شكل يوسف
شاهين تياراً سينمائياً وحده في العالم العربي، فهو السينمائي العربي الذي
استطاع أن يبدع في هذا المجال الفني الصعب، ما يمكن أن نطلق عليه اسم سينما
المؤلف أو السينما العالمة / المثقفة، قبل أن ينتبه إليها غيره من
السينمائيين العرب، وهو بالتالي، بعمله المتميز هذا، تمكن منذ بداياته
الأولى من لفت الاهتمام إلى إبداعاته الجريئة هذه، بحيث عُدَّت أفلامه، لا
سيما الأولى منها من أهم السينما العالمية لا العربية فقط، يمكن الإشارة
هنا إلى فيلميه النادرين: «باب الحديد» و «العصفور» باعتبارهما البداية
الفعلية لهذا الاتجاه مروراً بثلاثيته الإسكندرانية المعروفة: «إسكندرية
ليه» و «حدوثة مصرية»، و «اسكندرية كمان وكمان» لتصبح فيما بعد رباعية
سينمائية بفيلمه الجميل «اسكندرية - نيويورك» على غرار «رباعية الإسكندرية»
الروائية للكاتب البريطاني لورانس داريل. وحتى نقترب من عالمه المثير هذا،
سنحاول الحديث عن أهم مميزات فيلمه «المهاجر» كنموذج فني لذلك، هذا الفيلم
الذي وإن انحرف نوعاً ما عن الخط السينمائي الذي كان يسير فيه يوسف شاهين،
فإنه مع ذلك، حمل الكثير من بصمات هذا الخط، وهو ما يهمنا توضيحه ومناقشته.
تقابلات
إن أول
هذه المميزات يتجلى في لعبة التقابلات المتضادة، فهناك صراع بين الإنسان
والطبيعة من جهة أولى، وهناك صراع بين الإنسان والإنسان من جهة ثانية، ثم
هناك صراع ثالث يتجلى في تلك الصراعات العميقة التي تحدث داخل نفسية
الإنسان ذاته، نوازع الشر ونوازع الخير الراسخة فيه، هذا الصراع الأخير
الذي لعله أشد قوة وتأثيراً في سيرورة مجرى الأحداث في الفيلم، من تأثير
النوعين الأخريين، وهو أيضاً الذي سيسعى الفيلم الى التركيز عليه من دون
إغفال صراعات الأخرى، إذ اٍنه سيمتد فيها في شكل عميق جداً. ولقد تمت عملية
توضيح ذلك منذ البداية، إذ انفتحت عين الكاميرا على صحراء شاسعة، تمتد إلى
ما لا نهاية، ثم سرعان ما تركزت على الناس الذين يقطنون فيها، لتنحصر
أخيراً في أهل «رام». هناك أسرة كبيرة تتكون من شيخ تظهر على ملامحه أمارات
الهيبة، المستمدة من عمق التجارب الكبيرة التي مر بها، وهناك أبناؤه
الأقوياء الذين يشكلون معاً جماعة قوية متماسكة، وهناك أخ من أم أخرى يشكل
وحده انحيازاً عنها صحبة أخيه الشقيق، الأصغر منه الذي ليس له أي دور فاعل
في سيرورة الأحداث. ومنذ البداية أيضاً، كان الجو العام مهيأ لاشتعال
الصراع بين الإخوة الأقوياء من جهة، وأخيهم الرائي: «رام»، إذ ما إن أخبرهم
بقرب هبوب إحدى العواصف الرهيبة على بلدتهم، ونبههم إلى الاحتماء داخل
الكهوف الصلبة من بطشها، وما أن تحققت نبوءته هذه، وتم بعملية إنذاره
السابق لهم تحقيق نجاتهم ونجاة أهل البلدة بصحبة مواشيهم وأمتعتهم، حتى شبت
نار الحسد في قلوبهم، وحملت الحطب لتعلن ظهورها وامتدادها وتتحول بالتالي
إلى هجوم ضار على هذا الأخ. تمثل هذا الحطب، في محاولة زوجة أحد إخوته
إلصاق تهمة السحر به، وقيامه بمنعها من إنجاب الذكور، وبالتالي فإنها
بعملها هذا، تصرف أنظار الجميع عنها وعلى رأسهم زوجها، وتوجهها إلى «رام»،
وكان لها ما أرادت. أضف إلى هذا، أن «رام» نفسه، كانت لديه رغبة كبرى في
الرحيل عن بلدته والذهاب إلى أرض مصر، ليتعلم فيها فنون الزراعة وينقلها
إلى أهله وعشيرته ليستفيدوا من منافعها ويحققوا بذلك نوعاً من التطور صوب
الحضارة الفعلية، الشيء الذي أعطى إخوته الفرصة الذهبية المناسبة للتخلص
منه، إلا أن الأمور سارت على غير ما خططوا لها، سارت على نحو آخر مغاير
تماماً. إذ أن «رام» لم يقتل، وإنما وصل إلى مصر آمناً مطمئناً، وبيع إلى
أحد أهم قوادها الكبار، بل إلى قائدها الكبير بلا منازع، ودخل إلى معمعان
جديد، معمعان البحث عن المعرفة، وكيفية تحصيلها، فكان أن التقى بالكاهنة
التي أغرم بها وأغرمت به، وهام بها وهامت هي الأخرى به، لكن في أصعب
اللحظات وأحلكها آثر اتباع طريق المروءة، لم يرد أن يخون القائد العظيم،
القائد الشهم الذي أواه وأسبغ عليه حمايته، ولم يرد أن يضيع الوقت في شيء
آخر، مهما سمت قيمته، وينصرف عن تعلم الزراعة التي لم يأت إلا من أجل
تعلمها. فكان أن ابتعد عن الكاهنة الجميلة المتعطشة للوصال والمتأهبة له
منذ زمن بعيد، واعتكف في الصحراء محاولاً أن يبذر فيها حبات الزرع، بدل
بذرها في بطن الكاهنة، وأن يعيد لها الحياة الزاهية المتجلية في الخضرة،
صحبة معلمه المصري الحكيم، الذي قام بتجسيده على أكمل وجه الفنان المقتدر:
«سيد عبدالكريم» وزوجته الصغيرة، المحبة له والمقدرة لقوته وفحولته وأخيها
المتعاطف مع مشروعه الكبير والمساند للطموح الجامح المتأجج في صدره، لقد
كانت الكاميرا هنا، تستنبط خفايا الطبيعة، كانت تظهرها كما أحبت هي أن تبدو
قاسية ورهيبة حد زرع الخوف في أعين رائييها، ممتدة إلى ما لا نهاية.
