حديثنا عن
صنف فرض نفسه بإلحاح على بساط الأنُس الرمضاني تلفزيونيا ومنذ عقود، وهو
حزمة البرامج التي تعرف اختصارا بالكاميرا الخفية؛ هذا الصنف الذي تنوع
تنوعا بالغا ليكون مرة دسما ثقيلا على نفس المتلقي، ويكون مرة ضيفا خفيف
الظل والروح يقتنص الضحكات من نبع شريف، وبمثل ما يتنوع أثر تقديم هذه
البرامج على الجمهور، بمثل ما تتنوع زوايا انطلاق العمل نفسه، ودوافعه
ومنطقه وطريقة بنائه، ومن ثم تتنوع كذلك التصورات العامة للجمهور عن تلك
النوعية من البرامج..
دعنا نقلب
المثلث ونبدأ من ضلعه الخاص بالجمهور؛ لأنه سيساعدنا على الاستبصار أكثر
بزاوية الانطلاق من جانب، وبالمنتهى الذي يئول إليه العمل من جانب ثان.
الضلع
الأعوج
حين تطرح
الكاميرا الخفية كمادة للمسامرة بين شلة الرفاق، ستجد بينهم وجهتي نظر هما
الأشهر في التعاطي مع هذا الموضوع، أما الأولى فهي التي سيتبناها القائل:
"الكاميرا الخفية فكرة يصعب تقبلها أخلاقيا فهي وجبة دخل في صنعها السخرية
واللؤم والخديعة الموجهة ضد ذلك المبتلى الذي وقع في دائرة لعبها، وهي ليست
لعب (مع) بقدر ما هي لعب (على) شخص آمن/غير متنمر/ حسن الظن/ نقي السريرة،
ثم هي تسخر من هذا النموذج وتنتهك خصوصيته انتهاكا كبيرا، وذروة نجاحها
بوضعه ليكون محط تقريع جماعي إن صح التعبير..".
أما وجهة
النظر الثانية فهي تلك التي سيرد بها القائل بأن: "الكاميرا الخفية فكرة لا
ينكر متعتها إلا المدلس -على نفسه- فتنكر إن شئت لطرافتها، وتجهم لها واعبس
وتولَّ، لكن اعلم أنك فاعل، بعد أن تنال هي منك –على حين غرة- ضحكات تودي
بالتحفظ الإنساني الأخلاقي الرحيم المزعوم، إذ تهتك القشرة الحضارية
للتعاطف مع من؟! مع ذاك الذي هو خامل العقل، خلي البال، فاقد الزمن، واهن
الحدس، بليد الفراسة..".
والحقيقة
أن وجهتي النظر كلتيهما لا تخلو من وجاهة، فقد يتبنى متفرج إحداهما لكنه
يعود ويتبنى الثانية ثم يرتد إلى الأولى، ذلك أن محددا مهما من محددات
الميل إلى إحداهما عن الأخرى، هو البرنامج نفسه وطريقة تقديمه، ومدى ما
يستخدمه من جرعات الخداع والضغط والاستفزاز، فإذا ما علمنا أن واحدة من أهم
نظريات تفسير الضحك تعتمد على التمايز بين مستويين للوعي، مستوى للفئة
الأكثر ذكاءً، والثاني للفئة الأقل ذكاءً، حيث ينتمي للأولى؛ المخادع/
النصاب/ العبقري/ المخاتل/ المتفوق/ المرن/ المحتال..
بينما
ينتمي للثانية؛ المخدوع/ الساذج/ الغر/ المتصلب/ الطماع/ الأبله..
وإذ يضحك
المتلقي من الموقف هو ينحاز نفسيا للفئة الأولى وينزه نفسه عن التعاطف أو
الانضمام للثانية، إن منبع الضحك هو طمأنة الذات بالمباعدة عن الوقوع في
مثل ذلك الفخ.. ودعنا نحلل أي نكتة مثلا بهذه الطريقة فتتضح فاعلية تلك
النظرة...
