ذاب ثلج
الإعلانات الترويجية والحملات الدعائية... وبان ثلج
المسلسلات.
رأينا
أخيراً 'صراع على الرمال' بعد صراع لاهث مع الوقت، رعته
مؤتمرات صحافية... وميزانيات كبرى، وبذخ غير مسبوق... وخيول عالمية جيء بها
من
إسطبلات اسبانية بأسعار عالية ومبالغ تأمين كبيرة تتجاوز
بالتأكيد التأمين على حياة
الفنيين العاملين في المسلسل من البشر... ورافقته تصريحات لمخرجه وعدتنا
بأن (صراع
على الرمال) سيجعلنا نعيد النظر في الدراما البدوية التي عوملت
على الدوام بأنها
دراما من الدرجة الثالثة أو الرابعة على حد تعبير المخرج الذي انبثق إيمانه
الفكري
والفني بأهمية الدراما البدوية وعظمتها فجأة... وبأن هذا العمل الذي هو
باكورة
إنتاج المكتب الإعلامي لسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،
سيرفع سقف المنافسة بين
الأعمال الدرامية العربية لهذا الموسم وأن هذه المنافسة لن تكون لجهة
التمثيل
والتأليف والإخراج وحسب بل لجهة الإنتاج الضخم أيضا والذي سيعود بالفائدة
حتما على
مستقبل الدراما التلفزيونية العربية!
تابعنا
الحلقات الأولى من (صراع على
الرمال) فبهرتنا الصورة والألوان وتقنيات الغرافيك التزيينية... وأخذتنا
صور جموع
الخيول والخرفان والنوق والجمال وهي تتهادى في مضارب قبائل لا تعرف أين
تذهب بهذا
الحلال... ولا بالخيام الواسعة الفسيحة التي تهفهف فيها ستائر
الحرير والتول المطرز
وتفترشها أصناف الساتان الملمّع والسجاد المزركش... وتتراقص فيها الألوان...
وتتهادى فيها صبايا القبيلة التلفزيونية بكل زينتها وأناقتها المترفة...
لتتكامل مع
أناقة وفخامة أزياء الرجال من فرسان القبيلتين وسواهما من
العربان... الذين ينعمون
بهذا الترف التلفزيوني، غير آبهين بعوامل الحياة الصحراوية القاسية، ولا
أثرها على
اتساخ ثيابهم وبهتان ألوانها، وتجعد طياتها... في ذلك الزمن التاريخي
المختلق
للعمل، والذي قيل إنه يرجع إلى القرن الثامن عشر... عل ذلك
يضفي على هذه الدراما
البدوية المختلقة، قيمة أخرى!
وعذراً
إذا اعتبر بعضهم، أنني توقفت عند القشور،
وأنني استرسلت في استعراض نوافل المظهر القشيب للعمل دون النفاذ إلى
الجوهر... ذلك
أن الجوهر بالفعل فارغ... فالعمل على صعيد المضمون لا يأتي بأي
جديد على صعيد قصص
دراما البداوة المعروفة منذ سبعينيات القرن العشرين، بعلاقات القبائل
التناحرية،
ومحاولات الأشرار من صغار النفوس ومن مشوهي الخلقة غالباً، إشعال فتيل
الحروب بين
العشائر، كما يفعل دياب وهو يسعى للإيقاع بين قبيلتي الحنظل
والعجيل... تارة عبر
إيهام القبيلة الأولى بأن الثانية أغارت عليها، وأخرى عبر سرقة حلال
القبيلة
الثانية، ودفعه إلى مضارب القبيلة الأولى لإلصاق التهمة بها بعد ذبح
رعيانها...
مستعيناً في مخططاته التآمرية بمجموعة من المرتزقة أو القتلة المأجورين
الذين
يرتدون
السواد... والذين ينفذون هذه المهمات الشيطانية لقاء أجر معلوم!
وما بين 'كسر
خشوم' الفرسان في دراما الدسائس والصراع على الحلال والمشيخة والثأر، وكسر
قلوب العذارى في دراما العواطف وقصص الحب العذري المشتعل على وقع بكاء
الربابة...
وسحر لواحظ المزايين... يلوك (صراع على الرمال) علاقاته المفبركة، ومحاوره
المرتقبة
التي تكشف
نفسها بنفسها... وخصوصاً حين يكون كاتبها هو (هاني السعدي) الذي يكتب
جاهزاً وبالتفصيل... وبكل طيب خاطر!
