اعادت
دورة مهرجان ''كان'' السينمائي الدولي للعام 1997 الاعتبار للمخرج الراحل
يوسف شاهين، الذي ودع الحياة مؤخراً عن 82 عاما بعد طول انتظار في ان يقطف
واحدة من الجوائز الكبرى في هذا المهرجان الدولي، بعد ان كاد في مرات سابقة
يعيش وهج الانتصار الاكبر بنيله جائزة مهرجان (كان) الكبرى لكن دون ان
يحالفه الحظ.
اثار
شاهين الكثير من الجدل والافتتان بكل عمل سينمائي جديد يقدمه، فهو طوال ستة
عقود صارع السينما العالمية في اكثر من مهرجان ليكون ندا قويا لها، ويفرض
عليها اعترافا به كسينمائي قادم من صفوف الطبقة الوسطى في مجتمع عربي يمتلك
ثقافة وهوية خاصتين.
بزغ نبوغ
شاهين السينمائي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، في مشهد كان يضم
اسماء: توفيق صالح، كمال الشيخ، وفطين عبد الوهاب، وهو الجيل الذي بدأ
حياته السينمائية مع بوادر التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي
جاءت بها ثورة يوليو 1952. وتميز شاهين بوضع خاص بين ابناء جيله، وفي تاريخ
السيما المصرية والعربية بوجه عام، فقد استطاع ان يكون نموذجا فريدا على
الصعيدين المصري والعالمي للفنان السينمائي الملتزم، صاحب الرسالة، وكان
عليه، بالطبع، ان يدفع ثمن ذلك.
ولد شاهين
في مدينة الاسكندرية العام 1926 لأب كان يعمل بالمحاماة ولأسرة مسيحية
تنتمي للبرجوازية الصغيرة، استطاعت ان تيسر له الدراسة في كلية فكتوريا
التي كان يدرس فيها اولاد الموسرين، ومن بين زملائه في الكلية كان ميشيل
شهلوب الذي اكتشفه شاهين وقدمه باسم عمر الشريف، والراحل رشدي اباظة، واحمد
رمزي، والمخرج الراحل شادي عبد السلام صانع التحفة السينمائية
''المومياء''.
بعد
دراسته في كلية فكتوريا، تملك شاهين هوس السينما، وأصر رغم الحالة لمادية
الصعبة التي بدأت اسرته تعاني منها، على السفر الى الولايات المتحدة لدراسة
السينما التي كانت بالنسبة له، آنذاك، اكبر مصنع للاحلام في العالم، ورأى
ان هذا الحلم لا يمكن ان يتحقق الا بالانتقال الى ''هوليوود'' لا غيرها.
بعد عودته
الى موطنه، ولم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين، حقق شاهين باكورة حلامه
السينمائية الطويلة ''بابا أمين'' العام 1950، وبعد عامين انجز شريطه
لروائي الثاني ''ابن النيل''، وفي اعقاب قيام الثورة اخرج فيلمه ''صراع في
الوادي'' لعام 1954.
ومع تسارع
المد القومي آنذاك حقق شاهين واحداً من أشهر افلامه الطويلة وهو ''جميلة
بوحريد'' العام 1958، وهو عن محاكمة لامرأة عدت من ابرز ابطال الاستقلال في
الجزائر، وفي العام نفسه اخرج فيلمه ذائع الصيت ''باب الحديد'' الذي غدا
واحدا من اشهر كلاسيكيات السينما العربية، بعد ذلك انجز شاهين شريطه
التاريخي ''الناصر صلاح الدين'' العام 1963، وهو ليس مجرد فيلم تاريخي فقط،
وانما اتى بدلالات قوية واضحة ومعاصرة رغم ان احداثه تدور في حقبة زمنية
تحكي عن فترة القائد صلاح الدين الايوبي وانتصاراته على الصليبيين وتحرير
الاراضي المقدسة، وفي الفيلم تبرز مدى اهمية وحدة العرب في صنع التحرير
وطرد المستعمر.
