تمتلئ
شاشات المحطات التلفزيونية العربية بعشرات البرامج الدينية في
شهر رمضان... كل المحطات، حتى تلك التي تبدو طيلة العام غارقة في اللهو
والترفيه
وفي صناعة واستهلاك البرامج الغنائية والفنية والتجميلية، والتي تبدو معها
أبعد ما
تكون عن الخطاب الديني والالتزام الديني.... تهتم بتضمين
خارطتها البرامجية في
رمضان العديد من البرامج الدينية التي تناسب مائدة هذا الشهر الكريم...
وتضفي على
المحطة نفحة من التدين التلفزيوني الذي هو في المحصلة أكثر صور التدين
نفاقاً في
هذا العصر... إذ لا أتصور مثلاً، كيف تلهث (إل. بي. سي) وراء
تقديم البرامج الدينية
في
رمضان... وهي التي ترعى مسابقات ملكات الجمال بالمايوهات والبيكيني، حيث
تظهر
الفتيات الجميلات ليعرضن أجسادهن في سوق نخاسة لا علاقة له بالعقل أو الفكر
أو
الثقافة أو أي قيمة حقيقية في هذه الحياة! وبعيداً عن نفاق
المحطات في استجرار
البرامج الدينية في رمضان... فإن هذه البرامج تعاني من مشكلة حقيقية في
صناعتها،
تجعلها أقرب إلى المشكلة التي تعاني منها برامج الأطفال: الاستسهال في
الصناعة من
جهة... واستغباء المتلقي من جهة أخرى! غالبية البرامج الدينية
إذاعية... ما زالت
تعيش في عصر ما قبل التلفزيون... ولا تنتمي بأي حال من الأحوال إلى ثقافة
الصورة
التي يقال فيها (رب صورة أبلغ من ألف كلمة)... فعدة الكثير من البرامج
الدينية:
طاولة ومايكرفون وخلفية ذات زخارف إسلامية... وشيخ أو أستاذ في كلية
الشريعة يعظ
ويفتي... وكاميرا تصور بلا مخرج في كثير من الأحيان... إذ ينتهي دور المخرج
في هذه
البرامج، بعد جلوس المتحدث على كرسيه... ويصبح على المصور أن ينوع لقطاته
ما بين
القريبة والمتوسطة والواسعة... تبعاً للحالة الانفعالية في
الحديث... أو لضرورات
إظهار جماليات زخارف الأستوديو باعتبارها تختصر الهوية الدينية للبرنامج!
وتقبل
شركات الإنتاج أو المحطات الخاصة على إنتاج وبيع وشراء البرامج الدينية،
لأنها وفق
هذا الأسلوب في الصناعة- الأقل كلفة والأكثر مردوداً، إذا قسنا
ما تجنيه من أرباح
استنادا إلى ما يصرف عليها من نفقات... وكثير من المعدين والكتاب يعتبرون
هذه
البرامج (سبوبة) يكتبونها بلا أي قناعة أو إيمان... وهم لا يكلفون أنفسهم
حتى عناء
العودة إلى المصادر الأصلية... فكثير منهم يلجأ إلى كتب التراث
أو ملخصاتها،
ويستنسخ منها موضوعاته وحكاياته، معتمداً على حقيقة أن لجان الرقابة الفنية
في
المحطات التلفزيونية لا تدقق في مدى جودة البرامج الدينية... ومعتمداً على
فرضية أن
مشاهد هذه البرامج يعجبه أي شيء فيه ذكر لله! ومنذ ربع قرن...
والبرامج الدينية
التلفزيونية تتشابه في موضوعاتها وهي تنوس بين حدي (الترغيب والترهيب)
الترغيب في
ملذات الجنة... والترهيب من عذاب النار. وهي في تناول موضوعاتها تتبع سبيل
الوعظ
والإرشاد... ولا تفكر بتطوير خطابها، ولا بالمشاهد الآخر
المتعلم والمثقف الذي يبدو
هذا الأسلوب الوعظي مملا له وغير مؤثر على الإطلاق! وبسبب الكسل الفني في
الاجتهاد
وفي البحث عما يثري تلك البرامج بالجديد والعصري، فإن حدود التجديد
والابتكار في
البرامج الدينية مازالت محصورة في موضوعات محددة، من قبيل
تفسير القرآن... أو قصص
الأنبياء والرسل الواردة فيه، أو السيرة النبوية، أو سير وأخلاق الصحابة
الكرام...
