مختلف،
متفرد، مميز، مشاغب، عنيد،
محتد برأيه ولا يقبل أن يغيره مهما كان، معارضا أحيانا عن حب وأحيانا أخرى
بسبب
الاختلاف الشديد في التفكير والآراء، همه الوحيد هو أن يعبر عن هموم
المواطن المصري
البسيط.
يبدو أن
نشأته في الإسكندرية قد طبعت شخصيته، فهي مدينة شديدة التنوع
والجمع بين مختلف الأجناس والأطياف والأفكار، ''فجو''نشأ فيها
وهي تحتضن اليونانيين
واليهود والأرمن والإنجليز والفرنسيين.
شاهين كان
دائما حتى في آخر أيامه كطائر
النورس يهوى دائما التحليق والطيران إلى أي مكان يستطيع أن يذهب إليه.كان
يحلم بأن
يكون الإنسان فقط إنسانا، لا يوجد اعتبار لأي شيء آخر، فقال
على لسان محمد منير ''لا
يهمني اسمك، لا يهمني عنوانك، لا يهمني لونك، ولا ميلادك، مكانك، يهمني
الإنسان ولو ملهوش عنوان، هي دي الحدوتة، حدوتة مصرية''.
أجمع الكل
على عبقريته
المميزة، لكنه عندما سئل عن تعريفه للعبقرية قال ''إن تجعل نفسك مستعدا
لالتقاط
الفكرة من رأسك إذا جاءت، وألا تسأل كيف وأين يأتي الحب، وألا تجعل هناك
وسيطا بينك
وبين ربك، وعن نفسي أنا لدي حوار يومي بيني وبين ربي، أسأله كل
ما أريد وأناقشه،
هكذا أنا كل شيء ببساطة''.
يعتبر
يوسف شاهين المخرج المؤلف الأول في تاريخ
السينما العربية، كان يقتدي دائما بفلليني وبازوليني وبوب فوس، كان رغم
ذاتيته
المندفعة كثيرا في أفلامه، لم يتخل عن هموم العامة، والتعبير
دائما عنها، كان
ملتزما بالقضايا العربية، كان أول من صرخ ''هنحارب هنحارب''في فيلم
''العصفور''،
بعد نكسة ,67 مواقفه كانت دائما واضحة ثابتة لا تتغير، سياسيا وفنيا، وكان
يفاجئ
المشاهد في كل فيلم بتفجيره تابوهات لم يكن حتى ممكنا الاقتراب منها.
تاريخ
العالم العربي في أفلام الأستاذ
لو نظرنا
إلى أفلام يوسف شاهين من ''بابا أمين''
وحتى فيلمه الأخير ''هي فوضى''، نجد تأريخا واضحا للمجتمع العربي عموما
والمصري
خصوصا، ففي ''بابا أمين'' الذي قام ببطولته ''حسين رياض''، كان عن نكبة 48
ذات
فوائد، فهي أيقظت الوعي العربي والإسلامي بخطورة ما يجري على
أرض فلسطين، وكيف ظهر
ذلك في مصر بثورة 23 يوليو/تموز بقائدها وزعيمها جمال عبد الناصر، التي قضت
على
الإقطاع والملكية الفاسدة، وزرعت اعتزازا وكرامة لدى المواطن العربي من
المحيط إلى
الخليج بعروبته، وإنه لا مكان للاستعمار على الأرض العربية بعد
اليوم.
''صراع
في
الوادي'' حلل الطبقات المجتمع قبل الثورة، وكيف هناك طبقة
واحدة هي التي تتحكم في
مصير سائر الطبقات، ولأول مرة هذا الفيلم رأينا إعدام شخص برئ، وكان يقصد
براءة
فلسطين من مؤامرات الاستعمار الغربي، والتأكيد على أن الملكيات العربية
الإقطاعية
في ذلك الوقت، لن يحل هذه القضية، ولن يحسم الصراع
العربي-الإسرائيلي، وإنما يجب أن
نلجأ إلى الشعب، إلى العمال والفلاحين، فهم أصحاب الحق، وهم من سيحررون
الوطن.
