من الصعب
ان تجد مخرجا كبيرا في صناعة السينما في العالم أجمع ليس له
موقف فكري وسياسي وانساني ناقد للواقع وراغب وعامل علي تغييره فرسالة الفن
عند
هؤلاء تتعدي التسلية وحتي القيم الجمالية المجردة انه المعبر
عن هموم الانسان وشوقه
وتوقه للمثال والكمال وتتعدد وتتفرق بعد ذلك السبل بين هؤلاء المبدعين
الكبار
لتحقيق هذا الهدف وتلك الرسالة بل وتختلف عند بعضهم من مرحلة الي اخري لكن
شعلة
التمرد تبقي الجوهر والمحرك ويوسف شاهين واحد من هؤلاء وهو
بالقطع النموذج والمثال
للمبدعين الكبار علي مستوي السينما العربية مهما اختلفت الآراء حول أعماله
أو اختلف
البعض مع أفكاره فهو في كل الأحوال كان صادقاً مع نفسه ومع ما
يعتقد لم يضبط يوما
ينافق نظاما ولا حاكما ولا قيما سائدة يرفضها فرغم حبه لعبد الناصر وإيمانه
بثورة
يوليو إلا انه لم يتردد في نقد النظام في افلام مثل العصفور والاختيار
وعودة الابن
الضال ووصل خلافه مع نظام السادات - مبارك الي حد الصدام ليس
في الأفلام فقط بل في
مشاركته في المظاهرات الرافضة للتطبيع والمنددة ببعض سياسات النظامين
القمعية ومما
لا
يخلو من دلالة ان يكون آخر أفلامه هي فوضي الذي حققه بعد أن تجاوز الثمانين
من
عمره هو أعنف الأفلام في نقد تغول الأجهزة الأمنية وانتهاكها
للحريات وحقوق الانسان
وأكثرها مباشرة ودعوة للتمرد.. ولم يقتصر تمرد يوسف شاهين علي السياسة
والسلطة بل
تجاوز ذلك نقد النفاق الاخلاقي في المجتمع والفوارق الطبقية والاستغلال كما
في
الأرض والاختيار وباب الحديد وقدم وهو الذي ولد مسيحيا نقداً
لاذعاً للفكر التكفيري
وأظهر الوجه المشرق للحضارة الاسلامية في فيلمه المصير وفي مجموعة أفلامه
التي قدم
فيها سيرته الذاتية رغم انها لم تلق قبولاً نقدياً علي المستوي
العربي علي عكس
الغرب وكان من الشجاعة بحيث يتعري ويكشف نقاط ضعفه وعقده وهو الأمر الذي لم
نعتده
في
شرقنا العربي المحافظ وصدم خلالها الكثيرين من النقاد والجمهور وتعرض في
أفلام
حدوتة مصرية واسكندرية ليه و اسكندرية كمان وكمان و اسكندرية
نيويورك لعلاقته
المركبة بالغرب عموماً وأمريكا بشكل خاص تلك العلاقة التي تجمع بين الحب
والاعجاب
والرفض والعداء. فكان بذلك صادقاً مع نفسه ومعبراً عن تلك العقلية
السكندرية
الكوزموبوليتانية التي سادت في حقبة ما قبل ثورة يوليو.. ولم
يقتصر ابداع يوسف
شاهين علي انتاجه السينمائي المنسوب له بل تخطاه الي تخريج جيل من
المخريجين
المبدعين من عباءته كان من أشهرهم داود عبدالسيد ورضوان الكاشف وخالد يوسف
الذين
عملوا معه كمساعدين واذا كان البعض اتهم يوسف شاهين بالسيطرة
علي الممثلين الذين
يعملون تحت ادارته وصبغهم بصبغته في الأداء فإن هذا لا ينطبق علي المخرجين
المبدعين
الذين تخرجوا من مدرسته وشق كل واحد منهم طريقه وأبدع طريقته وأسلوبه الخاص
ولم
يتحول الي نسخة أو مسخ من هذا المبدع.. لقد جمع يوسف شاهين في
شخصيته وفي ابداعه
بين صفتي البحر المتوسط فهو مولود في الاسكندرية لأب لبناني مهاجر وأم
يونانية وقد
تزوج من فرنسية.. ورغم ذلك ظل مؤمنا ووفياً للقضايا العربية عموما وخصوصا
قضية
العرب المحورية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي.. وقدم وهو
المسيحي قراءة تاريخية
رائعة ومنصفة للحروب الصليبية في فيلمه الناصر صلاح الدين كما قدم موقفه
القومي
المساند لحرية الشعوب في جميلة بوحريد وظل يوسف شاهين منذ أول أفلامه وحتي
آخرها
صاحب نزعة يسارية اجتماعية تتعاطف مع الطبقات الشعبية وهمومها
وأحلامها ورغم احتفاء
الغرب به ومنحه أرفع الأوسمة والجوائز في مهرجان كان ومهرجان برلين وحصوله
علي
تمويل سخي لعدد من أفلامه إلا أنه لم يهادن هذا الغرب للحظة حين يتعرض
الأمر
بالتاريخ الاستعماري أو اجحاف الحضارة العربية حقها وتلقت
السياسة الأمريكية من
شاهين العديد من الصفعات سواء في أفلامه الذاتية أو في فيلمه الأخطر عن
الارهاب
وعلاقة امريكا به وهو فيلم الآخر .. لقد عاش يوسف شاهين.. وابدع كمتمرد
أصيل ورحل
دون أن يترجل عن صهوة جواد هذا التمرد..
الراية القطرية في 31
يوليو 2008
|