وكان
شاهين أظهر الناصر صلاح الدين لا رجلَ قتال فحسب، بل بوصفه طبيبا ورياضيا
ورجل دولة وفيلسوفا انسانيا دارت معركته الرئيسية ضد الحملات الصليبية على
الشرق. وجاء فيلم ''الناصر صلاح الدين'' وفق انتاج تاريخي ضخم يخلو من
التعصب الديني، مركزاً على احترام المسلمين للآخرين، ومبتعداً عن اي
شوفينية، وهو يصور مظاهر الخداع والدسائس والمؤامرات والجشع الذي اتسم به
تجار وزعماء اوروبا ذوو الاطماع المتلاقية احيانا والمتنافسة احيانا اخرى،
وتفادى فيه يوسف شاهين ان يصور الصليبيين كأشرار والعرب كأخيار.
ادار
شاهين باقتدار مجاميع من الممثلين والكومبارس يزيد عددهم على الآلاف دون ان
يسقط في الفخ الهوليوودي وابهاره الزاعق، وفي مشهد الهجوم على الحجاج
المسلمين وذبحهم نراه يعبر عن المشهد دون ان يراه المشاهد باللجوء الى
استخدام ملابس الحجاج ناصعة البياض ينساب عليها الدم الاحمر عقب الهجوم
مباشرة، وكانت لقطة تشكيلية فائقة النجاح والاختزال، ففيها نشعر بمدى بشاعة
المذبحة خصوصا عندما تتلطخ معظم اجزاء الشاشة بدفقات الدم وبفعل راية منكسة
للاعداء، واخرى اهترأت بفعل حوافر الخيول التي دهمتها. يعبر الفيلم عن
جريمة العدو في احدى المعارك، ويهتم يوسف شاهين بتفاصيل لقطاته ومسار
الحركة داخل الكادر، ولا يأتي هذا الاهتمام لأسباب جمالية فحسب، ولكن
لأهداف فكرية في المقام الاول.
ساهم في
نجاح الفيلم مشاركة الروائي نجيب محفوظ في كتابة السيناريو، الى جانب تصميم
شادي عبد السلام للملابس، وتجهيزات العمل المدهشة في حرفيتها بليغة
المستوى.
فيلم
''الناصر صلاح الدين'' درة من درر السينما المصرية والعالمية، وفيه بلغ
يوسف شاهين في حقبة انتاج الفيلم في بداية الستينيات مرحلة تتسم بالنضج
والاكتمال، كانت خطوته الاساسية في الاتجاه نحو آفاق جديدة تهيأت له فيها
الامكانات الفنية والمادية، وبلغ انتشاره خصوصا الجماهيري على طول امتداد
الساحة العربية، لينطلق نحو الشهرة العالمية.
عدّ كثير
من النقاد العرب والعالميين فيلم ''الناصر صلاح الدين'' بمثابة تحول كبير
في ميدان الصناعة السينمائية العربية، ومن اهم الانجازات البصرية والاعلاء
من ارادة التغيير.
