الحصار
الدرامي المضروب على المشاهد العربي في شهر رمضان مدعاة للتوقف، وقد وصل
إلى مرحلة صار فيها محاولة خرقه أمراً طبيعياً، بعد انتصاف
الشهر، وبالتالي انتصاف
المسلسلات واتضاح رؤيتها وبنائها وما لها وما عليها، إذ أمست المسلسلات في
مرحلة
الانتقاء بعد أن كانت في البداية خاضعة للالتقاط. يجب التأكيد بداية أن هذا
الموسم
كان أقل أهمية وعلى صعد عدة من سابقه، وكان على شيء من تكرار
ما نجح في منافسة
المكرر للمكرر عنه، وبقيت اللعبة تسويقية بامتياز، من دون أن يخفى دورها
الدائم في
اجتذاب المشاهدين لمسلسل دون آخر، ولتكون هذا العام أعتى وأشد
معتمدة على وصفات
الحارة والمضارب والخيل والسيف، والتي تمتلك الإصرار على عودة إلى أزمنة
افتراضية.
الدراما
السورية وب 20 مسلسلاً بقيت الأكثر حضوراً، ولتبقى سلبياتها هذا العام
لا شيء مقارنة بالمحيط بها من كوارث درامية مصرية وخليجية،
محافظة على المزايا التي
ترضي شراهة القنوات الفضائية مع خروقات قليلة مقارنة بمواسم سابقة، ينتصر
فيها
الهامشي - بالمعنى التسويقي- على الآمن ومضمون النتائج،
والخروج بمسلسلات تتخطى
«السياحية»
إلى فضاء الهموم الواقعية والانشغال برسالة الفن الحقيقية، ففي حالات
عدة كانت هناك دائماً مسلسلات سورية تفرض سطوتها على القنوات الكبرى
«مرغمة» ويكفي
استرجاع مسلسلات مثل «غزلان في غابة الذئاب» إخراج رشا شربتجي
و«الانتظار» إخراج
الليث حجو للتدليل على ذلك.
لعنة
أول
المخاوف التي يثيرها استرجاع المسلسلين سابقي الذكر تتمثل بـ«الاستديو»
ولعنته التي قد تطال منجزاً استثنائياً لهذه الدراما التي اعتمدت التصوير
الحي ومن
قلب
الشارع، ومجاورة خاصة للحياة كما هي في الواقع، ولعل الهواء الخانق
للاستديو
يأتي هذه المرة من الاصرار على العودة إلى أزمنة ماضية مبنية وفق إملاءات
الالتصاق
بالفنتازيا، والتي كانت دائماً موجودة في الدراما السورية، لكن
دون هيمنة كما تبدو
عليها الصورة الآن.
يبرز لدى
حديثنا في هذا المنحى مسلسل «باب الحارة» بجزئه الثالث، وكذلك
الأمر بالنسبة لمسلسل «الحوت» إخراج رضوان شاهين وبطولة بسام
كوسا وسلوم حداد، الذي
لا
يكتفي بالنطاق الضيق للاستديو بل يزيد من ضيقه ببنائه البعيد عن البيئة
التي
يقدمها والمتمثل بمدينة اللاذقية على الساحل السوري، وعلى صعد عدة، سواء في
البيوت
الدمشقية غير الموجودة أساساً في تلك المدينة، أو في تفاصيل
كثيرة لا تعتني بالمحيط
ولا تمنح القصة التي يقدمها المسلسل مساحة حيوية تتحرك فيها، مع التأكيد
هنا أن
التركيز على البيئات السورية المتعددة أمسى سمة للأعمال الدرامية، فأمام
«باب
الحارة» يظهر هذا العام مسلسل «باب المقام» الذي يضع الحارة
الحلبية في مواجهة
أختها الدمشقية، في سيناريو كتبه محمد أبو معتوق مأخوذ عن مسرحية للكاتب
وليد
اخلاصي، وإخراج فهد الميري، كما أن مسلسل «أهل الراية» إخراج علاء الدين
كوكش يضع
المشاهد مجدداً أمام مقاربة أخرى للحارة الدمشقية و«سوق
ساروجة» وعلى قدر لافت من
خلال محاولة تصوير دمشق عام 1898 بقدر لا بأس به من الواقعية على نطاق بناء
الشخصية
على الأقل والابتعاد عن «السياحية»، فكبير الحي أبو حسن ( جمال سليمان)
تاجر معروف
يعيش مآزقه وتناقضاته جنباً إلى جنب مع لعبه دور الكبير «حلال
المشاكل»، وليأتي «العكيد»
مرسوماً بشيء من الواقعية، بعيداً عن أن يكون «معصوماً عن الخطأ» كما في
«باب
الحارة»، فهو طيب وساذج وهزلي ولعل الأقدر على أن يكون كذلك هو ناجي جبر
«أبو
عنتر» بكل تاريخه الطويل في تجسيد «العكيد الشامي الطريف»، ولتتنوع
الشخصيات بتعدد
نجوم الدراما السورية المشاركين في هذا العمل.
