هكذا
ياسادة ياكرام.. سنة وراء سنة، ورمضان بعد رمضان تأخذنا الدراما المصرية في
(هوجة) من المسلسلات التي تجتاح الفضائيات العربية، ما يمكننا من القول بأن
هناك كم متزايد من الإنتاج الدرامي التلفزيوني المصري الذي لا يُعنى بالكيف
بقدر ما يعنى بإثبات التواجد والاستمرار على العادة المعتادة في كل سنة.
يتأتى ذلك
من خلال تصور متوهم من قبل المشتغلين في حقل إنتاج المسلسلات مفاده أن ذلك
التواجد أصبح ضرورة لا غنى عنها، وأنه مولد ولا بد الخروج منه بجميع الحمص.
ولأن واقع الحال، بحسب الخديعة المعممة على الجماهير العربية، بأن رمضان
لايكون رمضاناً بدون مسلسلات وفوازير. وهو منطق ينطوي على براغماتية صارخة
تهدف الى تسويق منتجاتهم الرخوة، الأمر الذي تم التأسيس له جيدا على نار
هادئة خلال سنوات طويلة من أجل خلق الرغبة في المشاهدة التي يتبعها الشعور
بالحاجة للفرجة ثم السعي لإشباعها بالمتابعة الفعلية.
العاملون
في هذه التجارة. يعتبرون ما يقومون به عملاً خالصاً (بزنس) ويطلقون عليه
"شغل رمضان" ويجب عليهم أن ينجزوا أعمالهم بأسرع ما يمكن حتى يتم عرضها في
الوقت المحدد مع بداية الشهر. والواضح أنهم في سباقهم هذا يتخلون عن أبسط
مقومات الفن أومسؤولية تثقيف الجماهير أو حتى إمتاعهم. ولعل المقابلة التي
أجريت مؤخراً مع المخرج المصري مجدي أحمد علي، وهو مخرج قادم من عالم
السينما ليخرج عمله التلفزيوني الأول الموسوم بـ (الحب موتاً) تكشفت بعضا
مما يدور في كواليس إنتاج المسلسلات وما يجري فيها من عمليات “سلق للبيض”
الفاسد.
على أية
حال، وكحقيقة أصبحت راسخة منذ سنوات عديدة تصل الى العشرة مواسم
رمضانية،نجد أن الدراما المصرية لم تطرح أية أفكار فنية جديدة. ولم تنتهج
أية أساليب مختلفة. بمعنى أن كل ما يشاهده المتفرج، أو الغالب الأعظم منه.
يندرج تحت مظلة “الواقعية الإجتماعية” أو”التاريخية المصرية” (أي التاريخ
بوجهة نظر مصرية). وإن كانت هناك تجاوزات محدودة وعابرة مثل الجاسوسية في
“رأفت الهجان” ـ يجري الآن تقليده بمسلسل شبيه ـ أو السياسية في “برتوكولات
صهيون” أو التربوية في “يوميات ونيس” أو الأيديولوجية في “العائلة” عند
مطلع التسعينات، إلا أنها تجارب عابرة،كما أسلفت، وهي خاضعة بقضها وقضيضها
للعناصر الإنتاجية والمنهجية ذاتها التي تستخدم في مسلسلات الواقعية
الإجتماعية. الأمر الذي أسر المشاهد في نطاق ضيق،وحصر مفهومه عن الدراما
بما شاهده ويشاهده وسيشاهده. وأدى ذلك الى تحجيم هامش القيمة المعرفية
المضافة الى وعيه أو الفنية المضافة الى ذائقته ومتعته، وأصبحت عملية
التلقي لديه لا تتجاوز في أحسن حالاتها سوى البقاء مشلولا ومستسلما
للمألوفات الحميمة التي إعتاد عليها، والتي شكلت ورسخت ما يمكن تسميته
بثقافة المسلسلات والتي أيضاً أدت بدورها الى تحنيط الذائقة وتسطيح الوعي
الجماهيري وتوجيهه الى إهتمامات هشة.
إن تكرار
حضور صورة الوجوه الشائخة والمترهلة من الأجيال القديمة من الممثلين
و”المشخصاتية” أصبح إستهلاكا يدعو للسخرية أو للتأسف على أيام فلان من
الممثلين عندما كان في ريعان شبابه أو على علاّنة التي تكرمشت وذهبت جذوة
جمالها، وان لعبة الإستعراض والإغراء بفتنة الوجوه الجديدة والأجساد
المثيرة من الشبان والفتيات اللذين يهتمون بالظهور في “نيولوك” متجدد
وبملابس تلهج بـ “السكس” لهي لعبة قصير النفس ولا تصمد لأنها ببساطة لعبة
قائمة على فكرة الموضة.
