أموت
وأعرف من ذلك الذى أطلق تعبير "السيرة الذاتية" على بعض المسلسلات فأصبح
الجميع يرددونه دون تفكير، وأقسم لك ياقارئى العزيز أننى أخجل من أن أتوقف
عند هذا الأمر الذى ما كان يستحق الوقوف عنده ولو بسطور قليلة، لولا أنه
يعكس حالة الاستسهال والإهمال والانغماس فى غريزة القطيع فى كل أمور
حياتنا، لا فرق فى ذلك بين حكومة ومعارضة، سلطة ومثقفين، صفوة وجماهير،
وأصبح من النادر أن نراجع ليس فقط مصطلحاتنا، وإنما أيضا مفاهيمنا ومناهجنا
وسلوكنا وردود أفعالنا، لقد أصبحنا نعيش حالة من الرضا بالأمر الواقع مع
أنه "واقع" إلى أدنى درجات التحلل، نسير ونفكر بطريقة أشبه بحركة القصور
الذاتى، "وأهى ماشية وخلاص"، ولأن المحكومين يتبنون هذا المنطق من
الاستسلام فإنه من المنطقى أن يستغل الحكام نفس المنطق بطريقة "جربناها
ونفعت"، فماداموا يفرضون الضرائب ويرفعون الأسعار ويضيقون الخناق على الناس
دون أى رد فعل، فليس غريبا أن يمارسوا مزيدا من الضغوط كل يوم، وأن يكون
هناك ضحايا لا يزالون تحت الأنقاض فى حادثة الدويقة فى نفس الوقت الذى
ينشغل رئيس لجنة السياسات إياها بلعب دورى كرة القدم الخاص بسيادته، بينما
نلعب نحن فى أزرار "الريموت كنترول" لنتنقل بين المسلسلات التى تلحس المخ
وتبلد الشعور.
وبمناسبة
المسلسلات فقد انتقل رئيس اللجنة المذكورة أعلاه من مسلسل الاستهداف
الجغرافى للفقر إلى مسلسل لامركزية التعليم، وأرجو من يعرف معنى هذا أو ذاك
أن يدلنى والنبى عليه، وله الأجر والثواب عند الله، لكن ما أنا متأكد منه
أن تلك اللجنة تضم بعضا من الجهابذة الذين يقترحون على "رئيسهم" مثل هذه
المصطلحات، كما يرتبون له لقاءات جماهيرية "على الضيق" لا تزيد "جماهيرها"
عن عدد أصابع اليدين فى محاولة أن يصنعوا منه نجما، لكن هل تأتى
"النجومية"، فى عالم السياسة تحديدا، بمحاولات تشبه الولادة القيصرية؟ لكن
نجم غصب عنا، والبركة فى الصحف القومية غير القومية، والبركة أيضا فى عصر
أصبحت فيه النجومية على هذا النحو من الاصطناع، فى السينما والتليفزيون
والبرامج الدينية و"التوك شو" والصحافة والطب وأى شيء وكل شيء، نجوم
"الجعجعة بلا طحن"، وملء الفراغ بالفراغ، نجوم يبيعوننا لأقرب مشتر، وهذا
المشترى فى عالم المسلسلات التليفزيونية هم حملة زكائب الفلوس، الذين
يتاجرون فى كل شيء، ويعلنون عنه بملايين الجنيهات، ثم يستردون هذه الملايين
مرة أخرى من ثمن البضاعة التى يبيعونها لنا، وتظل الدائرة تدور، "وأهى عيشة
وآخرتها الموت"، سواء تحت صخور المقطم، أو فى حوادث الطرق، لكن كل هذا لا
يهم، فالمهم أن يكون معك المثلث العاكس وحقيبة الإسعاف.