بعد هزيمة
الخامس من حزيران 1967 بدأ الوعي السياسي لدى شاهين يأخذ مسارا آخر انعكس
على افلامه، فقدم فيلمه ''الارض'' العام 1970 الذي بلغ فيه قمة نضوجه الفني
والفكري والجمالي معا. يستمد الفيلم احداثه عن رواية للكاتب عبد الرحمن
الشرقاوي يتناول فيه المخرج يوسف شاهين صراع مجموعة من الفلاحين البسطاء في
قرية صغيرة ضد قوى الاقطاع والاستعمار عندما يتم تقليص فترة ري حقولهم من
عشرة ايام الى خمسة، مما يجعلهم يتكاتفون ضد هذا القرر ويرسلون بمناشدة
للمسؤولين تطالبهم العودة عن هذا القرار المجحف بحقهم، لكنهم لا يلقون
آذانا صاغية مما يدفعهم للجوء الى القوة في تغيير مسرى المياه الى حقولهم
لتقوم قوى الهجانة بقمعهم بقسوة شديدة وضربهم بالسياط والكرابيج واعتقال
بعضهم وعلى رأسهم الفلاح محمد ابو سويلم الذي يقوم بدوره محمود المليجي في
واحد من اجمل افلامه على الاطلاق. وبعد خروجهم من السجن يقوم احد
الاقطاعيين الكبار بمحاولة شق طريق بين قصره والمدينة يمر من وسط اراضي
المزارعين الذين يواجهون هذا المشروع بمقاومة عنيفة، وينتهي الفيلم وسط
تشبث الفلاح ابو سويلم بأرضه ويداه ملطختان بالدم النازف على حقول القطن
وقد جرته خيول المستعمر بقسوة ووحشية.
يتناول
فيلم ''الارض'' الظواهر والابعاد للتناقضات الطبقية التي حكمت المجتمع
الريفي في مصر خلال حقبة الثلاثينيات الحالكة من تاريخه، ولكن هذه الصورة
القادمة من الماضي القريب تتحدث ايضا عن صفحات من الواقع المعاصر باتصال
متين وتلقي عليه ظلالها.
يصور
شاهين ايضا نماذج من المصالح الشخصية عندما تصبح عائقا امام حركة المجاميع،
فهناك الفلاح الذي يخون زملاءه، والتاجر الذي لا يهمه سوى الربح حتى لو كان
عن طريق استغلال الفلاحين، ورجل الدين الذي يترك المواجهة ويغادر الى
المدينة.
ورغم فشل
المقاومة في فيلم ''الارض''، إلا أنه يستخلص دروسا مستفادة تجعل منه واحدا
من افضل الافلام العربية المتميزة، حيث يثبت فيه شاهين تمكنه من ادواته
الفنية وتقديمه فيلمه عبر لغة سينمائية حرفية متقنة الصنع وفي ايقاع عذب
ومتين للاجواء الريفية في استخدام متمكن وجذاب لمختلف العناصر الصوتية
والبصرية.
وبقي
شاهين وفيا لأفكاره وبيئته الاجتماعية والثقافية، فأخرج ''الاختيار'' العام
1971، ثم ''العصفور'' العام 1973، و''عودة الابن الضال'' العام 1976، وحاول
في هذه الثلاثية السينمائية ان يتناول العلاقة بين المثقف والسلطة والمجتمع
في اعقاب هزيمة حزيران.
ويعد
''العصفور'' احد ابرز اعمال السينما المصرية التي جسدت مقدمات هزيمة حزيران
1967 وجسدت رفض الشعب للهزيمة من خلال تمسكه بالنصر والقتال لتحرير ما احتل
من الارض على سلسلة من الاحداث التي قادت الى هذا الوضع الصعب الذي عاشه
الناس، ونماذج مختارة من ضابط شرطة يتأقلم مع الفساد الآخذ بالانتشار على
جوانب الحياة. هناك ايضا صحفي جريء يكشف التناقضات والى جانبه شاب يتفجر
وطنية وساخط على الوضع المتردي داخل بلده وجميعهم يلتقون في بيت ''بهية''
(تؤدي الدور محسنة توفيق) ويتحرك بينهم موظفون صغار التهمتهم حياة الفساد
والخضوع لمباهج الحياة الزائفة والرخيصة على حساب انتمائهم لبلدهم في مرحلة
حاسمة تشهد تحولات جذرية.