الحد
الفاصل
والشاهد
أن الحد الفاصل بين المضحك والمسيء هو عدم التعاطف أو المباعدة التي تحدث
بين المخدوع والمتلقي، لكن متى زادت تلك المباعدة عن الشرط الإنساني تماما،
أي متى فقد الضحك أخلاقيته التوجيهية الترويحية التطمينية، وذهب متسللا
للتآمر ومنه إلى إحكام الشر بالإذلال والانتهاك المرضي بالتعذيب والاستفزاز
الأقصى.. هنا لا يجد المتفرج –السوي- سوى التعاطف مع الفريسة.
والتعاطف
هو درجة من درجات التوحد، التعاطف مع من؟! مع المخدوع، إذن المباعدة تكون
مع المخادع لا المخدوع، ومن ثم يموت الضحك الآمن ويبقى كل ما يحدث خداعًا
هستيريًّا تعذيبيًّا غير إنساني.. بقول آخر: يهبط عن درجة الإنساني إلى
المبتذل..
حيلهم
بينهم مفاجأة من الدم
الخفيف
إذن الخيط
الدقيق الرقيق الرهيف هو في تعاطف الجمهور فإن تعاطف مع صانع الخديعة
فسيضحك، وإن تعاطف مع المخدوع فسينفر، الصدق في القبض من خلال موقف على
المثالب والصغائر والهنات البشرية مادة مضمونة للضحك، لكن إحكام الإذلال
وبناء مواقف على وضع اجتماعي عام مثل البطالة والفقر وغيرها هي مادة خصبة
لبواعث الاستنكار.. في هذا السياق نجد ملحوظة هامة، إن صناع برامج الكاميرا
الخفية، في البدايات كثيرا ما ينجحون ويحققون جماهيرية ويستخرجون أصفى
الضحكات، لكن العدالة تقتنص منهم حين يتحولون هم أنفسهم إلى طماعين فيذهبون
إلى الإسراف والغلو والهيستريا فلا يكفيهم الضحك بل يريدون مزيدًا من
الضحك، ثم المزيد، فالمزيد، ذلك الضحك الكثير المسموم الذي يميت القلب،
فيخسرون ولو بعد حين.
ويقبل
الجمهور على الجديد/ الطازج/ النقي/ البناء الذي يريد النجاح ويلتمس له
الطريق وليس اللاهث إلى القمة.. ويفسر هذا النجاح في البدايات ثم حالة
الزيف وسماجة تسول الضحك التي تنتاب قدامى المحاربين في هذا المضمار..
حديثي في
هذا السياق يحل عليه إبراهيم نصر الذي يعد أحد أبكر التجارب في ساحة
الكاميرا الخفية، لقد بدأ هو وإسماعيل يسري في ذيل فنان الكوميديا الراحل
فؤاد المهندس، والذي كان آنذاك أحد أشهى أطايب المائدة الرمضانية ما بين،
فوازير الأطفال (عمو فؤاد) إلى الكاميرا الخفية ومسلسلات مضحكة، إبراهيم
نصر قبض على لعبة الكاميرا الخفية واستهوته، وصار علما عليها.
وشهد
النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين أمتع ما قدمه، لكنه بعد أن صار
"كارتا محروقا" لدى المتلقي اضطر أن يستدر من رصيد الكوميديا حيل التنكر،
ليخرج من بوتقته شخصيات مثل "زكية زكريا" امتزج فيها التمثيل بالتهريج
بالسخرية بالغلظة بالاستفزاز، فكان عدم التعاطف مع الجانبين.. مع المخدوع
الذي ينطلي عليه هذا الزيف غير المتقن، وبالخادع الذي يستمرئ الخديعة للحد
الذي يضحك على نفسه، فكان الدفاع المضاد بكون كل ذلك ليس إلا فبركة، وصار
الضحك على البرنامج وصناعه أكثر منه على المادة المقدمة.. وقاع ما يمكن أن
يصل إليه هذا الأسلوب هو اللعب بآمال الشباب الراغبين في الحصول على فرصة
عمل في بلد تحولت فيه البطالة إلى مرض مستوطن..