إن تلك
الحالة الهلامية التى نعيش فيها تتسق تماما مع معظم مايفرضونه ويعرضونه
عليك من ذلك الشيء الذى يسمونه مسلسلات، ولعل القارئ لاحظ أننى أتجنب أن
أطلق عليها "الدراما التليفزيونية"، فأنا لا أرضى لنفسى أن أكذب عليك وهى
تخلو تماما من أى دراما، إنها شيء أشبه بالسمن الصناعى الذى يعلنون عنه وسط
هذه المسلسلات، والذى يخلو من أى سمن حقيقى، وأيا كان اسمه التجارى فهو
معبأ من نفس الصفيحة التى يستوردها رجال المال، ليعبئوها لك فى العلب ذات
الأسماء والأشكال المختلفة، وبنفس الطريقة فإن معظم مسلسلاتنا تأتى من نفس
"الصفيحة" المسلسلاتية، وتحتوى نفس الخلطة: نجما أو نجمة يحتلان الشاشة من
أولى الحلقات إلى آخرها، يتم تقديمهما على طريقة "صندوق الدنيا"، و"اتفرج
ياسلام"، وأدى عندك يسرا الجميلة الرقيقة تدخل برجلها اليمين إلى عالم
المجرمين والشحاتين، وأدى عندك كمان عمك شرف فتح الباب "الحرامي" الشريف
العفيف يدخل السجن وتصبح حالته تصعب على الكافر.
تعمدت أن
أختار يسرا ويحيى الفخرانى لأنهما نجمان حقيقيان، صنعا نجوميتهما عبر ما
يزيد على ثلاثة عقود، وكل منهما لا يعتمد على نجوميته فقط، لكنه يملك خبرات
عميقة فى عالم "التمثيل" بالمعنى الجاد للكلمة، لكنهما لم يفلتا من طوفان
العقد الأخير الذى "لخبط" كل شيء عمدا وأدى إلى تلك الحالة الهلامية
العشوائية، فمن أى شيء تشتكى أيها المواطن إذا كانت الحكومة الإلكترونية
تقول أن كل شيء عال العال "بس أنت اللى مش واخد بالك"، وأنت أيها المتفرج
هذه هى المسلسلات التى عندنا وسوف تشربها بمزاجك أو غصب عنك، فأحسن لك تسكت
خالص وتبلع ما تلقى به إليك لجنة السياسات ولجنة المسلسلات.
خدعنى
يحيى الفخرانى فى بداية مسلسل "شرف فتح الباب"، فهذا البطل الذى يحمل
المسلسل اسمه يوحى للوهلة الأولى بأنه يجسد الطبقة الوسطى التى كافحت
وتكافح لكى تجد لأبنائها موطئ قدم فى سياق اقتصادى طاحن، سياق يطيح بها لأن
الدولة تخلت عن دورها، أو قل بالأحرى أن هناك قوى خفية تريد للدولة فى مصر
أن تتفكك، وهكذا فإن "شرف" يواجه فى الحلقات الأولى صفعة تصفية القطاع
العام، بينما هو لم يكمل بعد مشوار حياته فى تربية وتعليم أبنائه، ليضعه
المسلسل فى مواجهة أخطر، وهى التخلى عن أخلاقياته التى صنعته بقدر ما صنعها
كأحد أبناء الطبقة الوسطى، فيقبل عرضا بالاختلاس وينال منه نصيبه، مقابل
بضع سنوات فى السجن، ليكتشف أن ما تبقى من عمره لن يكفى لقضاء مدة العقوبة.
سارت كتابة محمد جلال عبد القوى وإخراج رشا شربتجى فى الحلقات الأولى لتغزل
بين الواقع والرمز فى رهافة تجعلك تتوحد مع هذا البطل الذى يمكن أن يكون
أنا أو أنت فى لحظات قوتنا أو ضعفنا، خلال التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية
للشخصيات الرئيسية والعالم حولها، بل أيضا خلال الاختلاف فى الموقف
الأخلاقى بين شرف وزوجته (هالة فاخر) فيما يتعلق بالتخلى عن الشرف، وهو
الشرف الذى صنع ويصنع الطبقة الوسطى لأنها تفضل أن "تمشى جنب الحيط" لكى
تعيش. لكن المسلسل تخلى عن هذه المقدمة المنطقية (بالمعنى الدرامي)، وبدلا
من أن يصل إلى مواجهات حقيقية مع موضوعه دخل فى منعطفات واستطرادات جانبية،
لكنها للأسف بدلا من أن تكون الهامش أصبحت المركز، وبدلاً من أن تكون
"التوابل" البوليسية والميلودرامية أصبحت هى ذاتها الطبق الرئيسى، فتوقفنا
عن تصديق يحيى الفخرانى وشرف فتح الباب.
