته بتفوق جمال
واجتهاده الشديد دونا عن أغلب أحفاده، وتعطشه للبقاء علي قيد الحياة في
مرضه الأخير حتي يري حفيده المتفوق بعد أن أصبح ضابطا وتخرج في الكلية في
دفعة استثنائية قبل بها «استثناء» أيضا بفضل ضابط كبير سعي إليه عمدة بلدته
«فتوح أحمد».. ثم كيف استطاع جمال بعد فترة قصيرة كطالب أن يصبح ألفة دفعته
فيعين أومباشيا عليها يمسك بمقاليد الضبط والربط لزملائه، هذا النموذج الفذ
للاجتهاد والدأب والمقدرة علي شحن الذات بعناصر التقدم من إنجاز للعمل،
والبحث عن تثقيف نفسه بالقراءة المستمرة، والاهتمام بشأن الوطن هو نموذج
«نموذجي» لبطل درامي الآن في واقع يغيب عنه أمثاله إلا ما ندر.. واستخلاص
هذه السيرة من بين ملفات ووثائق عديدة حول جمال عبدالناصر ليس مبعثه فقط
الإعجاب أو النفاق وإظهاره كما لو كان «زعيما في اللغة» وإنما استعادة
لسيرة زعيم أثر في حياة ملايين البشر وأصبح موضع رهاناتها لسنوات عديدة..
كيف حدث هذا.. وما هي المؤثرات.. ثم ماذا عن النهايات.. هذا مؤجل لأن
الحديث عن المسلسل لن يكتمل إلا بعد اكتمال المشاهدة.. مع نهاية رمضان.
الأهالي المصرية في 17
سبتمبر 2008
|