ويرى
الناقد المصري رفيق الصبان، أن أفلام شاهين بالفعل هي تأريخ لمصر
وللعالم العربي، وقام بتقسيمها إلى مراحل، ما قبل الثورة وما
بعد الثورة، فالمرحلة
الأولى شملت الإقطاع الزراعي والاستعمار الإنجليزي، والقضية الفلسطينية،
وفساد
الملك وحاشيته، ونجدها في أفلام ''الناس، النيل، الأرض، إسكندرية ليه،
وصراع في
الوادي.
فجر يوم
جديد
هي فعلا
كانت فجرا جديدا فأفلام ما بعد الثورة، ركزت
على التأميم والاشتراكية، ثم النكسة والقمع السياسي والفكري وزوار الفجر في
''العصفور، والاختيار وعودة الابن الضال''. وانهيار الطبقة الأرستقراطية في
مصر
ومرحلة
الانفتاح في عهد السادات، وحتى التحولات وسيطرة رأس المال حاليا في
''الآخر''.
ووثق يوسف
شاهين معركة الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي عبر
فيلم ''جميلة بوحريد'' المناضلة الجزائرية الشهيرة، التي أصبحت رمزا لبلد
المليون
شهيد، وفي الوقت نفسه فإن هذا كان تعبيرا عما يحدث داخل مصر من
مساندة لهذا الثورة
حتى تستقل الجزائر.
مرحلة
أفلام ما بعد النكسة، حاولت أن تبحث وتتساءل عن ما
حدث، وذلك عبر 4 أفلام هي ''الأرض''، ''الاختيار''، ''العصفور'' و''عودة
الابن
الضال''، وحاول شاهين أن يبحث عن أسباب النكسة، وكان جليا
تأثيرها الكبير
عليه.وبالتأكيد فإن مشهد محمود المليجي وهو يسحل من قبل الشرطة هو لا يزال
متمسكا
بأرضه رغم ذلك على أن المصريين لن يفرطوا في أرضهم مهما حدث.
''الاختيار''،
كان
مواجهة الهزيمة بكل وضوح، ومسؤولية المثقفين خصوصا والمجتمع
ككل عن هذه الهزيمة
التي حدثت.
فيلم
''العصفور'' عرض الواقع المصري في تلك الفترة بكل جرأة، وعبر عن
غضب الشعب من المؤسسات الحكومية الفاسدة المرتشية، وتم منع
الفيلم من العرض إلى ما
بعد حرب أكتوبر، مما جعل اليأس يتسرب إلى شاهين، وخرج إلى النور بعدها
فيلمه ''عودة
الابن الضال''، وحاول أن يقدم فيه الحل وذلك عبر ضرورة العلم والتعلم،
والسعي إلى
تحقيق الأحلام مهما حدث، والإيمان بدور الشباب، وأهمية البناء،
والثورة على
المغتصب، والأمل في المستقبل.
سيرته
الذاتية وأميركا
وقدم لنا
جو حياته وأبرز
محطاتها من خلال ''إسكندرية ليه''،
''حدوتة مصرية''، ''إسكندرية كمان وكمان''،
و''إسكندرية نيويورك''، وكل هذا الأفلام تناولت حياته من خلال تاريخ مصر،
خصوصا
علاقته بأميركا، فعلاقته بأميركا تشبه علاقة مصر بها، فقد صور أميركا
كامرأة ساقطة
عندما صبغ وجه تمثال الحرية بمساحيق التجميل الفجة، وصنع فلقة
بين أسنان وجه
التمثال، وألصق به ابتسامة سخرية بشعة، ووصف أميركا نفسها من قبل بأنها
عاهرة.
ويجمع
النقاد على أن شاهين لم يقدم أفلاما من أجل الترفيه، بل إننا سنجد
تأريخا لمراحل مصر المختلفة من خلال أفلامه.
المحطة
الأخيرة لشاهين ''هي فوضى''،
طرح فيها خطورة السلطة المطلقة؛ لأنها مفسدة مطلقة، حيث أن الأزمة لا تكمن
فحسب عند
فساد الحاكم، فبتبعية سوف ينتج هذا الفساد فسادا أصغر في كل المستويات
والطبقات.
