كنت ما
أزال على مقاعد الدراسة الثانوية حينما سمعت باسم يوسف شاهين للمرة الأولى،
من خلال برنامج سينمائي إذاعي ثقافي كان يعده ناقد يهتم بالتعريف بالسينما
العربية الواقعية، حيث تحدث كثيرا عن فيلم جديد لشاهين بعنوان ''باب
الحديد'' عدّه نقطة تحول في السينما المصرية الواقعية جنبا إلى جنب مع فيلم
آخر بعنوان ''درب المهابيل'' للمخرج توفيق صالح. بعد عام من ذلك سيتردد اسم
يوسف شاهين بقوة في أرجاء العالم العربي مع النجاح الجماهيري الساحق لفيلم
جديد له بعنوان ''جميلة'' عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، حيث ساهمت
في هذا النجاح الحماسة القومية العربية للثورة الجزائرية ضد الاستعمار
الفرنسي.
في العام
1967 سنحت لي الفرصة للقاء الشخصي الأول يوسف شاهين، وكان ذلك في موسكو،
وتحديدا في الفناء الأمامي للمبنى القديم لجامعة موسكو الواقع وسط المدينة
على مسافة خطوات من الساحة الحمراء الشهيرة. كنت خرجت لتوي من محاضرة عندما
شاهدت فريق تصوير سينمائياً يجري الترتيبات لإخراج مشهد ما. اقتربت من فتاة
من ضمن الفريق ذات ملامح شرقية وحاولت التحدث معها بالروسية غير أنها
أجابتني بلغة عربية ولهجة مصرية أنها لا تفهم ما أقول. عندما علمت هذه
الفتاة أنني عربي وأنني أدرس في هذه الجامعة ركضت نحو شخص نحيل وحدثته بشيء
ما فاتجه نحوي مرحبا وتبادل معي بعض الحديث، واستفسر عن أحوالي وكأنه صديق
قديم، وأبدى اهتماما خاصا عندما أبلغته أنني أدرس السينما، وشجعني على أن
آخذ الأمر بكل جدية، ثم تركني ليتابع ما كان يعمله. كان هذا الرجل هو يوسف
شاهين، وكان يعمل على فيلم، رجاني أن لا أن لا أفشي سره بين الطلاب العرب،
وهو الفيلم المكرس لبناء السد العالي بدعم من الاتحاد السوفياتي، والذي
سيعرف لاحقا باسم ''الناس والنيل''. لم أفهم في حينه لماذا لم يرد يوسف
شاهين أن أبلغ أحدا بوجوده، أكان بسبب حساسية موضوع الفيلم، والذي لن يرى
النور لاحقا، ربما بسبب هذه الحساسية، أم رغبه منه في تجنب ازدحام قد يعيقه
عن العمل ينتج عن توافد الطلاب العرب على الموقع للقاء المخرج العربي
الشهير.
بعد سنوات
من ذلك اللقاء الذي لا أعتقد أنه بقي منه شيء في ذاكرة شاهين، فأنا كنت
مجرد طالب جامعي التقاه لقاء عابرا، سنحت لي فرصة جديدة للتعرف على يوسف
شاهين ولكن هذه المرة في تونس أثناء حضوري مهرجان قرطاج السينمائي في أواسط
سبعينيات القرن الماضي، الذي كان شاهين أحد ضيوفه النجوم. عندما جمعتنا
جلسة مع سينمائيين آخرين ذكّرت يوسف شاهين بلقائي الأول معه في موسكو ثم
أهديته نسخة من كتاب كان صدر لي قبل فترة بعنوان ''بحثا عن السينما'' عن
دار القدس ببيروت والتي أسسها الكاتب والمحلل الصحفي مازن البندك، وقد
أهديته نسخة الكتاب لمجرد المجاملة، وكنت واثقا أنه لن يتصفحه حتى. في
اليوم التالي بادرني يوسف شاهين بتلقائيته المعروفة عنه بشتيمة ودية: ''دا
انت ابن كلب''. سألته ضاحكا: ''لماذا''؟ أجاب بسرعة: ''لم أنم طوال الليل
بسبب كتابك''.