أما خيال
صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل
مكتوم... فلا أدري في أي فضاء يهيم، وأي مادة إلهام يمكن أن يشكل... لأن
أشعاره
تنبئ حقاً عن مستوى هذا الخيال الذي يسبح تحت سقف أدبي متوسط
القيمة، ولو أننا في
غير عصر الانحطاط هذا، لقال النقاد في أشعار الشيخ محمد، ما قاله ذلك الطفل
في ثوب
الملك في مسرحية (الملك العاري)!
إن (صراع
على الرمال) كما يقدم لنا نفسه في
الحلقات العشر الأولى، مسلسل فارغ ينتمي إلى دراما عفا الزمان على علاقاتها
وقيمها
لأنها صارت خارج نبض الحياة، وخارج صورة العصر... فالبدو الذين
يبدون على هذا القدر
من
الثراء والذين يتغنى بهم المسلسل، سكنوا القصور والفيلات الفاخرة... وصار
خروجهم
إلى البر للصيد أو القنيص أو الجلوس في المضارب مجرد نزهة سياحية ترفيهية
على هامش
حياتهم المعاصرة المكتظة بالتكنولوجيا، ورغم اعتزاز الكثير
منهم بالأصل البدوي، إلا
أن
معظمهم أدرك أن عليه أن يخلع مظاهر حياة البداوة في عصر الشركات والأبراج
والقصور... أما البدو الرّحل الفقراء المغّبري الوجوه... فلا أثر لهم في
هذا الصراع
التلفزيوني على تلك الرمال الذهبية في واحات المغرب!
لا يقدم
(صراع على الرمال)
صورة متحفية، فحياة البداوة التي لا تعرف الاستقرار، لا تحتمل أن تكون
متحفاً،
لأنها حياة بسيطة محدودة في قيمها وعلاقاتها... لكن العمل يسعى لأن يقدم
البدو من
منظور صورة سياحية فيها الكثير من التجميل المنمّق... ومن
الاجتهاد الفني... ومن
البذخ الإنتاجي... تلبية لرغبات تريد أن ترى هذا النوع بصورة تستحق
المباهاة أمام
الآخرين... بغض النظر عن مدى واقعيتها!
إن حاتم
علي ينجح مع فريق كبير من
الممثلين والفنيين، في أداء المهمة على أكمل وجه... يقدم عملا بدوياً متقن
الصورة،
حيوي الإيقاع، وافر الألوان والكومبارس والخيول والجمال... يقف على تخوم
الحقيقة
الفنية، من دون أن يجنح نحو عبث فانتازي أخرق، كما فعل نجدت
أنزور سابقاً حين ألبس
البدو الألوان الفوسفورية، وجعل خيامهم على ضفاف البحيرات... لكن رغم
ذلك... يؤكد
لنا حاتم علي من حيث يدري أو لا يدري، أن هذه النوعية من
الدراما البدوية هي دراما
درجة ثالثة ورابعة بالفعل... لأنه سعى لتحسين الكثير من عناصرها الفنية،
لكنه وقف
عاجزاً أمام قصصها وقيمها وعلاقاتها وبناء شخصياتها وحبكتها،
التي بقيت عصية على أي
تطوير... وظلت تسبح في ذلك الاجترار الدرامي الذي تدور في فلكه الكثير من
القصص
البدوية ولاتزال!
لقد أضر
حاتم علي بهذه الدراما البدوية من حيث ظن أنه أفاد...
أخلص للتقنية والشكل إلى الدرجة التي أظهر في مرآة هذا الشكل وتلك التقنية،
خواء
المضامين وبساطة الخيال، ومحدودية الأشعار المُلهمة التي سفح فيها الفنانون
المشاركون عبارات الثناء والإعجاب والانبهار في معظم اللقاءات
الصحافية
والتلفزيونية التي رافقت إنجاز العمل!
قبائل
تخشى فتنة المسلسلات!