أو
العرض المدرسي لبعض القيم الإسلامية كالأمانة والصدق وبر الوالدين... وقد
أضاف
إليها الدكتور أحمد الكبيسي قبل عامين برنامجاً بعنوان (لا تقوم الساعة
حتى) روى
فيها علامات اقتراب الساعة كما وردت في القرآن أو السنة! وقد
سعى بعضهم وفي فترات
متفاوتة إلى تقديم برامج عن الإعجاز العلمي في القرآن، التي ربما كان
رائدها
الدكتور مصطفى محمود، ثم زغلول النجار.... لكن ذلك بقي أشبه بتنويع بسيط لم
يلغ
رتابة الموضوعات الأخرى... وعلى صعيد الشكل عانت الكثير من تلك
البرامج من استسهال
في
الصورة، والاعتماد على الكلمة دون ربطها بمنجزات عصر التكنولوجيا، وبالتالي
فكانت تلك البرامج تعاني إشكالية واضحة: تتحدث في مضمونها عن التطور العلمي
الذي لا
يقف في القرآن عند حدود، فيما تبدو أدواتها التعبيرية بعيدة كل
البعد عن روح
التطور، والسعي لتوظيف عناصر الصورة والتكنولوجيا البصرية في إيصال
رسائلها! وقد
سعت البرامج الدينية في الآونة الأخيرة للاستعانة بجمهور الأستوديو لخلق
نوع من
التجديد في بنيتها الحوارية... وفي أسلوب صياغة شكل
الأستوديو... لكن المشكلة أن
جمهور المريدين، الذي يخاف من الاختلاف، ويخشى المناقشة العلمية التي يمكن
أن تثري
الأفكار، وتطور شكل البرنامج... هذا الجمهور سرعان ما صار عبئاً على
البرامج...
وعلامة من علامات رتابتها بدل تطورها! وتمتلئ شاشة رمضان هذه الأيام،
ببرامج دينية
لا
حصر لها، بعضها لدعاة مشهورين، وبعضها لوافدين جدد على ساحة الإعلام الديني...
لكن كثيرا من هذه البرامج بلا فائدة... وبلا جمهور... لأنها مصنوعة على
مبدأ
(الاسترزاق
ورفع العتب) والذي كان أبلغ نماذجه في التلفزيون السوري ولسنوات طويلة
برنامج (يا رب) لعبد القادر قصاب... الذي شغل لسنوات منصب مدير البرامج،
وكان يعتقد
أن (غوتا) البرامج الدينية الرمضانية من حصته... مع أنه لم يكن
يمت للقيم التي
يتحدث عنها في برامجه بصلة! وما أريد أن أقوله أخيراً... أن مسؤولية تطوير
البرامج
الدينية وإعطاءها مصداقية، ليس هي مسؤولية المحطات التلفزيونية، لأن جل تلك
المحطات
تضع البرامج الدينية في آخر سجل اهتماماتها مادامت لا تجلب لها
إعلانات...
المسؤولية
تقع حقيقة على صناع تلك البرامج... على مقدميها ومخرجيها وفنييها...
فهؤلاء إن كان منهم من يؤمن بما يقدم حقاً، يجب عليهم أن يقتدوا بمبدأ
إتقان
العمل... الذي هو في الإسلام واجب ديني قبل أن يكون حياتياً! فضيحة
التلفزيون
السوري أول أيام رمضان! افتتح التلفزيون السوري دورة شهر رمضان
بفضيحة من العيار
الثقيل... حين تم بث آذان المغرب أول أيام رمضان قبل أكثر من نصف ساعة على
موعده...