غياب
الواقعي
الإيحاء
الأول الذي يمنحه ما تقدم يضيء
غياب الواقعي والراهن عن المسلسلات السورية، لكن هذه الحقيقة سرعان ما تبدو
جزئية
مع
الالتفات إلى جديد المثنى صبح «ليس سراباً» الذي قدم العام الماضي مسلسلاً
مميزاً بعنوان «على حافة الهاوية»، وليكون سرابه هذا العام على
شيء من سد فجوة
الراهنية، حيث يقارب هذه المرة موضوعات حية وساخنة في الحياة السورية
خصوصاً
والعربية عموماً، سواء على صعيد رصد علاقة المثقف بالمجتمع، أو تسليط الضوء
على
التجاور المسيحي الاسلامي وغير ذلك مما يحمل شيئاً من النقدية
الرصينة لظواهر
اجتماعية تجد من الطبقة الوسطى مساحة لكشفها وتعريتها، ومحاولة مبنية على
أرضية
درامية تقارب جرائم الشرف والتعصب الديني والممارسات الاجتماعية المغلوطة،
مع مساحة
لتجاور العلماني مع الديني، وبمشاركة كل من عباس النوري وسلوم
حداد وكاريس بشار
وغيرهم.
الواقع
يحضر أيضاً في مسلسل «رياح الخماسين» إخراج هشام شربتجي لدرجة منع فيها
من العرض على القناة الفضائية السورية الرسمية وقناة «دنيا»
السورية الخاصة، من دون
شكاوى عشائرية أو قبلية هذه المرة بل لكونه يسرد حياة معتقل سياسي بعد
خروجه من
السجن واصطدامه بواقع قاسٍ ومغاير. «رياح الخماسين» الذي مازالت تعرضه قناة
«الجديد» اللبنانية تتباين سويته الفنية، ويمكن لفايز قزق أن يقدم مشهداً
استثنائياً، وليجاوره مشهد تعوزه الفنية.
وسط كل ما
تقدم يسطع الجزء السادس من «بقعة ضوء» إخراج سامر برقاوي هذا العام
ليكون مصدر طمأنينة على الكوميديا السورية، وتأكيد على قدرة
هذا المسلسل على تقديم
الكثير دون التخلي عن مولداته الرئيسة وآليات مقاربته المعروفة، ولعل
«الشباب»
وأقصد هنا باسم ياخور وأيمن رضا واندريه اسكاف ونضال السيجري وباقي الشلة
مازالوا
قادرين على تقديم لوحات ساخرة من الواقع السوري، مصنوعة بشغف وخفة وتميز،
والتحلي
بروح نقدية لا توفر شيئاً وتطال الحاضر والماضي والمستقبل، مع
رصد التغيرات التي
تجعل من «إضراب» عمالي وموافقة رب العمل على المطالب وزيادة الرواتب مكسباً
له ما
دام يملك الهواء الذي يتنفسه المواطن، بينما يتحول «الرجل البخاخ» إلى
شخصية مماثلة
للرجل العنكبوت «سبايدر مان» لكن لمحاربة الفساد، وغيرها من
لوحات تطالب بعودة «أبوعصام»
إلى باب الحارة، وصولاً إلى «الاحدعشري»، والمحقق المسكين الذي يقع تحت
رحمة وضعه الاقتصادي المزري، أو ما أثارته لوحة «كرت عزيمة» من استياء
«الأمن
الجنائي السوري» لسخريتها من عناصره كما أورد موقع «سوريا
ستيبس».
ناقوس خطر
نهاية يجب
التأكيد أن ما تقدم نابع من غيرة
حقيقية على الجرعة التقدمية والنقدية لهذه الدراما، والتي تشكل في جانب
منها عصب
خصوصيتها، والدافع لقرع ناقوس الخطر كلما قل منسوبها، كونها
ولدت من رحم ثقافي
يتطلع نحو عالم أفضل، من دون أن تركن في مسلسلات كثيرة نحو السائد
والمتعارف، بل
على العكس فقد كانت تطمح لكسر السائد والبحث عن آفاق جديدة، ربما هذا الأمر
متوافر
فقط هذا العام بسوية فنية جيدة في «ليس سراباً» و«بقعة ضوء».
ومن ناحية
أخرى فإن الحديث عن الدراما السورية هو حديث عن الدراما العربية
عموماً، فالأمر هنا يمتد ليتخطى موضوعاتها إلى الممثلين
والمخرجين وجهات الانتاج
ومواقع التصوير، ولعل مسلسلاً مثل «أسمهان» يضيء بقوة المقصود هنا، وكذلك
الأمر
بالنسبة لـ«أبوجعفر المنصور»، وكلاهما من إخراج التونسي شوقي الماجري،
وطواقم
التمثيل فيهما تشمل سورية ومصر والأردن ولبنان والمغرب وغيرها
من دول عربية، طبعاً
هذا تكرر ويتكرر إلى أن أصبح عرفاً سورياً، ويمكن الحديث إلى ما لا نهاية
عن
مشروعات تحمل هذا الطابع، ويمكن العودة إلى عشرات المسلسلات للتدليل على
ذلك.
الإمارات اليوم في 18
سبتمبر 2008
|