وأبقى في
أجواء الصراع المحموم على مسلسلات البداوة هذه الأيام... لأتوقف
عند حادثتي تأجيل أو منع عرض مسلسل (فنجان الدم) على شاشة قناة
(إم. بي. سي) والذي
كتبه عدنان عودة ويلعب بطولته جمال سليمان وميساء المغربي، ويخرجه الليث
حجو، وذلك
استجابة لاحتجاجات بعض القبائل التي رأت أن العمل- الذي لم يعرض أساساً-
يتناولها
بالإساءة على حد زعمها... بخلاف قبائل الشمر التي ناشدت أولي
الأمر وقف بث مسلسل (سعدون
العواجي) الذي يلعب بطولته النجم السوري رشيد عساف، بعد عرض بضع حلقات منه
على قناة أبو ظبي، لأنه كما نقل لها بعضهم يظهرها في مظهر قطاع الطرق في
نزاعها مع
قبيلة العنزة التي ينتمي إليها سعدون العواجي... الأمر الذي
مكنها من استصدار قرار
المنع من رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد شخصياً حسبما أفادت أوساط
مطلعة.
شخصياً
أنا ضد أي قرار منع أو مصادرة... حتى لو كان المسلسل (بدوياً)
وحتى لو كانت هذه الأعمال لا تصدر عن قناعات شخصية أو تنويرية أو فكرية كما
هو حال
معظمها... بمعنى أن كثيراً من صناعها- مع احترامي للجهود الفنية التي تبذل-
لا
يقاتلون من أجل إيصال فكرة مؤمنين بها، أو الدفاع عن حالة
ينتمون إليها... بل هم
يستفيدون من فرص عمل تسنح لهم بأجور مغرية، ويعتقدون أنها ستحقق لهم المزيد
من
الرواج في الخليج... بما يؤدي إلى تدعيم مواقعهم كنجوم، ورفع أجورهم
وحظوتهم في
أعمال أخرى... ولو دار بخلد أي من صناع هذه الأعمال أو سواها،
أن هناك إمكانية
لمنعها تحت أي احتجاج كان... لعدلوا النصوص والأحداث عشرات المرات، في سبيل
أن يظهر
العمل وينال القبول والرضى! إذن نحن أمام أعمال، لا يخسر
صناعها قناعاتهم إذا منعت،
لأنها ليست مصنوعة بقناعات أصلا... والأهم أن محبيها أو المعنيين بها لن
يخسروا
أيضاً... مادامت من تتوجه إليهم من أبناء القبائل يرفضون أن يروا صورتهم
وخلافاتهم
على النحو التي تريد تلك المسلسلات أن تريهم إياها... فعلام
نحزن ونأسف
إذن؟!
احتقار
الكاتب التلفزيوني!
ثمة ظاهرة
مؤلمة في شارات معظم
المسلسلات التلفزيونية... هي نسبة العمل لمخرجه في شارات النهاية، حيث يكتب
اسم
العمل مع اسم مخرجه، دون ذكر للكاتب!
الاستثناء
الوحيد في هذه السنة السيئة
ربما كان مسلسل (أهل الراية) الذي كتب في شارة النهاية اسم مخرجه مع اسم
كاتبه:
(لعلاء
الدين كوكش وأحمد حامد)... أما مسلسل (صراع على الرمال) فقد ذكر في النهاية
خيال صاحب السمو والأشعار، دون أن يتنازل فيذكر اسم كاتب القصة والسيناريو
السيد
هاني السعدي بغض النظر عن مدى إيماننا بما يكتب! مسألة
الاستهانة بحق الكاتب
التلفزيوني المعنوي في شارات المسلسلات السورية، ينطبق عليها المثل القائل
(يا
فرعون مين فرعنك؟!) كثير من الكتاب يدخلون شركات الإنتاج التلفزيوني أذلاء...
يطلبون الرضا من المنتج ومن سكرتيرة المنتج ومن المخرج وعشيقاته وطراطيره،
ويبدون
بلا وجهة
نظر يدافعون عنها... ولذلك تضيع حقوقهم، ويتحولون إلى
كومبارس في
أعمال أصعب ما فيها هي الكتابة... وأندر ما فيها توفر المخرج
الذي يقرأ بعمق!
المطلوب
هو أن يثور الكتاب لكراماتهم، وأن يفرضوا حقوقهم المعنوية في بنود
العقد الذي يوقعونه، من دون أن ينتظروا مخرجاً محترماً يضع
اسمهم... وآخر أنانياً
ينكر حقهم!
'
ناقد فني
من سورية
mansoursham@hotmail.com
القدس العربي في 11
سبتمبر 2008
|