على العكس
فإننى عجزت مع أول مشهد فى مسلسل "فى أيد أمينة" عن تصديق ماأراه، ولك أن
تتخيل أن مسلسلا من ثلاثين حلقة أو قد تزيد يبدأ بمشهد يتصور صناعه _ محمد
الصفتى وعادل مبارز كاتبين، ومحمد عزيزية مخرجا _ أنهم يضعون المتفرج فى
قلب التشوبق: الصحفية أمينة التى لا نعلم عنها شيئا بعد أن يتم اختطافها
على أيدى رجال فى حجم الحيطان ولابسين أسود فى أسود، لتنتهى معصوبة العينين
إلى مكان أشبه بمخزن مهجور(الله يرحم المخرج عباس كامل الذى سخر من هذه
المشاهد فى فيلمه المظلوم "العقل والمال"). لماذا ياسيدى اُختطفت الست
أمينة؟ هناك رجل أعمال أراد أن يسلم لها قرصا مضغوطا يحتوى على معلومات
تؤكد براءته من تهمة التصقت به ظلما، لكن خطته تنتهى على "فاشوش" لأن هناك
(فيما يبدو) عصابة رجل أعمال آخر تقتحم المكان وتمطره بالطلقات فمات الجميع
(ماعدا الست أمينة التى لم تصب بخدش، ولا تسأل كيف حدث ذلك، فبدونها لن
يكون هناك مسلسل يا ناصح!)، والأهم أن دليل البراءة قد ضاع. أيها السادة
صناع هذا المسلسل العبقرى، رجل الأعمال هذا غبى ويستحق القتل لأنه لم يتفرج
حتى على الأفلام المصرية القديمة التى كان من الممكن أن يتعلم منها كيف
يوصل المعلومات إلى الست أمينة دون هذا الافتعال الذى يهدف فقط إلى أن
"يتخض" المتفرج من أول مشهد.
من المؤكد
أن قرأت أيها القارئ العزيز عشرات المقالات النقدية عن زيف عالم الصحافة
الذى تعمل فيه أمينة كما بدا على الشاشة، وهو زيف يكرر نفس أخطاء الأعمال
التليفزيونية التى لا تهتم إلا بأن تجعل النجم أو النجمة أكبر من الواقع،
وليس مهما أن تعمل أمينة صحفية أو محامية أو مذيعة تليفزيون، فهى فى
الحقيقة تلعب دور أرسين لوبين (لوبان حتى لا يزعل إخواننا الفراكوفونيون)،
فسوف تتنكر فى ثياب ابنة أحد المجرمين لتدخل "متحفا" يقولون إنه أحد
الأحياء العشوائية، فالست أمينة تبحث فى قضية الاختفاء الغامض للأطفال
لسرقة أعضائهم (هل تستطيع أن تجادل صناع المسلسل فى أنها قضية مهمة؟!)،
ونحن بالفعل نريد منهم تناول مثل هذه القضايا الجادة، بشرط أن يكون التناول
نفسه جادا، لكن مغامرات الست أمينة التى أفصحت فجأة عن قدرات تمثيلية
ترشحها لجائزة الأوسكار فى تقمصها لابنة الحى الشعبى، هذه المغامرات تجعلنا
نتساءل لماذا عملت بالصحافة وكان من الممكن أن تكون ممثلة بارعة تتفوق على
يسرا نفسها؟ وبالمرة نسألها من أين أتت بهذه الإكسسوارات التى استعملتها؟
ومع أى "ريجيسير" تتعامل لكى يزودها بالكومبارس الذين يساعدونها فى
مهمتها؟
ألم أقل
لك أن عليك أن تبلع ذلك كله مادمت راضيا راضخا بأن تجلس أمام التليفزيون
دون أن تضغط على مفتاح الإغلاق إن لم يعجبك ما تراه؟ وبنفس الرضا فإنك
تتقبل قوانين الضرائب وقانون المرور وحريق مجلس الشورى وانهيار صخور المقطم
فوق الغلابة ودورى كرة القدم فى لجنة السياسات، خلاص، اشرب بقي! لكن قبل أن
تبدأ ثورتك بى، وتتوقف عن قراءة ما أكتب، أرجو ان تعطينى فرصة لأحدثك عن
مسلسلات السيرة الذا.... كنت هاأقولها! لعن الله غريزة القطيع التى تجعلنا
نردد الكلمات دون أن نعرف معناها، كما تجعلنا نعيش كالقطيع.
العربي المصرية في 30
سبتمبر 2008
|