علاوة على
قيمته الفنية السينمائية يتميز الفيلم بأهميته ونقائه كعمل سينمائي سياسي
مهم، خصوصا في الدقائق الاخيرة منه، التي كانت من اجمل واقوى واصدق المشاهد
السينمائية التي حققها يوسف شاهين، حيث يصور فيها أثر الهزيمة على افراد
الشعب العربي واكتشافهم حقيقة وقوعهم ضحية الوسائل الاعلامية الكاذبة قبل
الحرب واثناءها مما قادهم وبإصرار الى قبول ذلك التحدي، وتنطلق صرخات رفض
الهزيمة والاصرار على النصر في اجواء ملحمية وشاعرية مفعمة بالحماسة جاءت
دليلا على وعي الفنان لقضايا شعبه وامته وايمانه بحتمية الانتصار على اعداء
الداخل والخارج.
واذا كان
''العصفور'' شهد تصعيدا في نبرة يوسف شاهين المنددة بالهزيمة، فإنه شهد في
الوقت نفسه امعانا في التعقيد والتركيب جعل من الصعوبة على المشاهدين
متابعة قضاياه الشائكة المجتمعة في عمل أخاذ ذكي وشاعري يتفوق بشكل بعيد
على جميع أعماله السابقة من جهة قابليته لأكثر من قراءة وعلى اكثر من
مستوى.
ظل فيلم
''العصفور'' مصادرا من الرقابة المصرية لأكثر من عامين ولم يسمح له بالعرض
الا بعد قيام يوسف شاهين بوضع تتر وعنوان جديد في بداية عناوين الفيلم
تقول: ''ان العصفور لم يستطع ان ينطلق لولا الانطلاقة الكبرى للانسان
المصري يوم 16 اكتوبر العظيم!''.
في العام
1978 قدم شاهين فيلم ''اسكندريه ليه؟'' الذي يمكن عده رؤية لسيرة ذاتية،
تنبع من خيال فنان مبدع وتصور رغبة شاب في دراسة السينما خارج بلده في مكان
بعيد مثل اميركا، وسط دهشة واستهجان اقرانه في هذا الفيلم يعبر شاهين عن
فكرة التعايش بين الاديان الثلاثة، من خلال العلاقة بين الشاب وصديقه
اليهودي، وهي علاقة تتحطم مع وصول قوات ''رومل'' الى مشارف (العلمين) ثم
هجرة الاسرة اليهودية وتفرق ابنائها.
يشكل
''اسكندرية ليه؟'' رؤية سينمائية مفعمة بالشخصيات والاحداث، ويحتوي الوجوه
والمناخات عن مدينة الاسكندرية 1942 جامعة الاجناس متفاوتة الثقافات وحاضنة
التنوع الغزير في الاهداف والرؤى. انها الاسكندرية ابان الحرب العالمية
الثانية ومعركة العلمين وانعطافة على ذكريات وسيرورة الفتى الذي يحلم أن
يشق طريقه نحو عالم السينما والفن رافضا ان يكون مطية للتقاليد السائدة
وفيضا من احلام المراهقة الآتية من احلام عائلة صغيرة تعاني جنون العنف
الذي اجتاح محيطها، واحلام اثرياء الحرب ومستغليها واحلام الوطنيين
المشوشة، وهناك في المقابل قطبا الصراع الدولي في احراز النصر من ألمان
واميركان.
في هذا
الفيلم نلمح صورة يحيى الشاب المشغوف بالتمثيل ورغبته في دور ''هاملت'' على
خشبة المسرح وثنائي حب مستحيل بين احمد زكي ونجلاء فتحي التي تمثل دور فتاة
يهودية تذهب مع والدها (يوسف وهبي) الى فلسطين هربا من الفاشية التي صارت
على ابواب الاسكندرية، ثم لا يلبثان ان يعودا بعد اصطدامهما بالمشروع
الصهيوني ولا يجدان الامان سوى في مسقط رأسهما ''الاسكندرية''. هذا الجانب
من الفيلم اثار الكثير من اللغظ على الفيلم ومخرجه وادى الى منع الفيلم في
اكثر من عاصمة عربية ابان فترة انتاجه.