هذا
المشهد الموغل في الفجاجة لا يبشر بحدوث أية قفزات نوعية في دراما
المسلسلات، فليس هناك ما يبهج، بحسب عبده خال، وليس هناك ثمة جديد أو مدهش
أو مفاجيء. في حين أننا لو قارنا على سبيل المثال وعلى مدى خمسة عشر عاماً
على الأقل مدى الحرفية والمتعة المتحققة عند مشاهدة أي حلقة من حلقات مسلسل
“مرايا” الرمضاني الذي يقدمه الممثل ياسر العظمة.أو العديد من المسلسلات
السورية التي قدمت خلال العشرة سنوات الأخيرة إبتداء من “نهاية رجل شجاع” و
مروراً “بسيرة الجلالي” و”شو هالحكي” وحتى مؤخرا “أبناء القهر” و"باب
الحارة الأول والثاني" والكثير من المسلسلات التي قدمت تجديداً ملحوظاً في
الشكل والجوهر والقيمة : القصة، الصورة، الأداء، الإخراج، السيناريو، مواقع
التصوير، المؤثرات البصرية والسمعية. المكياج. الملابس.. الى آخره. وهي دون
شك قد برعت في خوض إتجاهات عدة لم يكن يعرفها المشاهد العربي من قبل :
“الفنتازيا التاريخية. الفنتازيا الإجتماعية. الكوميديا السوداء. دراما
العبث، دراما اللامعقول، التاريخية التحليلية والإسقاطية (حرب البسوس،
الزير سالم أو ملوك الطوائف ومؤخراً أبي جعفر المنصور).. وعند تناولها
للواقعية الإجتماعية فقد تناولتها بعناصر وأدوات ورؤى متقدمة ومشتغلة بحبكة
بفنية مدروسة:“الفصول الأربع”، “أيام شامية”، "أهل الغرام"، "سيرة الحب"،
"أهل الراية".
إن ما
تقدمه الدراما المصرية شيئاً آخراً غير ما يمكن مقاربته بجماليات الدراما
الراقية. فما تعرضه ما هي إلا تنويعات على فكرة التسلية وعروض “الكباريه”
والسعي وراء أكذوبة ( الجمهور عايز كده) تحت وهم (معالجة قضايا المجتمع).
ما
تتناوله ما هو إلا شكل من أشكال “التشخيص”. إذا إعتبرنا جدلا أن كلمة
التشخيص تعد مصطلحاً مشتقا من تسمية الممثلين بـ”المشخصاتية” في العامية
المصرية، فإن “التشخيص” يقوم على شروط معينة ترتكز على أطر محددة وطرق
صارمة “مجربة” ومكررة ولا تقبل أي نوع من التجديد أو الإبداع. للدرجة التي
أصبحت بمثابة القوانين التي تدرس في معاهد السينما والتمثيل والإخراج
المصرية، وهي لا تسمح بأي حال من الأحوال بتمرير أية إجتهادات أو خروجات.
و إذا
تناولنا منحى الواقعية الإجتماعية بشيء من التحليل، نجد أن المؤلف المصري
لا يذهب الى أبعد من فلك المشاكل الإجتماعية الرتيبة التي تتعلق بتبعات
علاقات الحب والزواج وتقاطعهما مع الماديات العصرية و الصراعات العائلية.
وبالطبع لا تخلو من أجواء صراعات سوق العمل وعالم الشركات، وعلى ذات
المنوال لا يخرج التأليف القصصي في البيئات الفلاحية أو الصعيدية عن تلك
الأطر المحكمة.
من زاوية
أخرى لا يغيب عن الملاحظ بإن المسلسلات “المصرتاريخية” التي طالعتنا منذ
السبعينات بداية من مسلسل “على هامش السيرة” وحتى الآن لم تقدم وفق مستويات
إخراجة متقدمة،فلا زالت الصورة بما تحتويه من تفاصيل الديكور والأزياء
والملابس تفيض بالركاكة والفبركة. وللغرابة أن نمطية المعطى النهائي لا
ترتهن على واقعية تاريخية حقيقية أو واقعية فانتازية أو سريالية أو
إنطباعية أو تحليلية.. إنها واقعية تخيلية تاريخية مصرية صرفة، لا تستند
الى دراسات إعدادية جيدة، فمن يقومون بمراجعة المادة العلمية والتاريخية لا
يجهدون أنفسهم في تقصي كثيراً من التفاصيل الهامة التي تتعلق بجزئيات
الحياة الحقيقية في الحقبة التي تدور فيها الأحداث.
