رحل
المخرج الاستثنائى يوسف شاهين مخلفا وراءه تراثا سينمائيا ثريا أثرى
السينما بعدد من التحف الفنية التى شهدت على أكثر من عصر، ورغم تنكر البعض
لشاهين واطلاق ادعاءات لا تعبر عنه من قريب او بعيد كالادعاء بان شاهين لم
يعبر عن الطبقة الكادحة والفئات الشعبية المهمشة ما استدعى المخرج الكبير
صلاح ابو سيف ان يطلق عليه المخرج الخواجة، وهذا لا يمت للواقع بشيء ويشهد
على هذا دماثة خلق ابى سيف لان إطلاق هذا التوصيف على شاهين به الكثير من
الاهانة والاستخفاف لانه ببساطة غير حقيقى ؛ فشاهين فى اول افلامه (بابا
امين)عام 1950 تناول حياة موظف بسيط من الطبقة المتوسطة الفقيرة بدليل ان
مشكلته التى تؤرقه كيف يدبر لابنائه حياة كريمة بعد خروجه على المعاش، وجاء
فيلمه الثانى (ابن النيل)1951الذى جسد فيه حياة الفلاح ببؤسها وبيئتها
البسيطة وشخوصها الساذجة التى تعيش على الفطرة.
مرت سينما
شاهين بمراحل أربعة بدأت من الفيلم الاول (بابا امين) 1950.
حتى
(الناصر صلاح الدين) 1963 قدم فيها 15 فيلما تنوعت بين الكلاسيكى
والرومانسى والكوميدى منها (سيدة القطار) بطولة ليلى مراد ويحى شاهين تناول
فيه قصة بسيطة ومعالجة كلاسيكية، و(المهرج الكبير) بطولة يوسف وهبى ويتناول
خلاله قصة بسيطة تقدم رسالة مباشرة مرورا بـ (صراع فى الوادي) الذى يقدم
خلاله صراع الفلاح البسيط الذى يكد ويجتهد من اجل ارضه والبقاء والباشا
الذى يمثل الاقطاع بكل جشعه وقيمه الوحشية فى القمع وتدبير المكائد
والمؤامرات التى تصل للقتل (صراع فى المينا) الذى يتناول نفس التيمة حول
صراع الكيانات الكبيرة بطبقتها الثرية وقيمها، وتدعيم معاونيها وبطانتها من
الطفيليين والصياد البسيط بكل ما يحمله من ضعف وفقر واحلام بسيطة فى توفير
حياة مستورة، و(اسماعيل ياسين فى الطيران) و(انت حبيبي) و(بين اديك) وهى
افلام اجتماعية عالجها كوميديا فكانت الكوميديا فى ارقى صورها خلال المواقف
والمفارقات الطريفة.. كما قدم خلال هذه المرحلة افلاما رومانسية منها (نساء
بلا رجال)، (ودعت حبك)، (رجل فى حياتي)، كما تخلل هذه المرحلة فيلمه (باب
الحديد) 1958، الذى وصل شاهين فيه الى مرحلة النضج، فكان فيلما متقدماً على
السينما المصرية بسنوات، ففى هذا الفيلم تناول ايضا الصراع بين الكبار
وقيمهم الجشعة والعامل البسيط او (الحمال) الواعى الذى يسعى لتشكيل كيان
يجمع الحمالين فى اطار شرعى يضمن حقوقهم خلال نقابة تضم هؤلاء الصغار قصة
قصيرة استطاع خلالها تصوير قطاع من الحياة اليومية لهؤلاء الصغار، كما برع
فى تجسيد شخصية ذلك الفقير المقعد المهمش "قناوي"المصاب بلوثة. وقدم (باب
الحديد) مفاجأة حقاً، ليس لصدقه المتناهى ومضمونه المتميز فحسب، وإنما ـ
أيضاً ـ لأسلوبه الجديد ولغته السينمائية المتقدمة وجمالياته وكان نقطة
تحول فى مشوار شاهين، وتأتى المرحلة الثانية فى مشوار شاهين لتبدأ بفيلم
(الناصر صلاح الدين 1963) حتى ليؤكد يوسف شاهين قدراته السينمائية
والتقنية، حيث يقدم خلاله ملحمة على طريقة أفلام هوليوود الضخمة، عن الحروب
الصليبية التى قادها صلاح الدين الأيوبى ضد أوروبا، مشيراً ـ بشكل واضح ـ
الى عبد الناصر، الذى قاوم أوروبا ـ أيضاً ـ إبان العدوان الثلاثى على
مصر..ولم يكن هذا تملقا ان لكونه بوقا للنظام السياسى ولكن كان لقناعته
وايمانه بالزعيم الذى قاوم بكل قوته _على بساطتها ماديا- ولكنها قوة ارادته
وارادة شعبه الذى آمن معه ولم يخذله فى المقاومة والاستبسال، وفى فيلمه
التحفة الرائعة للاديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى (الارض) الذى ناقش خلاله
صراع الفلاحين ضد الإقطاع. فعبر شاهين بصدق عن هذا الصراع فى فيلمه، وأكد
مقدرته على النفاذ الى أعماق الفلاح وتصوير حياته البسيطة التى تمتزج فيها
المأساة بلحظات الفرح، خلال الفلاح الواعى المناضل الذى يتكشف لديه أثر
الكفاح فيسقطون واحدا تلو الاخر بدءا بالشيخ المثقف الذى يهرب لمصر بعدما
يتأكد انه لن يضار مرورا بالتاجر البسيط الى صغار الفلاحين الذين تحكمهم
الحاجة والعوز، والغريب ان كذب من ادعى ان الرقابة تدخلت لحذف مشاهد من
الفيلم يكشفه ببساطة اى طفل، فلم يكن هناك اى داع لحذف شيء من الفيلم لانه
يتناول الحياة البائسة والقهر الذى يعانيه الفلاح فى ظل الاحتلال والقصر
لهذا فهو ينتصر للثورة التى اعادت لهذا الفلاح كرامته واعزته بقوانينها ومن
هنا يتضح نفاق من يدعى اشياء لن يستطيع احد لديه ذرة منطق ان يصدقها وسيتضح
مغازلته للصهاينة وكل قوى التخلف المعادية للثورة ولنظام ناصر الذى مازال
يُحارب بعد مماته باكثر من ثلاثة عقود ليدل هذا على قوة وعنفوان قيمه
الخالدة.