في
''اسكندرية ليه؟'' هناك صراع مستمر لشرائح عديدة داخل المجتمع تقفز من فترة
الى اخرى ومن موقع الى آخر يحمل كثير من الافكار التي تتدفق على طول شريط
الفيلم، تدين، تناقش، تسأل، تجيب، تقف عند الحدث ثم تتخطاه، وفي النهاية
تؤدي هذه العناصر الى ما يشبه النتيجة الحتمية لمصائر شخوصها المتناقضة في
الآمال والاهداف.
من هذه
القراءة السريعة لواقع مدينة الاسكندرية واسرة الشاب يحيى وتلك النماذج
الانسانية التي تتحرك وسط مساحة من الاحداث نصل الى نتيجة الرؤية التي
يطرحها يوسف شاهين في الفيلم، وهي رؤية انسانية للصراع.
واذا كان
شاهين بإثارته التعاطف لدينا ازاء شخصياته البرجوازية الصغيرة وازاء احلام
بطله بالذهاب الى اميركا قد اعطى الفيلم طابعا قابلا للنقاش فإنه في الجانب
الآخر وفي اسئلته العديدة التي يثيرها العمل حول مسألة الحرب والسلام، طرح
بجرأة غير مسبوقة، اخطر الاسئلة التي يمكن لسينمائي عربي ان يطرحها بحيث
قادته الى ان يصل إلى ما أصبح عليه الآن من مرتبة رفيعة عن سائر
السينمائيين العرب صوب التحليق في فضاءات السينما العالمية.
يواصل
شاهين مسيرة حياته بفيلميه اللاحقين: ''حدوتة مصرية'' 1982 و''اسكندرية
كمان وكمان'' 1990، والنتيجة: ثلاثية سينمائية آسرة وممتعة، جريئة وكاشفة
لعلاقته المضطربة مع اسرته في حالة غير مسبوقة في السينما العربية لعرض
سيرة ذاتية فيها مثل هذه الخصوصية التي تصل حد الجلد الذاتي في الاتهام
والتجريح.
ومن
الضرورة بمكان الاشارة الى قيامه بإخراج اكثر من عمل سينمائي ابان اشتغاله
على هذه الثلاثية، حيث حقق فيلمين آخرين هما ''وداعاً بونابرت'' العام 1984
و''اليوم السادس'' العام 1986، وحاول في ''وداعاً بونابرت'' طرح رؤية
معاصرة في موضوع الغزو الفرنسي لمصر اواخر القرن الثامن عشر بزعامة نابليون
بونابرت وصور فيه علاقة المصريين بقوات الحملة، ناقدا بشدة جناح المقاومة،
بسبب اعتماده على وسائل بدائية في التصدي مخفظا الى حد بعيد من الاعمال
الهمجية التي قام بها الجنود الفرنسيون عبر تصويره علاقة صداقة وتحد بين
شاب مصري متسلح بالعلم والمعرفة ومهندس الحملة الفرنسية التي اضفى عليه
شاهين سمات انسانية.
يعود
شاهين في ''اليوم السادس'' الى فترة الاربعينيات، زمن انتشار وباء الكوليرا
في طموح لتصوير رؤيا عبثية لنهاية العالم، معتمدا على قصة لكاتبة فرنسية من
اصل مصري هي (اندريه شديد) واسند دور البطولة فيه الى مغنية فرنسية من اصول
مصرية ايضا هي (داليدا) الى جانب بطل افلامه منذ ''اسكندريه ليه؟'' محسن
محي الدين.
وثارت
العام 1991 ضجة كبيرة في الصحافة المصرية لدى عرض شاهين فيلمه القصير
والبديع ''القاهرة منورة بأهلها'' في مهرجان كان السينمائي، ووصل الامر الى
حد المطالبة بمنع عرض الفيلم داخل مصر، بل معاقبة مخرجه والتحقيق معه بتهمة
الاساءة الى سمعة البلاد! والفيلم مشروع تقدمت به القناة التلفزيونية
الفرنسية طالبة منه تقديم شهادة برؤيته الخاصة لمدينة مزدحمة مثل القاهرة
ابان فترة شهدت تحولات سياسية مهمة هي ''حرب الخليج الثانية''.
