مجدي كامل
لعب دور عبد الناصر للمرة الثانية بعد مسلسل العندليب متحديا كل الذين
لعبوا دوره من قبل بمن فيهم أحمد زكي- أداء مجدي كامل للشخصية كما وردت في
النص يطوي صفحة إمكانية تناولها مرة أخري- المسلسل جاء ليكون رداً مدهشاً
علي مسلسل الملك فاروق وتصميماً لكثير مما فعلت في تحريك القلوب قبل العقول
مكانك في القلوب يا جمال.. ولا كل من ركب الحصان خيال بهذه المقدمة
الغنانية البسيطة المعبرة المليئة بالشجن علي عناوين مسلسل ناصر، ينفذ
الكاتب يسري الجندي والمخرج باسل الخطيب إلي سيرة الزعيم جمال عبد الناصر
وملحمة ثورة يوليو عام 195 التي غيرت تاريخ مصر السياسي والاقتصادي
والاجتماعي من أقوي الأعمال التي سجلت تاريخ الزعيم والثورة، وكأنه أتي هذا
العام ليكون ردا مدهشا علي مسلسل الملك فاروق الذي كتبته د. لميس جابر
وأخرجه حاتم علي، الذي شاهدناه رمضان الماضي وتصحيحا لكثير مما فعله في
تحريك القلوب قبل العقول نحو الترحم علي زمن الملكية عبر البناء الدرامي
القوي المتماسك مستواه الإخراجي الرفيع، وبطله وهو السوري تيم الحسن ليضعني
مسلسل ناصر في ورطة ما بين إعجابي بمسلسل فاروق للأسباب التي ذكرتها بينما
كنت طول الوقت علي خلاف نهائي معه سياسيا، لكن انتصر علي ما يجب أن يتحلي
به الناقد في تعامله مع العمل الفني، أي أنني يجب أن ينصب نقدي علي تقييم
هذا العالم الذي جسدته الكاتبة، وحيث يصبح من الظلم إنكار حقها في احترام
رؤيتها، وهكذا كتبت وقتها محيية المسلسل باستثناء قناعاتي السياسية، وقلت
في نفسي إن الذي كان من المفروض تقديمه طبقا لقناعاتي وهو ما تجاهلته سواء
بدون قصد أو عن عمد وهو الحركة الوطنية التي ظلت تنمو وتتجمع في ظل هذه
الحقبة حتي عصفت بذلك النظام كله، فأنه سيأتي يوم من يرد علي ذلك دراميا
أيضا، وهو ما حدث فعلا وبسرعة هذا العام مع مسلسل جمال عبد الناصر، والذي
يعيدنا لما ذكرته قبل هذه الاستطراد، يفتح مناقشه غير مسبوقة فعلا ما بين
فكرين كل منهما ينطلق من قناعات سياسية وبعد وجداني واضح ما بين كاتبيهما،
الأول وهذا حقه في صدق عشقه لزمان أحداثه وأبطاله وشجونه تجاهه، وثانيهما
لم يتردد لحظة واحدة في نفي كل ما راهن عليه الأول من طرح ونتائج، أي
تجريده من المصداقية التي صنعها لدينا ، وإنه لشيء مذهل أن تنجح الدراما
التليفزيونية في الوصول إليه بطرح الفكر والفكر المعارض له، أي أن تضع كل
الوجبات أمام المشاهد مع وضد وعليه الاختيار بينها، نصف المسلسلمن هنا أكتب
هذا المقال أيضا بعد الحلقة السادسة عشرة من هذا المسلسل، ويمكن تسميتها
حلقة قيام الثورة، وتعمدت الكتابة عنه عند هذه النقطة، لأنها تشكل في
تقديري دراما متكاملة تماما كمسلسل فاروق العام الماضي حينما كتبت عنه بعد
حلقة 4 فبراير حيث تحددت ملامحه كاملة، وشكلت دراما متكاملة مثل 3 يوليو
195، والتي بعثها الكاتب وجسدها المخرج وبشكل يجعلك تنحني له احتراما، خاصة