بعد
(الأرض) أصبحت الرؤية الفكرية والوعى السياسى لدى شاهين واضحين، بل أخذا
يتأكدان من فيلم الى آخر. ففى فيلم (الاختيار ـ 1970) يتأمل شاهين أوضاع
المثقفين وينتقد مواقفهم، وكأنه بذلك يمارس نقداً ذاتياً، حيث يناقش قضية
ازدواجية المثقف ودوره فى التفاعل مع قضايا الجماهير وبدأ شاهين فى هذا
الفيلم باستخدام تقنيات جديدة على المشاهد ما جعلها ملغزة _ان صح التعبير-
وعلى نفس الوتيرة جاء(العصفور) ثم (عودة الابن الضال) حين كان صدى النكسة
وتأثيرها قد أصاب غالبية المثقفين العرب، إن لم نقل غالبية الشعب العربى
فقدم خلالهما رؤية سياسية تحليلية لواقع ما بعد النكسة، كانت مرحلة انتهت
فيها العفوية والتعاطف مع الطبقات الشعبية، وجاءت لحظة الالتزام الحقيقى
والوعى السياسى والاجتماعى.
ثم قدم
شاهين بعدها، فيلم (فجر يوم جديد ـ 1964) متناولاً فيه وضع الطبقة
البرجوازية فى مصر بعد ثورة يوليو 1952. ويعلق شاهين على هذا الفيلم،
فيقول: (...كنت مازلت مثالياً، فتصورت أن الأمل يأتى من داخل البرجوازية
ذاتها)
وفى عام
1967، بدأ شاهين بالعمل فى فيلم (الناس والنيل) وهو إنتاج مشترك مصري/سوفييتى،
عن تعاون البلدين فى بناء السد العالى، ويعد هذا الفيلم خاتمة مرحلة نمو
الوعى الاجتماعى، وبالرغم من أننا لم نشهد هذه اللحظة حينذاك إلا أننا نشعر
كم هى لحظة فارقة ومثيرة للعزة، وفنان بحس شاهين لابد أن يعبر بصدق عنها.
قدم شاهين
فى المرحلة التالية سيرته الذاتية فى (إسكندرية ليه) 1978، و(حدوتة مصرية)
1982، ثم (الوداع بونابرت)، (اليوم السادس)، وعاد ليستكمل مسيرته فى
(إسكندرية كمان وكمان) 1990، (المهاجر) ثم 1994 (المصير)، 1997 وإسكندرية -
نيويورك (2004) اخر حلقة فى ملحمته الذاتية.
عن تناوله
لذاته وانطلاقه من الخاص للعام قال شاهين: "عندما اتحدث عن مسقط رأسى
الاسكندرية ابدأ من مدينتى ثم الى القطر المصرى بحاله ثم العالم العربى ثم
العالم كله _يبقى ياريت- عندها اكون متجها فى طريقة تفكيرى نحو فهم حركة
التاريخ، وحركة الانسان فى التاريخ المعاش، وعندما يقولون اننى اقدم سيرة
ذاتية-طب وماله- فأنا جزء من التاريخ الذى عشته وانا الى حد كبير جدا شاهد
على زمنى ".
نجح شاهين
فى متابعة وتقديم كل ما هو جديد ومتطور فى الأوساط السينمائية العالمية،
كأسلوب وأدوات وتقنية، هذا مع استمراره فى تناول قضايا سياسية واجتماعية
تهم الجماهير وفى فيلمه الاخير (هى فوضي) الذى تناول فيه استبداد السلطة
واستشرف ثورة الجماهير على هذا الاستبداد كان شاهدا على آخر عصر رحل عنه
ليقابل وجه ربه تاركنا فى خضم الاستبداد والقهر.. ورحل شاهين وترك شهادته
على اكثر من عصر.
العربي المصرية في 3
أغسطس 2008
|