أن تعرف
عين الكاميرا على هذا الوجه الكئيب للطبيعة، هو وسيلة لتقديم وجهها الجميل
الآخر، الوجه الضاحك، الدال على الحياة في عنفوانها والمتمثل في تلك المياه
المتدفقة بعمق والمشكلة لنهر كبير جداً، كبر آمال «رام» وأحلامه البعيدة،
وفي وسط مياه النهر، تم وتحقق بالفعل زواج «رام» بابنة معلمه المصري
وارتباطه المقدس بها، وبواسطة مياه هذا النهر نفسه، استطاع أن يجعل «رام»
السنابل، تقف متثاقلة بالحب الوفير الذي تحمله في أجوافها، وحين التقى
«رام» من جديد بالكاهنة، كانت اللقيا مريرة، كانت المرأة المتشحة بالسواد
تعلن رغبتها القوية في احتضانه، وكان هو يقف لها ولعواطفها تجاهه بحياد
رهيب، ويقف لنفسه ولعواطفه الذاهبة نحوها بعزم وقوة، حتى لا يضيع رمز الشرف
الكامن فيه، هذا الرمز الذي يحمله داخله والذي هو خير ما أورثه أبوه له.
كما كانت لقياه بقائده جد مؤثرة، القائد يعلن حبه للكاهنة، زوجته، لكنه
عاجز عن إشباع رغباتها الدفينة، وهو يحاول أن يمنعها من جراء ضعفه الجنسي
الواضح، من لوثة السقوط أمام الشاب «رام»، الشاب الذي تبناه ومنحه حمايته،
إلا أن أنفته تمنعه من طلب ذلك منه، فكيف يستطيع إذاً مثل هذا الإنسان أن
يوصل عمق مأساته لغريمه وصديقه في الآن نفسه، كي يشعر بما يشعر به من آلام؟
إنها لحظات عميقة تفوق الممثلون في تجسيدها، تفوقاً كبيراً، إذ استطاعت
الفنانة المقتدرة «يسرا» أن تعيش داخل جسد الكاهنة، وأن تلبس روحها، كما
تمكن الفنان المتميز «محمود حميدة» من تقمص دور القائد، والتعبير عن خلجاته
في شتى المواقف التي تعرض لها، وكان الفنان «خالد النبوي» مقتدراً وهو يؤدي
دور «رام» ويوصل للآخرين ما يختلج في تفكيره من رؤى وما يحققه من أعمال،
ولا ننسى في هذا الصدد الدور الذي قامت به الممثلة «حنان الترك» والذي
لعبته بإتقان.
لقد كانت
تعبر عن الفرحة بصدق كبير، وهي تنظر إلى وجه زوجها «رام» والحسرة تملأ
عينيها وهي ترى جسد أمها يذهب بعيداً عنها دون أن تستطيع دفع ثمن تحنيطه.
إضافة إلى الدور الكبير الذي قام بتجسيده الفنان «ميشيل بيكولي»، إذ نجح في
شكل كبير في رسم طبع الشخصية التي جسدها بطابعها الحقيقي المؤسس على الجمع
بين الوقار وبين الحكمة من جهة وبين التريث والحسم من جهة أخرى، وهو بذلك
منح لهذا الدور، دور أب «رام» بعده الرمزي الجدير به.
إلا أن
الفيلم على رغم كل المميزات التي تحققت فيه، وعلى رغم قوته السينمائية، لم
تتجل فيه عبقرية يوسف شاهين المشهود له بها كاملة، وإنما تحقق جزء منها ظهر
واضحاً في سيطرة الكاميرا على الأجواء التي تقدمها بعمق، وفي التشكيلة
الفنية لتلك اللوحات الخلابة المستمدة من روح الطبيعة الحية والميتة في ذات
الوقت، في حين أن لعبة الحكي فيه بقيت تسير وفق خطية معتادة، ولم يتم
تكسيرها وتشطيرها، كما هي عادة يوسف شاهين في أفلامه السابقة.
الحياة اللندنية في 8
أغسطس 2008
|