بسبب خطأ فني قام به أحد منفذي أو فنيي الفترة في الفضائية السورية! انهالت
الاتصالات على التلفزيون وإدارته تسب وتشتم وتلعن... وكالعادة كان هم
الإدارة في
النهاية البحث عن ضحية يتم إنزال عقاب هذا الخطأ عليها..
وتحميلها المسؤولية
المباشرة عنه! طبعاً أنا لا أختلف مع إدارة التلفزيون أن هناك مسؤولية
مباشرة على
من
قام بهذا الخطأ الشنيع والمحرج... لكن ثمة مسؤولية غير مباشرة تتحملها
إدارة
التلفزيون... وكل إدارات التلفزيون المتعاقبة في كل الأخطاء
التي حدثت وتحدث
باستمرار ولا أمل في منع حدوثها! هذه المسؤولية اسمها: إقرار آلية عمل
محترمة...
آلية عمل غير استزلامية... آلية عمل تضع نصب عينيها وضع ضوابط لا تخرق
باستثناءات... آليات عمل تفكر في مكافأة الملتزم قبل المسيء... لأن مكافأة
الناجح
هي خير عقاب للفشل! الإشراف في التلفزيون السوري: لصوصية
المنصب! ثمة مرض في
التلفزيون السوري اليوم اسمه: (إشراف سهير سرميني) والسيدة سهير هي مديرة
القناة
الأولى في التلفزيون السوري... وقد كانت قبل ذلك مخرجة مبتدئة... لكن
المنصب وحده
جعلها تعتقد أنها قد قطعت شوطاً كبيراً في الخبرة صار يؤهلها
لأن تضع اسمها في رأس
شارة الكثير من البرامج، وقبل أسماء مقدمه ومعده ومخرجه! وقد كنت قبل أيام
أتابع
شاشة التلفزيون السوري، فظهر برنامج كارتون انتقادي كان اسم السيدة سهير
كإشراف
يتصدر شارته قبل السيناريست والرسام حتى... انتهى الكارتون
وجاء بعده برنامج (وجوه
وراء القضبان) فكان اسم الست سهير في الإشراف يسبق اسم معدته ومقدمته
الإعلامية
المخضرمة فيوليت بشور! عملت طويلا في التلفزيون السوري وأعرف معنى صيغة
الإشراف
هذه... التي قد تكون ذات فعالية في محطات أخرى، لأن المشرف ليس
مديراً بل هو
شخص
خبير يساند فريق العمل ويعمل معه... أما في التلفزيون السوري فالإشراف
متابعة
إدارية هي في نسيج مهام عمل مدراء القنوات الرقابي... فمناقشة
المعد في الفكرة
والمقدم في أسلوب التقديم، والمخرج في طريقة الإخراج... غالباً ما تكون
مسائل
بروتوكولية هدفها أن يكون المدير مطلعاً على ما يجري لا أكثر... وقد تحول
هذا الشيء
النافل والرقابي الطابع غالباً... إلى مهمة طفيلية، وأحياناً
لصوصية يقبض عليها
المدراء أجراً... بعد أن شرع لهم بعض المحاسبين الضالعين في إفساد القانون
وتفريغه
من
العدالة... بنداً يمكنهم من شراء المدراء وتطويعهم... كي لا يعرقلوا لهم
أوامر
الصرف أو المعاملات المالية الأخرى... لكن بعض المدراء لم يكتف
بالجانب المالي من
الإشراف، بل أراد أن يغتصب حقاً معنوياً... فصار يحرص على وضع اسمه على
الشاشة...
بلا خجل ولا حياء! وخلال عملي السابق لم يحدث لمدير يحترم نفسه من المدراء
القلائل
الذي مروا بالخطأ على تلك الكراسي... لم يحدث أن وضع اسمه كمشرف على عمل
وتعب
الآخرين... فالمدير الذي كان ينتمي للإعلام حقاً، كان يعد أو
يخرج برنامجاً بنفسه
ويضع اسمه في المجال الذي عمل فيه... ولكن يبدو أننا صرنا إلى حالة قال
فيها
الشاعر: وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم!
ناقد فني
من
سورية
mansoursham@hotmail.com qpt2
القدس العربي في 3
سبتمبر 2008
|