أفلامه
ليست مفهومه
هذه
المقولة التي نجد الغالبية العظمى ترددها
وهي التهمة الجاهزة لدى منتقدي شاهين، لكن بعد هذا السرد السريع لأبرز
أفلامه نجد
إنها ليست طلاسم لا يمكن فكها، بل هي تعبير عن المواطن البسيط،
ويبدو أنه بسبب جرأة
أفلامه، قامت بعض وسائل الإعلام الحكومية بالترويج لفكرة أن أفلامه غامضة.
ويرى
البعض أن سبب هذا الغموض هو محاولة شاهين الدائمة في التعبير
والحديث عن نفسه
وهواجسه الذاتية، وخلط ذلك بهموم الوطن، ليؤلف خلطة فنية اجتماعية سياسية
ذاتية.
''هاملت''
حلم لم يتحقق
من أكثر
الشخصيات التي أحبها يوسف شاهين كانت
شخصية هاملت لويليام شكسبير، وكان يحلم دوما بتجسيدها، بل إنها تحولت إلى
ظل لمعظم
شخصيات أبطاله، بل أنه كتب السيناريو عنه برؤية معاصرة، وأعاد
كتابته أكثر من عشرين
مرة، وكان يحلم بأن يجسدها محسن محي الدين نجمه المفضل، ومن بعده أحمد يحيى
بطل
''إسكندرية
نيويورك''، ورغم هذا الحب الكبير لهاملت إلا انه ظل يؤجل تنفيذ المشروع
فهل كان يخشى مواجهة هاملت؟خصوصا وإنه فسر نفسه بأنه شخصية معقدة ''أنا 14
شخصية في
بعض''.
مع جمال
عبد الناصر
سافر
شاهين متطوعا إلى احتفال جمع الرئيس جمال عبد
الناصر والزعيم السوفيتي نيكيتا خورتشوف، وهما يضغطان على زر تفجير الجبل
الجرانيتي
في أسوان، إيذانا بتحويل مجرى النيل العام 1964 حين سمح له عبد
الناصر بالتصوير
الحي، وحين جاء موعد الضغط على الزر، اقتحم شاهين المنصة وهمس في أذن
الرئيس، ''لو
سمحت يا ريس، لا تضغط على الزر إلا بعد أن أقول لك أوكي''
فابتسم عبد الناصر
موافقا، وبعدها بثوان قال أوكي يا ريس، فضغط عبد الناصر ليكلف بعدها بسنوات
بإخراج
فيلم ''الناس والنيل''.
يا حرية
فينك فينك
كانت
الحرية هي الهواء الذي يبحث
عنه دائما، فقد خرج من بيته ليشارك في اعتصام نقابي العام 1988 يطالب
بتغيير
اللوائح النقابية، تضامن مع أهالي جزيرة دهب ضد تحويلها إلى منتجع سياحي
والتصدي
لقرار إخلائها، شارك في مظاهرات الطلاب والمثقفين أمام جامعة
القاهرة ضد غزو العراق
العام ,2003 ليظهر مدى الغضب العربي المتصاعد من الغطرسة الأميركية، وأثر
ذلك على
منع فيلمه ''أسكندرية نيويورك'' من العرض في مهرجانها السينمائي. ورغم
بلوغه
الثمانين، إلا أنه شارك في أحد مظاهرات حركة كفاية، وكاد يموت
اختناقا من القنابل
المسيلة للدموع، ووجه انتقادات حادة للرئيس مبارك والانتخابات الرئاسية،
وأعلن أنه
لن
ينتخبه ولن ينتخب نجله، وأن هذه الانتخابات مزورة، منددا بالقبضة الحديدية
للشرطة التي أرهبت الشعب المصري، وكان فيلم ''هي فوضى''معبرا
عن هذه الحالة القمعية
والفوضى التي يعيشها المجتمع المصري.
ابن بلد
يأكل الكشري ويشتري الخضار
أما
مع الناس فشاهين كان متواضعا كريما وطيبا، يأكل مع عمال النقل
الكشري ويضحك ويسأل
عن
أحوالهم، وكان يحب أن ينزل بنفسه إلى السوق ويشتري الخضار والفواكه بيديه.
الوقت البحرينية في 28
يوليو 2008
|