في العام
1995 وجد يوسف شاهين في فيلمه ''المهاجر'' ما يوازي بين حياته الخاصة وبين
الشخصية التاريخية المأخوذة، في اجزاء كثيرة منها، عن قصة النبي يوسف عليه
السلام ليتتبع فيها مسارا شبيها بالمزاوجة ما بين الرؤية المعاصرة للتاريخ
واستنطاقه، وقد جر عليه ذلك كثيرا من الدعاوى القضائية من اطراف اجتماعية
متعددة.
وسعى
بفيلمه ''المصير'' 1997 الذي صور في اكثر من سوريا، لبنان، فرنسا واسبانيا،
لتقديم رؤية جريئة لواقع شبيه بماض تاريخي وبحث دؤوب عن العلم والمعرفة
والحياة من خلال شخصية الفيلسوف العربي ابن رشد الذي عاش حياة ثقافية
وفكرية ثرية وترك بصماته على الفلسفة الاوروبية، وفيه يعيد للسينما العربية
شيئا من بريقها الذي فقدته عقب فوز الجزائري محمد الاخضر حامينا بالسعفة
الذهبية في منتصف السبعينات في مهرجان (كان) السينمائي. ويذهب شاهين في
فيلمه هذا الى قطاع عريض من المشاهدين بخلاف توجهات افلامه السابقة التي
خاطب فيها النخبة منذ فيلمه الشهير ''العصفور'' 1971.
ظل شاهين
يقدم انجازاته في الاتجاه نحو سينما تفكر او سينما تسعى لتقديم الفكر
والمتعة الفنية في آن، وتطمح الى تغيير الادوار السائدة للمشاهدين ولو عن
طريق الصدمة البصرية.
قطع شاهين
شوطا على طريق تحرير اداته السينمائية وتحويلها الى وسيلة لتناول الواقع
الذي يعايشه، من خلال رؤيته الذاتية الخاصة، لكنه بفيلم ''سكوت ح نصور''
يعود ليعكس اجتهاده الخاص في فهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية في مصر اليوم، ويتابع التطورات على مجموعة من
الشخصيات المحورية التي اختارها: الجدة سليلة الطبقة البرجوازية (ماجدة
الخطيب) بكل ما لديها من طموحات وفطنة والباحثة عن الحياة والبهجة والسعادة
ولو في اخر لحظات حياتها، والتي تعيش داخل قصر فخم نفيس بمقتنياته
المتوارثة ومعها ابنتها المغنية ملك (لطيفة) الباحثة عن ذاتها في عالم
الشهرة والنجوم، والتي هجرها زوجها وتقيم علاقة مع شاب محتال وانتهازي يرغب
في الاستيلاء على ثروة العائلة (يؤدي الدور احمد وفيق) كنموذج لأحد افرازات
العولمة الجديدة الخالية من القيم والمشاعر الانسانية، إذ لا يأبه الا
بطموحاته المادية في الثراء السريع ولو عن طريق الخداع والكذب والادعاء.