سألتقي
بيوسف شاهين مرارا في السنوات اللاحقة في أكثر من مهرجان سينمائي، ستتاح لي
فرصة الحديث لوقت قصير معه أحيانا، وأحيانا أخرى لن أحظى بهذه الفرصة لكثرة
من يحيطون به. سأكتشف في أحد هذه اللقاءات جانبا آخر من شخصية شاهين
العفوية، فذات مهرجان سينمائي في موسكو طلب مني شاهين أن أحضر معه لقاء مع
أحد مسؤولي المهرجان السوفيات للمساعدة في الترجمة إن اقتضت الحاجة، على
الرغم من وجود مترجم مصري كان مرافقا لشاهين يعيش في موسكو ويحضر لشهادة
الدكتوراه. بعد تبادل المجاملات اندفع شاهين بالحديث حول العلاقات المصرية
السوفياتية والتضامن السوفياتي مع مصر، ثم أخذته الحماسة فبدأ يتحدث عند
جمال عبد الناصر موجها انتقادات لسياسات عبد الناصر الداخلية. كان شاهين
يتحدث بحماسة شديدة وبسرعة كلام لا يستطيع المترجم أن يجاريه فيها ويتنقل
من فكرة لفكرة ومن موضوع لموضوع ولا يتوقف إلا حين يطلب منه المترجم ذلك.
كنت أستمع صامتا دون أن أتدخل فيما كنت أضحك في سري، فقد كان شاهين يقول
أشياء سلبية عن عبد الناصر؛ في حين كان المترجم يترجم كلاما آخر مناقضا
كليا لما يقوله شاهين، فهو كان يدرك أن ما يقوله شاهين لن يرضي السوفيات
الذين كانوا يكنون لعبد الناصر احتراما خاصا ويعدّونه صديقا حليفا لهم. وما
كان ليوسف شاهين الذي كان يتحدث بعفوية ويعبر عن آرائه بصدق وببساطة لا
علاقة لها بالحديث الدبلوماسي المجامل، أن يدرك ما يفعله المترجم الحصيف
الحريص، وأن ما يقوله يذهب أدراج الرياح.
بعد أن
تمرست في مشاهدة أفلام شاهين في السنوات اللاحقة، وكنت قد تحولت إلى ناقد
محترف، وكان يوسف شاهين قد تكرست سمعته كمخرج متميز في العالم العربي
وخارجه وله تبجيل خاص بين السينمائيين في مصر خاصة الممثلات والممثلين
والذين أصبح العديد منهم نجوما بعدما ظهروا في أفلامه، أدركت أنه يصنع
أفلامه بالطريقة نفسها التي يتحدث بها، وربما يعيش بها. أفلام يوسف شاهين،
خصوصا منذ ''العصفور'' وحتى آخر فيلم له تتسم بالعفوية نفسها وصدق القول
غير المجامل، وفيها المواضيع والأفكار الحساسة التي لا يبالي شاهين إن
استفزت أحدا، وهي أفلام يرغب شاهين أن يقول في كل واحد منها كل ما يستطيعه
من قول، لذا يتنقل بين المواضيع والأحداث بالسرعة نفسها التي يتحدث بها،
ويبدو في بعض الأحيان وكأنه يخلط الحابل بالنابل (يصور شابا فلاحا في
''وداعا بونابارت'' يتحدث الفرنسية بطلاقة ويحفظ أشعار كبار شعراء فرنسا
الكلاسيكيين وهو يعمل في مقاومة الغزو البونابارتي، لكنه مع ذلك يصبح عشيقا
لجنرال فرنسي، وفي فيلم ''المصير'' فإن أفضل أصدقاء المفكر ابن رشد وندمائه
هم جماعة من الغجر، وغير ذلك من أمثلة كثيرة).
يخرج
شاهين أفلامه بإيقاع لاهث، ينعكس حتى على طريقة أداء ممثليه. أفلام يوسف
شاهين، هي بهذه الدرجة أو تلك، يوسف شاهين نفسه إنسانا وفنانا، ويتضح هذا
بجلاء من الأفلام الأربعة التي أخرجها يوسف شاهين عن سيرته الذاتية وضمنها
سيرته السينمائية وأفكاره حول السينما بدءا من ''الإسكندريه ليه'' مرورا بـ''حدوثة
مصرية'' و''اسكندرية كمان وكمان'' انتهاء بـ''إسكندرية نيويورك''. يصنع
شاهين أفلامه متتبعا خطى المتنبي الذي كان يكتب أشعارا يختلف الناس جرّاها
ويختصموا، ومع ذلك لا ينكر أنصاره أو منتقدوه أهميته وتميزه وإخلاصه
للسينما التي يعشقها وكرّس حياته من أجلها. لهذا فإن أفلام يوسف شاهين لم
تذهب أدراج الرياح، على الرغم من، أو ربما بسبب المواضيع الشديدة
الإشكالية، أو الصادمة، التي كان يضمنها أفلامه، وهي مواضيع صادمة للسلطات
وللرأي العام سواء بسواء.
(تنشر هذه
المقالة بالتزامن مع مجلة ''الجيل'' اللبنانية).
* ناقد
سينمائي أردني
الرأي الأردنية في 1
أغسطس 2008
|