ظلت طرق
التمثيل وأداء الأدوار جامدة لا تقبل البتة أية إبتداعات، فالدور الذي
يضطلع به البطل الأساسي للعمل، والذي عادة ما يلقب بـ ( الفنان القدير) يجب
عليه أن يتقن الطرق التقليدية في الأداء.. وأتعجب،. وقد تشاركونني التعجب
من أن هذا “الفنان القدير” الذي أصبح هو الآخر مدموغ بنمطية الأداء.. كغيره
من الممثلين في الأدوار المساندة والأدوار الشرفية وحتى الثانوية. فهو إذا
أراد أن يؤدي دور الشرير مثلاً فلا بد له من ظبط أداء حركات بعينها ولا بد
أيضاً من التلفظ بألفاظ معينة وفق طريقة دقيقة،ويتوجب عليه أن يرسم بوجهه
تعبيرات محددة.. الخ، وكذلك الحال إذا أراد القيام بدور أعمى مثلاً , أو
عمدة، أو رجل أعمال، أو رب عائلة، أو صعيدي، أو فلاح فلا بد من إتقان الأسس
وإتباع المنهج الأدائي الصارم الذي وضعه السابقون من (عمالقة الفن) في
(الزمن الجميل) كما يصفون.
إن نمطية
الأداء وترسيخه لا تنطبق فقط على الشخصية / الكاركتر، بل على الحالات التي
تمر بالشخصية. فمثلاً عند أداء حالة السكران لا بد أن يترنح الممثل في
مشيته ويسبل يديه ويرفعهما بتراخ وعشوائية وأن يسهََم عينيه ناظراً الى
الأرض وإذا رفعهما فإنه يبقي على النظرة من أسفل مع بقاء الرأس مطأطأ،
ويلزمه أيضاً أن يثقل في كلامه وأن يشهق بين كل جملة وأخرى. لا أبالغ إذ
قلت أنني رأيت في حياتي عشرات الآلاف من السكارى ولم أجد واحداً منهم يتصرف
ويتكلم مثل ما يحدث في التمثيل المصرية..
وكذلك
عندما تنوي إحدى الممثلات القيام بدور بنت البلد اللعوب فهي أولا يجب أن
تجهز الملاية اللف،مع العلم إنها إنقرضت منذ 40 سنة على الأقل، ويفترض أن
ترتدي فستان من قماش الساتان اللامع المكسَم على الجسد بحيث يبرز المفاتن،
ولا بد من الطرحة “اليشمك” والمنديل “أبوشناشن” والخلخال في الرجل اليسرى،
والأقراط الكبيرة المتدلية من حلمتي الأذنين.. وغير ذلك عليها أن تتقن
الضحك بغنج معين ـ تعرفونه جميعا ـ وأن تكثر من قولة “يالدلعدي” و “ياروح
أمك” و “ومايحكمش”، وما إلى ذلك من العبارات واللزمات السوقية التي تدخل
ضمن وصفة الدور..
وإذا
إنتقلنا الى تنميط السيناريو والإنغلاق داخل الأستديوهات فسوف نتحدث ولا
حرج، وكذلك تقنيات التصوير ومحدودية الكادر الذي يعيق حركة الممثل
وتلزمه،من ضمن ما تلزمه، بأن يدير ظهره الى زميله أثناء الحديث معه خلال
المشهد.. أماالزوايا الأحادية في حركة الكاميرا والتي لا تعطي المشاهد فكرة
بصرية كاملة عن موقع الحدث فهي تقنية خانقة للمثل والمشاهد معا. علاوة على
نمطية المقدمات وطريقة عرض لقطات مجزئة من حلقات المسلسل أو ظهور صورة
الممثل مع نزول إسمه وغالبا ما تصاحب بأغنية كلاسيكية اللحن كلماتها تلهج
بالخطابة والوعظ والحكمة وغدر السنين. كل تلك الأساليب ساهمت في إحجام
أعدادا متزايدة من المشاهدين العرب من التعاطي و”التفرج” على تلك المسلسلات
وعلى رفض كل ما يسمى بدراما مصرية، وهو في نظري الشيء الوحيد المبهج في
الدراما المصرية على حساب السورية.
khalidrabeei@hotmail.com
* المقال
خاص بشبكة "شعاع" الإعلامية.
شبكة "شعاع" في 18
سبتمبر 2008
|