وهو يتناول موضوعا يختلط فيه العام بالخاص أيضا بشكل كبير وهنا هي دراما
شخصية الزعيم والتاريخ الذي عاشه، بكل ما فيه من زخم سياسي واجتماعي
واقتصادي وثقافي صاحبه من طفولته، وسط الشعب المصري خارج قصور الملكية، حتي
قيامه وزملاؤه الضباط الأحرار بحركتهم، ليخرجوا هذا الوطن من هذا الحكم
الاستبدادي المنفصل عن شعبه وآماله، و في تقديري أيضا هي مسألة شاقة جدا
علي أي كاتب وأي مخرج في التوفيق بينهما أي الشخصي والحركة الوطنية، أو كما
في فاروق بينه وبين أمه ثم صراعه مع الأحزاب والاحتلال مثلا ، وبحيث لا
يفلت أحدهما لحساب الآخر، حتي وصولنا للحلقة السادسة عشرة في ناصر، وهنا
يتراجع الخاص لحساب العام وهو الاستيلاء علي الحكم والخلاص من هذه الملكية،
وكيفية نجاح هذا التنظيم في تحقيق حلم هذا الشعب بالخلاص، ومقدما صورة
شبيهة في دقائقها ما بين 4 فبراير الذي ينتهي بانهيار الملك وكل الأحزاب،
أمام حقيقة أن هذا الوطن محكوم بدولة محتلة تملي إرادتها وقتما تشاء علي
الجميع، وأن ما فعله هؤلاء الضباط الأحرار أيضا لم يكن مجرد نزهة علي عكس
كل ما سجل عن هذه الفترة سينمائيا تسجيليا أو في الأفلام الروائية التي
قدمت عنها. التنزه عن الرعايةفي هذه اللحظة يتبين أن مسلسل ناصر لم يتورط
إلي الدعاية المقيتة، كما حاول البعض تشويهه، خصوصا مع تطور الأحداث ونمو
شخصية الزعيم منذ طفولته ثم مع تقدمه في العمر، وخروجه من شرنقة الأسرة
وتفاصيل حياتها اليومية مثل كثير من الأسر المصرية المتوسطة والفقيرة
المملوءة بالمرارة من أوضاعها السيئة اقتصاديا واجتماعيا، إلي أحوال الوطن
بكل شرائحه والذي انغمس في نضاله ضد الفساد الذي عشش فيه، فوجد نفسه منساقا
بكل ما بث فيه طفلا من رجولة مبكرة كعادة كل من يتربون في جنوب مصر المعروف
بخشونته، وفي تعلمه مشتتا ما بين الصعيد والقاهرة والاسكندرية بالقياس
للفرق ما بينه وبين أبناء باكوات وباشوات أثرياء هذا الزمان ، ثم موزعا في
تربيته بين أمه وجده وعمه وزوجته التي لم تنجب واحتضنته كابن، وابيه موظف
البريد البسيط وزوجته الجديدة وأخوته منها بعد وفاة أمه مبكرا، وحيث ساهم
كل ذلك في توكيد صلابة شخصيته وقوتها وملامحها القيادية المعتدة بنفسها،
كما أنها فتحت عينيه علي موقعه في السلم الاجتماعي، وأيضا الفهم المبكر جدا
لأحوال هذا البلد سياسيا، رغم ما يبدو من طول عدد الحلقات التي تؤرخ لهذه
الفترة، واتهام البعض بأنها أضفت عليه أسطورية مقصودة، إلا أنني أختلف معهم
تماما فعبد الناصر لمن قرأ التاريخ جيدا حتي من أعدي أعدائه وهم الإنجليز
في وثائقهم السرية التي أباحوها في السنوات الأخيرة، وضعوه في مكانة تجعل
أعداءه والذين حاولوا النيل منه بعد ذهابه عليهم الخجل، كذلك لو كان هناك
بعض الأخطاء التاريخية لكني أتحدي أن تشكل في مجملها ما يقلل من قيمة
الزعيم والثورة، وهذا هو الفرق بين الموضوعية وبين الذاتية التي تحرك
أصحابها، إن المتابع المدقق لأحداث ناصر سيعرف مثلا وتلك حقيقة، أنه تحول