غير ان
الشخصيات التي يختارها شاهين تنتهي كلها الى مصير معلق ورهنا بالتحولات
القادمة وتوضع في مواقف كوميدية وبدعابات تسخر من الواقع، لكن اهم العناصر
التي يشكل منها شاهين فيلمه هي الموسيقى والغناء في محولة لجذب اكبر عدد
ممكن من المتفرجين، وهو المخرج الذي كان قطاع واسع من المشاهدين يصد عن
افلامه بدعاوى صعوبة فهمها وكونها تحاكي قضايا شائكة على فهمه، لكن شاهين
في معرض جذبه لهؤلاء المشاهدين عرف كيف يصنع حبكته السينمائية الاجتماعية
والسياسية الناقدة والتصالحية احيانا والتي تعدّ تطويرا خلاقا لكل افلامه
السينمائية الاخيرة لما تتضمنه من الرموز الاشارات والدلالات لمفاهمين
الواقع المثقل بهموم العولمة والقضايا الاجتماعية الملحة في رؤيا ذاتية
تنبع من خيال موضوعي في تركيبه من الغناء والموسيقى، وتحية للسينما عموما
صانعة البهجة والسحر والاحلام مثله الاعلى نجوم السينما في الرقص والغناء
في حقبة الاربعينيات. وبصعوبة شديدة ينجح في انجاز لوحات كاملة الاتقان لا
توفرها ميزانية الفيلم التي تتطلب اوركسترا سمفونية كاملة ترافقه طوال
التصوير ويلجأ الى توظيف احدى اللوحات الموسيقية الراقصة من احد الافلام
الكلاسيكية الشهيرة بهذا النوع ولكنه لا يتوانى عن توجيه النقد للذوق الذي
افرزته ''الاغنية الشبابية''، عندما يحصل ظرف طارئ لوالدة المغنية فإنها
تغادر المسرح الذي يطل على آلاف الشباب ويحل محلها الشاب المخادع الذي يقدم
اغنية وسريعا يتعاطف جمهور الشباب مع الاغنية ويأخذون بالتراحم على المطرب
المخادع في نقد لاذع لما آلت اليه الموسيقى والغناء اليوم، لكن في المقابل
كانت المغنية على فراش والدتها تؤدي اغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة ''ليلة
الوداع'' في مقارنة لا اروع ولا احلى بما تتضمنه من تباين في الاذواق
والعلاقات في طريق البحث عن الخلاص بالحب والغناء.
وعلى
عادته دائما، يبرز عند شاهين دور الممثل . و''سكوت ح نصور'' من الافلام
القليلة التي جازف فيها شاهين باختيار مطربة مثل التونسية لطيفة لاداء
الدور الرئيسي والى جوارها الممثلة ماجدة الخطيب في اهم ادوارها على الشاشة
البيضاء وهو دور العمر لكليهما. وتبرز ايضا قدرة شاهين على ادارة المجاميع
والرقصات والمشاهد المأخوذة في المسرح وجمهور النظارة او في شاهد انفاق
المترو والقطار وداخل الاستوديو، اي اخراج فيلم داخل فيلم.
في الجزء
الاخير من رباعيته عن مدينة الاسكندرية الذي اطلقه تحت عنوان '' اسكندرية
نيويورك '' حاكى شاهين غاضبا تداعيات احداث 11 ايلول 2001. وقد صور احداث
فيلمه في الولايات المتحدة وتحديدا في ولايتي كاليفورنيا ونيويورك حيث
المعهد السينمائي الذي درس فيه. ويبدو عمله هذا نتاج علاقة مركبة بينه وبين
اميركا التي نال فيها تعليمه السينمائي، واثار شغفه فيها تلك الانواع
والنماذج السينمائية التي كانت تقدمها آنذاك صناعة الافلام الهوليوودية
والتي اخذت جانبا من حياته عبر احتكاكه بصناعها ونجومها والمنتجين والناس
هناك، حيث استحوذت جمالياتها على اعماله الاولى.
واكد
شاهين في عمله الاخير ''هي فوضى'' على انحيازه الى البسطاء في واقعهم
اليومي وفق اسلوبية مغايرة لأفلامه السابقة بحيث استطاع ان يقدمه بافتتان
بليغ لا يخلو من الجرأة التي دأبت عليها مسيرته السينمائية الطويلة بما
تحمله من ثراء فني وخصوبة فكرية ورؤية ناضجة للواقع والتي تمكنت ان تحفر
لصاحبها المكانة اللائقة بين افذاذ صناع الفن السابع بالعالم.
* ناقد
سينمائي وصحفي أردني
الرأي الأردنية في 1
أغسطس 2008
|