قل مثل
ذلك وأكثر في ذم (اديني عقلك)، فهو لم يبن الرصيد الجماهيري الذي بناه
إبراهيم نصر مما سمح له بالنهل منه مؤخرا، لكن منير مكرم وتابعه يصرفون من
شيك لا رصيد له، وينالان ما يستحقان من علق من المخدوعين ذاتهم، تليق بآيات
الاستفزاز المبتذل الذي يقدمانه.. ليضحك الجمهور على الضرب المستحق أكثر
منه على الخديعة الخائبة..
مهنة
المقالب
ولم تكد
الكاميرا الخفية تسمن وتثقل نسبيا في الأعوام الماضية إلا وانضمت لها دماء
طازجة جديدة بفكر جديد فقامت تتمطى، نعني به النمط الذي تخصص في خديعة
الممثلين على وجه التحديد، في هذا السياق نجد تجربة حسين الإمام، تلتها
تجربة نشوى مصطفى، وجاءت كل منهما لتكون أحذق وأحكم من سابقتها، لكن مشكلة
معرفة تخصص مقدم البرنامج وسمعة برامج مقالب الفنانين جعلت المهمة أكثر
تعقيدا على الراغب في ممارستها، لكن عمرو رمزي في برنامجه (حيلهم بينهم)
قدم مفاجأة من الدم الخفيف.
في عجالة
نشير إلى أن رواج خداع الفنانين، ينبع من كون مهنتهم هي في صميمها مهنة
الخداع بامتياز، حيث إن التمثيل هو تقديم شخصية غير شخصية الممثل والادعاء
بكل الصدق أنها شخصيته، وهو ما يعرف بالصدق الفني، حيث يصعب على المتفرج أن
يكشف عن حقيقة الممثل بل يرى منه فقط الشخصية التي يؤديها عبر الدور، ومن
ثم حين تأتي اللعبة الانتقامية التي تعري الفنان من أدواته الاحترافية
المخادعة، يمنح المتفرج الفرصة للضحك ومن ثم للتفوق على غريمه، وهي مواضعة
استثنائية تصنع توازنًا غير قابل للحدوث في تجربة أخرى.
نعود
للبرنامج والذي يعمد فيه المذيع للعب على عدة أوتار وفي وقت واحد مما يربك
الفنان، أولها زعم المذيع أنه هو منتج الحلقات، مما يجعل فكرة الاشتباك معه
مؤجلة، ثانيها أن يكيل هو للفنان مجموعة من الاتهامات الاستفزازية، وثالثا
يسند تلك الآراء بجمهور زائف متفق معه، ورابعًا يسند تلك الآراء بصديق مقرب
للفنان متفق معه أيضا على القيام بهذا الدور، خامسا الشخصية التي يقدمها
المذيع؛ ذلك المتجهم الصارم المستفز الواثق المتعالم الجاف ذو السلوكيات
غير المبررة من حيث إنه بالنسبة لهم نكرة، لكنه مع ذلك يحتقرهم..
ويناضل
النجم في محاولة إثبات كفايته وتسامحه ويظل ملاحقا طوال الحلقة باستفزازات
تناسب طبيعة النجم ذاته، مثال أن يسأل فنانة عن عمليات التجميل التي أجرتها
وهل نجحت أم لا؟!
(بفلوسي)
لعبة أخرى على الفنانين يمارسها فتى ذو هيئة خليجية، يتموضع فيها بكونه
منتجًا جاهلا بفن التمثيل لكنه يتدخل في جميع تفاصيل عمل النجم المستضاف
بالتوجيه، ويضغط على النجم أيما ضغط والإجابة المستفزة للسؤال الحائر
المبرر لهذا السلوك يجيب عليه اسم البرنامج ذاته (بفلوسي)، وهي قنص للحظة
زمنية تحكمت فيها أموال خليجية في صناعة المنتج الفني بما يناسب ذوق سيد
العمل، والسخرية مبررة حين يتراءى للذهن المبلغ المتوقع للدور المزعوم الذي
يحصده الفنان لقاء عمله مقارنة بكثير من فئات مجتمعه، هنا حتى هذا الجاهل
الثري الغريب ينضم إليه المتفرج في دائرة الخداع ضد الفنان المحلي الطامع
في جنة المنتج دانية القطوف.
كاتب وناقد فني.
إسلام أنلاين في 9
سبتمبر 2008
|