بعد دخوله الكلية الحربية بشكل استثنائي إلي قنبلة موقوته ظلت تنتظر الفرصة
لتنفجر مغيرة كل شيء، وهي معجزة لا تتحقق في التاريخ كثيرا، أما علي
المستوي الفني للمسلسل فإن أول ما يواجهنا هو شخصية الزعيم كما أداها النجم
مجدي كامل للمرة الثانية بعدما مثلها في مسلسل العندليب في تحد حقيقي بين
الممثل ونفسه.شخصية الزعيمكذلك في تحد لكل من أدوا الشخصية في أعمال أخري
مثل ناصر 56 والتي قام بها الراحل الكبير أحمد زكي إخراج محمد فاضل، ورياض
الخولي في مسلسل أم كلثوم إخراج إنعام محمد علي، وأهم ما نخرج به هو نجاحه
في هذا التحدي لنفسه ولغيره بامتياز، ويكفي أننا في كل لحظة كجيل عاش
الثورة منذ طفولته وأنا واحدة منه فتح عينيه عليها ورأي انتصاراتها قبل
انكسارها، نكاد نستعيد زمن الحلم القومي في صورته، بل إنه يرتفع عبر عمق
التناول الدرامي في النص وتفاصيله لأجمل وأفضل أداء وحس بالشخصية ليصبح
وثيقة ستظل في التاريخ، كما أنه يطوي صفحة إمكانية تناولها مرة أخري، يأتي
بعده الإخراج الذي قدمه باسل الخطيب، وهو أصعب ما أخرج في أعمال شاهدت
أغلبها، وإذا كان علي المستوي الفني يتميز أكثر في مسلسل نزار قباني كصورة
وحس شاعري، لكن في تقديري أن السبب هو طبيعة مسلسل عبد الناصر الذي يعج
بالأحداث، طفولته وحياته الأسرية والمواقف الصارمة والخشنة في صباه
ومراهقته وشبابه المبكر، من بلد تغلي ومظاهرات ومصادمات مع المحتل، ثم
المناخ السياسي الحزبي وشخوصه المتعددة قبل الثورة والتنظيمات العلنية
والسرية ومنها تنظيم الإخوان المسلمين، ثم مناخ وكواليس الصحافة، ثم ما بعد
دخوله الجيش، ثم حرب فلسطين التي اشترك فيها وتجسيد معاركها بما فيها من
مجاميع ومعدات وأماكن تصويرها، ثم نشأة ما سمي تنظيم الضباط الأحرار
وشخوصه، ومن ثم هذا الرقم الضخم لأماكن تصويره والتي أعتقد ستتضاعف في
النصف الباقي، ومع كل ذلك فإن باسل حتي هذه اللحظة نجح في العبور به إلي بر
الأمان، وإن كان يؤخذ عليه لجوءه إلي وسيلة الإخبار كسرد اضطراري وجفاف
عباراته في مشاهد عديدة، لكنها بالفعل مشكلة سيناريو ضخم حيث لو تحول هذا
السرد لأحداث وشخصيات أخري، لتضاعف عدد الحلقات ومن ثم ميزانيته وهي
الكبيرة من الأصل، أي التي كان لابد من مشاركة جهات عديدة في تمويله ومنها
الدولة، كمسلسل مفروض أنه يخلد ذكري زعيم وثورة تحتفل بها كل باعتبارها
امتداد لها ولكن هذا هو قدرنا يعرضون الملك فاروق ويحتفون به أرضيا بعد
انتهاء عرضه حصريا، بينما يتأبون عرض ناصر أرضيا رغم أنه عرض عليهم ذلك،
فهل يفسر لنا أحد سبب ذلك؟؟! ، تحية من الأعماق لكل من ساهم في تقديم هذا
العمل تمثيلا حتي أصغر أدواره وهم عديدون لا تكفي المساحة لذكرهم جميعا، ثم
جميع العناصر الفنية الأخري من تصوير ومونتاج وديكور واكسسوار ومكياج
وملابس، وأتمني أن أجد فرصة ثانية لتناول أحداث النصف القادم منها ولإعطاء
كل من أجاد في المسلسل حقه.
جريدة القاهرة في 23
سبتمبر 2008
|